وفيكم سمّاعون لهم
الكذابون كثيرون، والسمَّاعون لكذبهم أكثر، فريق يكذب ومجموع يسمع، وإذا كان الكذب خطيرًا، فالاستماع له أخطر، والمترتب على السماع أثره أعظم؛ دعوات سوداء وحملات شعواء، ونخب حمقاء، لسان حالها: اكذب الكذبة مائة مرة تصدقها، وتبث هذا الكذب وتروِّج له قنوات فضائية، وجرائد صفراوية، تواطأت على الكذب، وقبضت ثمن الزيف، فهي تنبح ليلَ نهارَ ضد الإسلام والمسلمين.
والقرآن يشير لهذا المرض في أكثر من موضع: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42]، يتغذَّون على الحرام، ويتعاملون بكذب الفعل والكلام، ولا يقبلون بالصادقين من أهل الإسلام، فاسدين مثل هؤلاء الأقزام؛ {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:34].
يبيعون كذبهم بثمن بخس، ويملئون بطونهم بغذاء نحس، ثم ينقُلُ عنهم ويمشي في ركابهم آخرون، {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:41]، فيسمعون ليكذبوا، ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك، فيكونون كذابين ونمامين جواسيس، وما أكثرهم في مجتمعاتنا، ربما ينتمي إليهم السذَّج والبسطاء، فضلًا عن الأحبار والرهبان، بنص القرآن: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47](1).
أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
قال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم(2).
كل ذلك لضرب الإسلام وقمع المسلمين ومحاربة الدين، وهذا ليس الآن فقط، وإنما من قديم الزمان، فقوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} فيه قولان:
الأول: المراد فيكم عيون لهم، ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، وهذا قول مجاهد وابن زيد.
والثاني: قال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم، فإذا ألقوا إليهم أنواعًا من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها، وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي.
فإن قيل: كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد؟
قلنا: لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم، ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب، فيؤثر قولهم فيهم، ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين، فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم، فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم، ولا يمتنع أيضًا أن يقال: المنافقون على قسمين: منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد، ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات، والله أعلم(3).
قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ أي في جماعة المسلمين؛ أي: من بين المسلمين سماعون لهم، فيجوز أن يكون هؤلاء السماعون مسلمين يصدقون ما يسمعونه من المنافقين، ويجوز أن يكون السماعون منافقين مبثوثين بين المسلمين.
وهذه الجملة اعتراض للتنبيه على أن بغيهم الفتنة أشد خطرًا على المسلمين؛ لأن في المسلمين فريقًا تنطلي عليهم حيلهم، وهؤلاء هم سذج المسلمين، الذين يعجبون من أخبارهم، ويتأثرون ولا يبلغون إلى تمييز التمويهات والمكائد عن الصدق والحق.
وجاء سماعون بصيغة المبالغة للدلالة على أن استماعهم تام، وهو الاستماع الذي يقارنه اعتقاد ما يسمع؛ كقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:41]، وعن الحسن ومجاهد وابن زيد: معنى سماعون لهم؛ أي: جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، وقال قتادة وجهور المفسرين: معناه: وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم، قال النحاس: الأغلب أن معنى سمّاع يسمع الكلام، ومثله {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41] .
وأما من يقبل ما يسمعه فلا يكاد يقال فيه إلا سامع، مثل قائل.
وجيء بحرف (في) من قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} لهم الدال على الظرفية دون حرف (من)، فلم يقل ومنكم سماعون لهم، أو ومنهم سماعون؛ لئلا يتوهم تخصيص السماعين بجماعة من أحد الفريقين دون الآخر؛ لأن المقصود أن السماعين لهم فريقان، فريق من المؤمنين، وفريق من المنافقين أنفسهم، مبثوثون بين المؤمنين لإلقاء الأراجيف والفتنة، وهم الأكثر، فكان اجتلاب حرف (في) إيفاءً بحق هذا الإيجاز البديع، ولأن ذلك هو الملائم لمحملي لفظ سماعون، فقد حصلت به فائدتان(4).
وفيكم أناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم والعقل كثيرو السمع لهم؛ لاستعدادهم لقبول وسوستهم، وقيل: أناس نمامون يسمعون لأجلهم ما يعنيهم من أقوالكم فيلقونها إليهم، وهو بعيد وإن رجحه الطبري وقدمه الزمخشري، وسمّاع، التشديد صيغة مبالغة، لا يختص بما قاله الطبري فيها؛ فإن أولئك المنافقين الذين استأذنوا لم يكونوا معروفين متميزين بحيث تكون لهم هيئة مجتمعة في الجيش تتخذ الجواسيس لتنظيم عملها(5).
ليس لهم إلا هدف أصلي واحد؛ الإسراع إلى الفتنة، ونسج خيوطها، وعقد بنودها بالتحريض والتمويل والتأييد والتفويض.
{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ أي: فيكم مَن يسمع منهم، ويُكثِّر سوادهم، وينقل عنهم؛ بل يتبنى موقفهم! والله أعلم بالظالمين، يعلم ما يدبّرون وبما يمكرون وما ينفذون، انظر: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
والقرآن حذَّر جيل الصحابة، أفضل الأجيال على الإطلاق، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، موضحًا منهج عدوهم في هدم الإسلام وتفريق المسلمين، يشير لأخطر نقطة: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، فكيف بنا اليوم على ضعف المسلمين وقلة حيلتهم أمام إعلام موجَّه أحمق، يهزأ ويستهزئ بالعقول والنفوس، ويضع خططًا مدروسة إعلاميًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا واستراتيجيًّا، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
{وَفِيكُمْ} أناس ضعفاء العقول، {سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ أي: مستجيبون لدعوتهم، يغترون بهم، فإذا كانوا هم حريصين على خذلانكم، وإلقاء الشر بينكم، وتثبيطكم عن أعدائكم، وفيكم من يقبل منهم ويستنصحهم.
فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين، والنقص الكثير منهم، فلله أتم الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم، ولطفًا من أن يداخلهم ما لا ينفعهم؛ بل يضرهم(6).
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش، ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم؛ بل لزادوهم اضطرابًا وفوضى، ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل، وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين.
ولكثرة هؤلاء السماعين لهم وانتشارهم يُصدَّقُ الكاذب، ويُكذَّب الصادق، ويؤتمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، وما كان لأمين أن يخون قط، ولكن اؤتُمِن غيرُ أمينٍ فخان.
وقال ابن مسعود: «مَن يشفع شفاعة ليردَّ بها حقًّا، أو يدفع بها ظلمًا، فأُهدِي له فقبل فهو سحت»، فقيل له: «يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم»، فقال: «الأخذ على الحكم كفر، قال الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]»(7).
{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ أي: مطيعون لهم، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
يعلمُ أولئك المنافقون وهؤلاء (السمّاعون لهم من أهل الخير) أن المُصلحين من أهل الخير لا يعادون المعرفة، ولا يرفضون التقدم العلمي؛ بل هو من سبل النهوض بالأمة، وطريق لتقوية ضعفها، وسعي لاستعادتها مكانتها، ومع هذا، فإن الثناء على الجامعة؛ بل والمبالغة فيه أحيانًا، دون تنبيه أو تحذير أو نصح لولاة الأمر وعامة الناس، هو في حقيقة الأمر تلبيس وإلباس للحق بالباطل؛ لأن المصلحة الدنيوية الظنية، التي قد تتخلف، لا تُلغي المفسدة الأخروية التي تأكدت؛ بل ظهر لنا شيء من نتنها.
ينبغي في التعامل مع المنافقين وجهادهم ألَّا نغفل عن كليات القضايا، وأبعاد أطروحاتهم، حتى لا يُجرَّ الغيورون والمحتسبون إلى معارك جانبية جزئية، فتُستنفدَ طاقتهم، وتتفرق كلمتهم.
ومما يُحزن ويُشجي ما يراه المرء من اجتماع كلمة المنافقين في نوازل المسائل، ورميهم للغيورين والعلماء عن قوسٍ واحدة، المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، مع تفرق شأن أهل الصلاح والإصلاح واختلاف كلمتهم، وإن كانت هناك صور لتوحّد كلمة الغيورين تُسعد القلب وتسرُّ الخاطر.
إن المعركة مع المنافقين قديمة متجددة طويلة عسيرة، واستلهامُ آليات التعامل مع المنافقين والمفسدين من الكتاب والسنة هو الطريق ولا طريق غيره، ولا منهج سواه(8).
الاستماع للوشاة:
من أنواع المسموعات المحرمة المخربة تخريبًا شديدًا في المجتمع المسلم سماع الوشاة، الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الأخ وأخيه، الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الملتزم بدينه ومن يلتف حوله، الوشاة الذين يريدون أن يخربوا المجتمع الأخوي المسلم، إن على الواعين من المسلمين وغير الواعين أن يعوا هذه المسألة، وهي قضية سماع الوشاة، وسماع الوشاة له أمثلة كثيرة، وصور عديدة، بعض الناس لا يدققون فيما يسمعون، ولا يطلبون البينة على الاتهامات الباطلة التي يسمعونها؛ بل إنه يعطي سمعه لكل أحد صادقًا أو كاذبًا، وهذا أمر خطير، يُؤدي إلى اتهام البريء، وقد يؤدي كذلك إلى تبرئة المذنب، وكم من بيوت قد خربت وعلاقات قد فصمت وانقطعت بسبب سماع كلام الوشاة؟
صحيح أنه لم تخلُ مصيبة حلت بالأمة الإسلامية في العصور المتأخرة من دور ليدٍ خفية لها مصلحة فيما يُسمى (نظرية المؤامرة)، ولكن هذه الأيدي الخفية لم تكن لتجد لها منفذًا لولا الثقوب؛ بل الفجوات الكبيرة التي جعلت ديار العرب والمسلمين بيوتًا بلا أبواب وحصونًا بلا حراس، ووجدت من بين المسلمين سمّاعين لها، خصوصًا النخب المدعية تمثيل الدين والمؤسسات، التي اختطفت العقيدة وجعلتها ملكيات خاصة، تحتكر من خلالها منح صكوك العقيدة الصافية والتدين الصحيح، وتنكر على غيرها الانتساب إلى الإسلام، حتى وصلنا اليوم إلى محاولات تأصيل هذا الشق في جسد الأمة بعقد مؤتمرات تحت رعاية دول غير إسلامية؛ لتؤسس على أساس دعاوى علمية باطلة، واستحضارًا لتاريخ مجتزأ فتحدد من هم أهل السنة والجماعة، كما حدد غيرهم من قبل من هم أهل العقيدة الصحيحة وأهل العقيدة الباطلة(9).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»(10).
يعني أن الإنسان إذا صار يحدث بكل ما سمع، من غير تثبت وتأن، فإنه يكون عرضة للكذب، وهذا هو الواقع، ولهذا يجيء إليك بعض الناس يقولون: صار كذا وكذا، ثم إذا بحثت وجدت أنه لم يكن، أو يأتي إليك ويقول: قال فلان كذا وكذا، فإذا بحثت وجدته لم يقل، وأعظم شيء أن يكون هذا فيما يتعلق بحكم الله وشريعته، بأن يكذب على الله فيقول في القرآن برأيه، ويفسر القرآن بغير ما أراد الله، أو يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا.
والحاصل أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما يقول، ويتثبت فيمن ينقل إليه الخبر(11).
وفي حديث آخر عند أبي داود: «بئس مطية الرجل زعموا»(12)، أصل هذا أن الرجل إذا أراد الظعن في حاجة والمسير إلى بلد ركب مطيته، وسار حتى يبلغ حاجته، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدمه الرجل أمام كلامه، ويتوصل به إلى حاجته من قولهم زعموا بالمطية التي يتوصل بها إلى الموضع الذي يؤمه ويقصده، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا تثبت فيه، وإنما هو شيء يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ، فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله، وأمر بالتثبت فيه، والتوثق لما يحكيه من ذلك، فلا يرويه حتى يكون معزيًا إلى ثبت ومرويًا عن ثقة، وقد قيل: الراوية أحد الكاذبين(13).
فكم أوقدت الكلمة الخبيثة من فتنة، وكم أهلكت من أمة، لا سيما إن كان مستثمروها من الفساق الذين يُرَوِّجون للباطل تحت شعار حرية الكلمة، وأي حرية هذه حين يجد أهل الباطل مسلكًا لترويج أكاذيبهم، يُحَرِّفون الكلم عن مواضعه من أجل التمويه والتضليل، فيَلْبِسون الحقَّ بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون.
إن من يتولى كِبْر الشائعات وترويج الأكاذيب وقلب الحقائق لا يعرف قدر مسئولية الكلمة، فالحرية أيها الإخوة لا تعني الخوض في الباطل، فالإنسان مسئول أمام الله عز وجل عما يقول وعما يفعل، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وقال جل من قائل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
فكم من كلمة قالت لصاحبها دعني، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم»(14)، نعوذ بالله منها ومما قرب إليها من قول أو عمل.
دوافع الاستماع للبطالين:
إن انتشار هذا المرض بين أفراد المجتمع له دوافع كثيرة، وهذه الدوافع قد تكون دوافع نفسية وسياسية واجتماعية واقتصادية، ولنذكر أهم أسباب انتشار هذا المرض:
الدافع الأول: اتباع الهوى:
والمقصود بالهوى هوى النفس الأَمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فصاحب الهوى يعمل على نشر ما يوافق هوى نفسه، ولو كان على حساب إلحاق الضرر بغيره، فهو لا يهمه إلا مصلحة نفسه فقط، وإشباع غريزته السيئة، ولا يهمه ما يحصل بعد ذلك من خطر على البشر، ولهذا أنكر الله جل وعلا على من هذا صنيعه، فقال تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، وقال جل وعلا: {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [ص:26].
ولا يخفى علينا خبر هوى النفس الأمارة بالسوء.
الدافع الثاني: الجهل:
ونعني الجهل بعواقب الأمور، فمن أراد أن يقدم على عمل لا بد أن يكون عنده بُعْدُ نظرٍ ليعلم ما يمكن أن يؤدي إليه هذا العمل من المفاسد؛ إذ لا يليق به أن يقتصر على فهمه القاصر، فقد يظن الإنسان أن ما ينشره من الأكاذيب والأقاويل حقائق مُسَلَّمة لا تقبل الجدل، لكن في الحقيقة هي أكاذيب مُلَفَّقة، فالجهل بعواقب الأمور من أهم دوافع انتشار الشائعات في المجتمع، وأحيانًا قد يؤدي به جهله إلى أن يطلق الشائعة من باب المزاح والدعابة، إن أولئك الذين يطلقون الشائعات على سبيل المزاح والدعابة لا تلبث شائعاتهم أن تتلقفها الآذان الصاغية المحبة للفساد والإفساد بين الناس، ثم سرعان ما تنتشر انتشار النار في الهشيم، تسابق الريح من هنا وهناك حتى تعم الآفاق، ومَن كانت هذه حاله وهذه مهنته ولا يتمعر وجهه من الخوض في الباطل يكون من الذين خلعوا ربقة الحياء من أعناقهم؛ لأن كل همه إثارة المشاكل وخلق القلاقل بين الناس.
الدافع الثالث: النفاق:
إن النفاق سبب من أسباب الإرجاف، قال جل وعلا في الآية: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا} [الأحزاب:60].
والنفاق مرض القلب، وهو سبب الويلات والنكبات، فما من فتنة إلا وكان للمنافقين يد فيها، وما حادثة الإفك من ذلك ببعيد، وهي خير شاهد على ذلك، وقد وصف الله المنافقين بالعداوة للمؤمنين، ومن يرد إلحاق الأذى ونشر الفوضى فهو عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، كما قال جل وعلا عن حالهم: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]، فهم أهل إرجاف وكذب وبهتان، يُخْفُون ما لا يُبْدُون، والحقيقة أن هذه الشائعات المغرضة إنما تصدر ممن لا خلاق له.
الدافع الرابع: الفراغ:
إن الفراغ القاتل يؤدي بلا شك إلى ترويج الشائعات بطرق ووسائل مختلفة، ومن هذه الطرق وسائل الاتصال الحديثة؛ كالإنترنت والجوال، ويكون ذلك بغرض التسلية والتهكم، ولذلك شواهد كثيرة من رسائل (البلوتوث) عياذًا بالله.
وهذه المواقع ما هي إلا ويلات على البشر، وخاصة الشباب منهم، الذين جعلوها مسرحًا لآرائهم وأفكارهم الهدامة، فهم يتناقلون فيها القيل والقال، والزور والبهتان، وخدش الحياء، لا شك أن هذا سوء استخدام للفراغ الذي هو نعمة من الله جل وعلا، ومِنَّة مَنَّ الله بها على الإنسان، وكما جاء في الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ»(15).
ولا يخفى علينا أن تجريح الآخرين ونشر معايبهم في تلك الوسائل يُعَدُّ أيضًا من الغيبة المحرمة؛ لأن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، فمن ينقل هذه الأقاويل الملفقة عن طريق تلك الوسائل ويذكر معايب أخيه فهذا من الغيبة المحرمة، والله جل وعلا يقول: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات:12]، ويزداد خطرها وإثمها إذا تحولت هذه الغيبة إلى شائعة، وانتشرت بين الناس على وجه التشهير والفضيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الدافع الخامس: الرغبة في حب الظهور:
إن حب الظهور مرض نفسي، وهو من الحيل العقلية التي يلجأ إليها ضعاف النفوس من أجل إبراز أنفسهم على حساب الآخرين، يعني يعمل الواحد منهم على إبراز نفسه بنشر هذه الأكاذيب؛ وإن كان فيها ضرر على غيره نتيجة لِمَا يعانيه من الفشل في حياته العامة، مُعْتَقِدًا أن ذلك يُعوِّض ما يشعر به من نقص، ولا شك أن هذا اعتقاد غير صحيح، ومسلك باطل، فرحم الله امْرَءًا عرَف قَدْر نفسه.
الدافع السادس: الشعور بالكراهية للآخرين:
إن الشعور بالكراهية للآخرين، وخاصة مَن لهم نفوذ ومكانة في المجتمع، سبب في زرع الشائعات ، فيعمل مُرَوِّج الشائعة على نشرها من باب الكراهية والبغضاء لذلك الإنسان ذي النفوذ؛ حتى يسيء إلى سمعته بين الناس، وذلك لِمَا يَرَى عليه من نِعَم الله من المكانة والمنزلة، وهذا يعد من باب الحسد على هذه النعمة، فيأخذ في ترويج الشائعات الكاذبات عنه حتى يسيء إلى سمعته، ويكون هذا أحيانًا من باب الانتقام لنفسه بإلحاق الضرر بأخيه.
وخلاصة القول أن هذه الأسباب يجمعها سبب واحد، وهو ضعف الوازع الديني، فإن الإيمان متى وَقَر في قلب العبد فإنه لا يرضى بأذية لأخيه المسلم، فالإيمان يُرَبِّي صاحبه على الأخلاق الفاضلة، أما إذا خف ميزان الإيمان في قلب العبد، عياذًا بالله، فعندئذ يصبح العبد عرضة لكل ما مِن شأنه الإساءة والإفساد، ومن ذلك الإفساد والإساءة تلقف الشائعات ونشرها، فلا شك أن ضعف الوازع الديني هو رأس الأمر كله في نشر هذه الشائعات الكاذبة(16).
__________________
(1) سماعون للكذب، خميس النقيب.
(2) تفسير ابن كثير (4/ 160).
(3) تفسير الرازي (16/ 64).
(4) التحرير والتنوير (10/ 218).
(5) تفسير المنار (10/ 409).
(6) تفسير السعدي، ص339.
(7) تفسير البغوي (3/ 58).
(8) وفيكم سمّاعون لهم، موقع: المسلم.
(9) فتنة الإقصاء فينا سماعون لهم، موقع: الإمارات اليوم.
(10) صحيح الجامع (4482).
(11) شرح رياض الصالحين (6/ 187).
(12) أخرجه أبو داود (4972).
(13) معالم السنن (4/ 130).
(14) أخرجه البخاري (6478).
(15) أخرجه البخاري (6412).
(16) الأضرار والأخطار المترتبة على نشر الشائعات المغرضة بين أفراد المجتمع، موقع: السكينة.