عبوديات غائبة
يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56-58].
ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162- 163].
في هاتين الآيتين الكريمتين أوضح بيان وأجلى بلاغ في بيان الحكمة من خلق الجن والإنس، وأنها عبادة الله عز وجل ظاهرًا وباطنًا، والبراءة والخلوص من الشرك بجميع أشكاله وصوره.
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعًا، وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس، أي استقرار الشعور على أن هناك عبدًا وربًا، عبدًا يعبد، وربًّا يعبد، وأن ليس وراء ذلك شيء وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار، ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة.
التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله (1).
وفي آية الذاريات توسط خلق الإنس والجن بين أداتي النفي والاستثناء، وهذه الحال من أقوى صيغ الحصر؛ أي إن الله عز وجل قد حصر الحكمة من خلق الإنس والجن في عبادته فقط، ولا يقبل منهم شيئًا آخر سوى ذلك، وإذا ضممنا هذه الآية إلى آية الأنعام وجدنا آية الأنعام تُفصّل هذه العبودية الواردة في سورة الذاريات بشكل جلي؛ إذ المطلوب من العبد -منذ أن يبلغ سن التكليف- أن يقصد بجميع أنشطة حياته التعبد لله عز وجل؛ النسك والصلاة، والمحيا والممات، وكل تقلبات العبد يجب أن تكون لله وفي الله وبالله؛ إن أعطى فلله، وإن منع فلله، وإن والى أحدًا فلله، وإن عادى وخاصم ففي الله وبالله، لا يذبح، ولا ينذر، ولا يركع، ولا يسجد، إلا لله وحده، ولا يحكم إلا بشرع الله، ولا يتحاكم إلا إليه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، وأن يكون عبدًا لله تعالى في جميع أحواله وآنه؛ في منعه وعطائه، وغضبه ورضاه، وشدته ورخائه، وفقره وغناه.
إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة، بالصلاة والاعتكاف، وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه.
إنها تسبيحة «التوحيد» المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده، لله «رب العالمين» .. القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين.. في «إسلام» كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله، ولا يحتجز دونه شيئًا في الضمير ولا في الواقع (2).
سعة مجال العبودية:
يخطئ كثير من المسلمين في فهم حقيقة العبادة في الإسلام، فيظن كثير من الناس أن عبادة الله مقتصرة على الصلاة والصيام والزكاة والحج وبعض الأذكار، ويعتقدون أنهم بعملهم ذلك أقاموا الإسلام في حياتهم؛ وهذا فهم ناقص لحقيقة العبادة في الإسلام.
أما مفهوم العبادة في الشرع فمفهوم واسع شامل، يقول شيخ الإسلام: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله (3).
إن من يظن أن مجرد الصلاة والصيام والحج وبعض الأذكار هي الدين كله وهي العبادة كلها؛ لا شك أن مخطئ خطأً شنيعًا في تصوره لحقيقة الدين وفهمه لحقيقة العبادة، لا شك أن الصلاة والصيام والحج من أعظم الشعائر، ومن أركان الإسلام، ولكنها تبقى جزءًا من هذا البناء العظيم، ومن هذا النظام الشامل لجميع نواحي الحياة، حتى الأمور التي يظنها كثير من الناس أنها من الأمور البسيطة، وقد يعتبرها بعضهم لا علاقة للدين بها كقضاء الشهوة كما في قوله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر»، قالوا: نعم، قال: «كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (4).
فقد خلت حياة الناس من الروح، وأصبحت الحياة كلها تقاليد موروثة يحافظ عليها من أجل أنها تقاليد، لا من أجل أنها جزء من منهج حي يحكم الحياة؛ فالعبادة تقاليد، والسلوك تقاليد، وحجاب المرأة تقاليد، وقضية العرض تقاليد... أكثر مما هي عبادة واعية لله، أو منهج مترابط يحكم الحياة.
مفهوم العبادة -الشامل الواسع- كان قد انحصر في شعائر التعبد، من أداها فقد أدي كل ما عليه من العبادة، ولم يعد مطالبًا بشيء من التكاليف أمام الله! فضلًا عما أصاب الشعائر التعبدية ذاتها من عزلة كاملة عن واقع الحياة، كأنها شيء ليس له مقتضى في الحياة الدنيا ولا تأثير.
مفهوم القضاء والقدر -الذي كان في صورته الصحيحة قوة دافعة رافعة- فصار في صورته السلبية قوة مخذلة مثبطة عن العمل والنشاط والحركة والأخذ بالأسباب! فضلًا عما صاحب ذلك من استخدام القوي الخففية من السحر والجن... إلخ، جريًا وراء سنة الله الخارقة بدلًا من التعامل مع السنة الجارية التي أمر المسلمون بالتعامل معها، واتخاذ الأسباب المؤدية إلي جريانها في لصالحهم إذا توكلوا علي الله حقق التوكل، كقوله تعالي: {إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء».. إلخ (5).
مفهوم الدنيا والآخرة -الذي يربط الدنيا بالآخرة، ويجعل الدنيا مزرعة الآخرة- تحول إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة، يجعلهما موضع التقابل الكامل وموضع التضاد، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة، ومن أراد الآخرة ترك الدنيا، واكتفي فيها بالكفاف.
وأما عمارة الأرض فقد أهملت حين أهملت الدنيا من أجل الآخرة، فخيم على الناس الفقر والجهل والمرض والتخلف الحضاري والمادي والعلمي والعقلي.... وزاد على ذلك كله أنه -في حسهم- قدر مقدور من عند الله، لا حيلة لهم فيه إلا الرضاء والتسليم (6).
ولما طغت الماديات في زماننا انقلبت الموازين واختلفت المفاهيم، حتى ساد بين كثير من المسلمين بأن العبادة هي الشعائر الدينية والفرائض الوقتية، حتى غرقت الأمة بالذل والهوان والضعف والتقهقر، ولا يمكن أن تعود لمجدها وعزتها وقوتها حتى يستقر المفهوم الصحيح للعبادة ويطبق بشكل دقيق، لأن العمل والتطبيق بعد العلم والفهم.
وعليه يجب أن يكون مفهوم العبادة شامل ومعناها واسع، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة، فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء عبادة، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وحسن العشرة والأخوة في الله، والصدق في الحديث والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.
تعدد العبوديات وسعة القلوب لها:
وأخلص من هذه المقدمة إلى بيان حالة من الحالات التي قد يغيب فيها التعبد لله عز وجل؛ إذ تختلط فيه مقاصد التعبد بحظ النفس والحمية لها؛ ألا وهي حالات الخصومة مع المخالف لأدلة الكتاب والسنة، والإنكار عليه في ذلك، مثل ما نراه اليوم من السقطات والانحرافات الصادرة من بعض المنتسبين للعلم والدعوة وغيرهم؛ حيث يسيطر على الموقف منها التعبد لله عز وجل بإنكارها والتشنيع على فاعلها وتحذير الناس منها فقط، بينما هناك عبوديات أخرى في هذه الحال يجب على العبد المخلص لربه سبحانه التعبد لله عز وجل بها، لكنها تغيب في جوّ الانفعال والإنكار، والمطلوب ألا تطغى عبودية على أخرى وأن لا تغيّبها؛ بل إن على العبد الموفق المستسلم لربه الراجي لمرضاته أن يقوم في كل حال بما يناسبها وما تقتضيه من العبوديات، وأن لا تلغي بعض العبوديات عبوديات أخرى.
وهذا النظر مستفاد من تعليق ابن القيم على بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم؛ وذلك في تعليقه على رضاه التام بقضاء الله تعالى؛ حيث قال:
وقد ذكر في مناقب الفضيل بن عياض أنه ضحك يوم مات ابنه عليّ، فسُئل عن ذلك فقال: إن الله تعالى قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه، وهدْيُ الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل، وأنه جمع بين الرضى بقضاء ربه تعالى ورحمة الطفل؛ فإنه لما قال سعد بن عبادة ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة؛ وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، والفضيل ضاق عن الجمع بين الأمرين فلم يتسع للرضا بقضاء الرب وبكاء الرحمة للولد، هذا جواب شيخنا سمعته منه (7).
إذًا فهناك عبوديات ينبغي على العبد أن يتعبد بها لله تعالى وهو يرى السقطات والمخالفات الصريحة من بعض أهل العلم أو من غيرهم، ويمكن التعرف على تلك العبوديات في ضوء ما سطرته يد الإمام ابن القيم في نونيته الرائعة الشهيرة، عن عقيدة الفرقة الناجية، وهو يحدد النظر الصحيح الذي ينبغي النظر به إلى أهل البدع المخالفين لطريق أهل الاستقامة، وما هي العبوديات التي ينبغي أن تكون حاضرة في مثل هذه الأحوال:
قال رحمه الله تعالى:
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا تُرَد مشيئة الرحمان
وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه فهما إذا نظَران
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما من خشية الرحمان باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضا مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمان
والمقصود بعين الحكم هنا عين القدر، وأما عين الأمر فهي عين الشرع.
العبوديات الواجب الجمع بينها:
وفي ضوء هذين النظرين نستطيع أن نتعرف على بعض العبوديات التي ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن العبد المسلم وهو ينتقد أو ينكر كلام ومواقف المخالفين لطريق الاستقامة، سواء كانوا من أهل العلم، أو من أهل البدع، أو من أهل العصيان.
عبودية الموالاة والمعاداة في الله:
وهذه العبودية تقتضي إنكار المخالفات التي تصدر من أي فرد أو طائفة وبيان انحرافها، وحمل قائلها على الطريق المستقيم، كما تقتضي البراءة من هذه المخالفات؛ فإن كانت المخالفات صادرة من كافر أو منافق نفاقًا اعتقاديًا فإن الواجب في حقهم البراءة المطلقة منهم أو نزع الولاء المطلق لهم، وإن كانت هذه الانحرافات صادرة من مسلم من أهل القبلة فإنه يُتبرأ منه بقدر ما صدر عنه من هذه الانحرافات، ويُبذل له الولاء العام الواجب لكل مسلم؛ أي إنهم لا يوالَوْن بإطلاق ولا يُتبرأ منهم بإطلاق، ولكن لهم مطلق الولاء ومطلق البراء.
مر مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان حاملًا لواء المسلمين يوم بدر، مر بعد انتهاء الغزوة في الأسرى، فوجد أخاه أبا عزيز بن عمير يأسره رجل من الأنصار، فقال مصعب للأنصاري: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع؛ فقال له أبو عزيز: أهذه وصاتك بي يا أخي؟!؛ فهو يظن أن أخاه يحابيه ويواسيه ويوصي عليه، ولكنه فوجئ بالعكس من ذلك، يقول للأنصاري: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع؛ أي: ذات مال، فقال: أهذه وصاتك بي يا أخي؟!؛ فقال: إنه أخي دونك؛ أي هذا الأنصاري أخي، وأنت لست أخي (8).
كما قال الله عز وجل لنوح عليه السلام في ابنه الكافر: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]؛ وفي قراءة عَمِلَ غير صالح؛ أي: مع أنه من صلبه، لكنه ليس من أهله، لأنه ليس من أهل الإيمان.
عبودية الرحمة بالمخالف والشفقة عليه:
ينبغي ألا تنسينا عبودية البراءة من المنكر وفاعله، وحمله على الحق، عبودية الرحمة والشفقة عليه مما يترتب على مخالفته من المفاسد الدنيوية والأخروية، بل ينبغي رحمته والسعي لنصحه بترك ما هو عليه، وإنقاذه من سخط الله وعذابه، والدعاء له بالهداية.
كان الأنبياء صلوات الله عليهم يحرصون في التعامل مع أقوامهم على الرَّحمة بهم والشَّفَقَة عليهم، فكانوا يُشْفِقون عليهم بالرَّغم من إيذاء قومهم لهم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأنِّي أنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، ضربه قومه فأَدْمَوه، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي، فإنَّهم لا يعلمون (9).
قال النَّووي: فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتَّصبُّر والعفو والشَّفَقَة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغُفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم: بأنَّهم لا يعلمون، وهذا النَّبي المشار إليه من المتقدِّمين، وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد (10).
عن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العَقَبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي، فلم أَسْتَفق إلَّا وأنا بِقَرْن الثَّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني مَلَك الجبال فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين»، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا» (11).
قال ابن حجر: وفي هذا الحديث بيان شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهو موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (12).
عبودية العدل والإنصاف معه:
بأن لا تتكلم عنه إلا بعلم وعدل، وأن نحْذر من الكلام بظلم أو جهل، وإذا كان للمخالف لطريق أهل الاستقامة سابقة وبلاء حسنًا وحسنات كثيرة؛ فمن العدل والإنصاف أن لا نبخسه حقه، وأن لا تنسينا عثرتُه حسناتِه ومواقفه التي يحبها الله عز وجل، بل ينبغي أن تكون حاضرة، لعل عثرته أن تنغمس في بحرها.
يقول الله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، أي إذا تكلمت أيها المسلم فتكلم بإنصاف، وإذا حكمت فاحكم بالعدل، ولا تجعل العداوة والبغضاء تدفعك إلى ظلم أخيك، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
ويقول الله في آية أخرى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]، يعني يا مؤمن لا تنتصر لنفسك، ولا لعشيرتك، ولا لحزبك، ولا تنتصر لجماعتك، ولا لشهواتك، ولا تنتصر لجماعتك، بل لله: {كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ} [المائدة: 8] كن منصفًا وقل الحق ولو على نفسك.
لقد امتثل أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لخلق الإنصاف، حتى جرت الأمثال بقصصهم، ومن ذلك: القصَّة العظيمة التي حدثت للصَّحابي الجليل عبد الله بن رواحة، لما ذهب إلى اليهود عندما بعثه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليخرص النَّخل هناك، فقال لهم: يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إيَّاكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسقٍ من تمرٍ، فإن شئتم فلكم وإن أبيتم فلي، فقالوا: بهذا قامت السَّماوات والأرض، قد أخذنا فاخرجوا عنَّا (13).
خُلُقُ الإنصاف يقول عنه ابن القيم: والله تعالى يحبُّ الإنصاف بل هو أفضل حلية تحلَّى بها الرَّجل، خصوصًا من نصَّب نفسه حكمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15]، فورثةُ الرَّسول منصبهم العدل بين الطَّوائف، وألَّا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحقُّ مطلوبه، يسير بسيره، وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف، ويحكم الحجَّة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو العلم الذي قد شمَّر إليه، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه، ولا يثني عنانه عنه عذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يعيده عنه قولُ قائلٍ (14).
وقال شيخ الإسلام: وأمور النَّاس إنَّما تستقيم في الدُّنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر ممَّا تستقيم مع الظُّلم في الحقوق وإن لم يشترك في إثمٍ، ولهذا قيل: إنَّ الله يقيم الدَّولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظَّالمة وإن كانت مسلمة، ويُقال: الدُّنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظُّلم والإسلام (15).
عبودية الخوف على القلب من الزيغ والانحراف والحذر من العجب:
وذلك بأن لا يؤدي نقد العبد للمخالف وإنكاره عليه إلى أن يعجب بنفسه ويشعر بالتعالي عليه، بل يجب أن تكون عبودية الخوف من الله عز وجل حاضرة في هذا المقام؛ وذلك لأن القلوب بين أصابع الرحمن، والهداية إلى الحق فضل من الله ومنّة.
قال ربكم عز شأنه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، ثم انظروا في صيامكم وصلاتكم وصدقاتكم وصالح أعمالكم، ثم تأملوا سؤال عائشة بنت الصديق، أم المؤمنين الفقيهة -رضي الله عنها وعن أبيها- قالت: يا رسول الله: أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق وهو يخاف أن لا يقبل منه» (16).
وحضور هذه العبودية في هذا المقام يجعل العبد يُطامن من نفسه ولا يشعر بالتعالي على الناس، ويخاف من زيغ القلب؛ إذ لو شاء الله عز وجل لجعله مثلهم وقد يكون للمخالف خبيئة من أعمال صالحة ظاهرة وباطنة يفوق بها من نقَده وأنكر عليه، ولا تظهر إلا حين تبلى السرائر.
عبودية الرجاء للمخالف وعدم اليأس من توبته وقبول الله لها والعبرة بالخواتيم:
فلا تنسينا عبودية الإنكار على المخالف وبيان ضلالته الرجاء له بتوبة الله عز وجل عليه وتكفير سيئاته إذا كان من أهل القِبلة؛ وذلك بأن يوفقه الله عز وجل للتوبة والرجوع عن مخالفته، أو تكون له حسنات كثيرة تمحوها، أو يُقدّر الله عليه من المكاره والمصائب ما يكفّر الله بها عنه، أو بغيرها من المكفرات.
والتعبد لله عز وجل بهذه العبودية وهذا المقام يجعل العبد لا ييأس من توبة المخالفين، ولا يتألى على الله عز وجل؛ ولا سيما حين تكبر المخالفات ويُصر أهلها عليها، فلا يُيئسهم من رحمة الله أو أن الله لا يغفر لهم، ويناسب أن نذكر هنا الحديث المرعب في وعيد من يُيئّس الناس من رحمة الله؛ فعن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: «من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك» (17).
عبودية الحمد والشكر لله عز وجل ومحبته:
وذلك حين يجد العبد نفسه قد سلّمه الله من تلك الانحرافات التي وقع فيها غيره وعافاه منها، فينبعث داعي الحب لله تعالى وحمده والثناء عليه وشكره على هذه المعافاة، لأنها محض توفيقه وامتنانه، ولو وكله عز وجل إلى نفسه لهلك وضل، وهذا الشعور يبعث في نفسه اللجوء إلى الله عز وجل والتضرع بين يديه في طلب الهداية والثبات عليها حتى الممات.
خاتمة:
وبعد، فهذه عبوديات يمنّ الله بها على من يشاء من عباده، بأن يجعله متعبدًا لربه بها جميعا، وألا تشغله عبودية عن عبودية أخرى (18).
قال السدي: من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان: 25]، هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع الشرك (19).
كان الصحابة رضوان الله عليهم يقومون بالعبادة وهم يمارسون حياتهم في شتى المجالات فيسألون أنفسهم هل هم في موضع يُرضي الله أم موضع يسخط الله؟ فإذا كانوا في موضع الرضا حمدوا الله، وإن كانوا على غير ذلك استغفروا الله وتابوا إليه {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وكان إحساس المسلم في الجيل الأول بواجبه في الجهاد في سبيل الله كإحساسه بواجبه في الصلاة؛ هنا يعبد الله وهناك يعبد الله، ولا تُغْني إحدى العبادتين عن الأخرى؛ لأن كلا منهما بمفردها لا تحقق المعنى الكامل للعبادة التي يريدها الله.
وكذلك إحساسه بضرورة الزواج لكي يحصن نفسه من الفاحشة ولكي يتخذ السبيل لتكثير الأمة المسلمة التي تجاهد لاقتلاع الشرك من الأرض ونشر التوحيد وإخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وإقامة شريعته وإعلاء كلمته فهو كان إحساس العبادة.
ولا يتناقض في حسه معنى العبادة مع الإحساس بمتعة الجسد ما دامت في حلالٍ أباحه الله سبحانه.. ومن ثم لم يعودوا بعد ذلك يدهشون، وعلموا أن نشاط الجسد الطبيعي هو في الإسلام عبادة ما دام يبتغي به وجه الله ويلتزم فيه بطاعة الله وأوامره؛ فحياتهم كلها عبادة تشمل نشاط الروح والعقل والجسد ما دام كله متوجهًا إلى الله وملتزمًا بما أنزل الله، وفي الوقت ذاته عبادة لا تعنّت الإنسان ولا تكلفه ما لا طاقة له به، لأنها تأخذ نشاطه الطبيعي. وهذا هو المفهوم الواسع والشامل للعبادة {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162] (20).
-------------
(1) في ظلال القرآن (6/ 3387).
(2) في ظلال القرآن (3/ 1241).
(3) العبودية (ص: 38).
(4) أخرجه مسلم (1006).
(5) أخرجه أبو داود (3855).
(6) واقعنا المعاصر (ص: 5).
(7) تحفة الودود بأحكام المولود (ص: 106).
(8) سيرة ابن هشام (1/ 646).
(9) أخرجه البخاري (6929)، ومسلم (1792).
(10) شرح النَّووي على مسلم (12/ 150).
(11) أخرجه البخاري (3231)، ومسلم (1795).
(12) فتح الباري لابن حجر (6/ 316).
(13) أخرجه أحمد (14996).
(14) إعلام الموقعين (3/ 94- 95).
(15) الاستقامة (2/ 247).
(16) أخرجه البيهقي في الشعب (747).
(17) أخرجه مسلم (2621).
(18) عبوديات غائبة/ ناصحون.
(19) تفسير ابن كثير (7/ 425).
(20) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح.