logo

الدعوة والقوة


بتاريخ : الاثنين ، 23 ذو القعدة ، 1436 الموافق 07 سبتمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدعوة والقوة

استخلف الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذا الكون دون سائر خلقه؛ لما حباه الله من تفضيل وتكريم عليهم، وزوده بالعقل والتفكير الذي يمكنه من السيادة على الكون، وتسخير ما فيه من قوى طبيعية، وثروات وإمكانيات، من أجل خدمته وراحته ومنفعته وتقدمه ورقيه، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].

وقد بينت الآية أن الناس ثلاثة أصناف، وكلُّ واحدٍ من الكتاب والميزان والحديد علاجُ قومٍ؛ فالخواص أهل القريحة النافذة والفطنة القوية، الخالية بواطنهم من التقليد والتعصب، فهؤلاء علاجهم بالميزان، وهو ما رسمه القرآن في الجدل الإبراهيمي الذي فيه الحجة البالغة.

والعامة الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائق، وإن كانت لهم فطنة فطرية، فليس فيهم داعية الطلب ولا داعية الجدل، وهؤلاء ليس الخوض في الخلافات من عشهم، فهؤلاء لهم الاعتقاد، وما في الكتاب من أصول وفروع، من غير أن يشغلوا أنفسهم بمواقع الخلاف، ويكفيهم معرفة الفرائض، وما اتفقت عليه الأمة من الحلال والحرام.

ومن هؤلاء قوم هم أهل الجدل، فيرى الغزالي علاجهم بالتلطف إلى الحق، من غير تعصب عليهم أو تعنيف لهم، وإنما يعالجون بما قال الله سبحانه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

وبقي الحديد الذي فيه بأس شديد، وهو علاج الصنف الثالث، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله(1).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم الله من ينصره ورسله، ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31](2)، وقال: فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه؛ كالسيف والسنان والنصل، وما أشبه ذلك الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم»(3).

فأخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي والسيف ينصر؛ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب، الذي هو القرآن، وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: «صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء»، وقالوا في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، أقوال العلماء والأمراء.

فالدين الحق لا بد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].

فبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الحجج والبراهين الساطعة التي يوضح الله بها الحق، ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب الذي فيه البيان، والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان، وهو العدل الذي ينصف به المظلوم من الظالم، ويقام به الحق، وينشر به الهدى، ويعامل الناس على ضوئه بالحق والقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، فيه قوة وردع وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة وتؤثر فيه البينة، فهو الملزم بالحق، وهو القامع للباطل، ولقد أحسن من قال في مثل هذا:

وما هو إلاَّ الوحي أو حد مرهف       تزيل ضـباه أخـدعي كـل مائل

فهـذا شفـاء للقـلوب مـن الـعمى       وهذا شفاء العي من كل جاهل

فالعاقل ذو الفطرة السليمة ينتفع بالبينة، ويقبل الحق بدليله، أما الظالم التابع لهواه فلا يردعه إلا السيف.

ولا يخفى على العاقل البصير أن القوة المادية لها أهمية عظيمة في نشر الدعوات والأفكار مع القوة المعنوية والحجج والبراهين، فإن أي دعوة إذا لم يكن لديها من القوة ما يحميها، ويذود عنها سرعان ما تتكالب عليها قوى الشر والطغيان حتى تستأصل خضراءها، وتظهر هذه الأهمية من قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25]، وكذلك قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:81].

قال قتادة فيها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم.

قال ابن كثير: وهو الأرجح؛ لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه(4).

قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هي أَحْسَنُ} [النحل:125]: «جعل الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي، الذي لا يعاند الحق ولا يأباه، يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن»(5).

والنص يقول: {وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ} بوصفهم وحدة، وبوصف الكتاب وحدة كذلك، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها، {وَالْمِيزانَ} مع الكتاب، فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانًا ثابتًا ترجع إليه البشرية؛ لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال، وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع، ميزانًا لا يحابي أحدًا؛ لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد؛ لأن الله رب الجميع.

هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات، والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف، ومصطخب المنافسة وحب الذات، فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة، {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته لا يهتدي الناس إلى العدل، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء! {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}(6).

قال العتبي: كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافرًا، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة، فلذا جمع {الْكِتابَ وَالْمِيزانَ}، وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف، وجذوة عقابه، وعذاب عذابه، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد.

فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع.

قال القاسمي: لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى التعامل والتعاون، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع، والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع، منقادة للشرع، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع، فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال، والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع، والثانية لا بد لها من القهر وسياسة الملك(7).

فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد؛ ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف، وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا، يعني السيف، من عدل عن هذا، يعني المصحف(8).

فإن السيوف عز لأهلها وسلطان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»(9)، فبالسيف الناصر والكتاب الهادي عز الإسلام وظهر في مشارق الأرض ومغاربها.

والسيف من أعظم ما يعتمد في الحرب عليه، ويرهب به العدو، وبه ينصر الدين ويذل الله الكافرين، والذمي ليس من أهل حمله والعز به.

إن دين الإسلام إنما يقوم بالعلم الشرعي، والجهاد، والقوة، والسلاح، والحديد، فكل واحد منهما يمد الآخر بمعونة العزيز الحميد، أما ترون أهون الأمم حين أهمل المسلمون هذه الأوامر قد استولوا على كثير من أوطانهم، ولا يزالون طامعين فيها إن بقوا على تفرقهم وتخاذلهم وهوانهم.

فالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين، و«من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق»(10)، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104].

وتحمل الدعوة الإسلامية ميزانًا دقيقًا للحقوق والواجبات حسب الشريعة، فلا يجوز التفريط فيها أو التخلي عنها، فهي منحة إلهية للبشرية، وقد اقتضى تطبيق تلك التعاليم جهادًا وبذلًا منذ نزول الوحي حتى استقرت دولة الإسلام، فلولا الجهاد لما قضي على الشرك وطابع الحياة الجاهلية، ولما استقرت معاني العقيدة وقيم الإسلام الاجتماعية ومضامينه الخلقية في نفوس الملايين.

والعدل الشامل يمتد إلى المسلم والذمي والكافر، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والرجال والنساء، حيث تتحدد حقوق الجميع وفق موازين العدل دون احتكار أو استغلال أو استئثار أو ظلم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} [النحل:90](11).

والمناسبة ظاهرة بين الجهاد والدعوة؛ لأن الدعوة لا بد أن تسبق الجهاد، إن حصلت الاستجابة بها ونعمت، وهذا هو المطلوب، وإن لم تحصل تأتي المرحلة الثانية وهي الجهاد.

واستخدام القوة يكون بالكلام، وبالتأديب لمن له سلطة وقوة، وبالجهاد في سبيل الله تعالى تحت لواء ولي أمر المسلمين، بالشروط التي دلّ عليها الكتاب والسنة، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشيء في موضعه اللائق به بإحكام وإتقان وإصابة.

ويزيد ذلك وضوحًا وبيانًا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أعطاه ربه من الحكمة ما لم يعط أحدًا من العالمين، فقد كان يضع العلم والتعليم والتربية في مواضعها، والموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، والقوة والغلظة والسيف في مواضعها، وهذا من أحكم الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9]، وهذا عين الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى.

وأصناف المدعوين من الملحدين، والوثنيين، وأهل الكتاب، وغيرهم من الكفار إذا لم يؤثر فيهم ما تقدم من حكمة القول في دعوتهم، ولم يستفيدوا من حكمة القول العقلية، والحسية، والنقلية، والبراهين المعجزة، والجدال بالتي هي أحسن، وأعرضوا وكذبوا، فحينئذ يكون آخر الطب الكي، وهو استخدام القوة؛ فإن لها الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع الباطل وأهله، ونصر الحق وأهله، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].

فبين سبحانه أنه أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام بالبينات، وهي المعجزات، والحُجج الباهرات، والبراهين السَّاطعات، والدلائل القاطعات، التي يوضح الله بها الحقّ، ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب الذي فيه البينات والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان، وهو العدل في الأقوال والأفعال، الذي يُنصَف به المظلوم من الظالم، ويقام به الحق، ويعامل الناس على ضوئه بالحق، وأنزل الحديد فيه قوة وردع وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة والبرهان وتؤثر فيه البيّنة، فهو الملزم بالحق، والقامع للباطل بإذن الله تعالى(12).

وما أحكم ما قاله الآخر:

دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يجب       وقـد لان منه جانب وخطاب

فلمـــا دعـــا والسـيف صـلت بكفه       له أسلموا واستسلموا وأنابوا

إن التاريخ يحدثنا أن المبادئ أو الأفكار لا بد لها من قوة تسندها لتستقر استقرارًا نهائيًا في المجتمعات البشرية، فالدين المسيحي مثلًا لم يستقر كدين لأمة لو بقى على مبدئه الأول في المعاملة، من ضربك على خدك الأيسر أدر له خدك الأيمن، لو لم يجد من يسنده بالقوة؛ كالملك قسطنطين وأمثاله.

أما الدين الإسلامي فهذه المسألة لا تضمن انتشاره ولا انتصاره، وليس ذلك من طبعه ولا من عقيدته؛ لأنه يريد أن يكون قويًا عزيزًا، وموقفه من الجماعات الأخرى أن يدخلوا في السلم والإسلام الذي دعاهم إليه، أو يقبلوا حمايته ويكونوا تحت ذمته وهم على ديانتهم، أو يكونوا معه في حرب تنتهي بانتصار أحد الفريقين، والمسلم إما أن يعيش سيدًا سعيدًا أو يموت شهيدًا مجيدًا، فهو كما قال الشاعر العربي أبو فراس :

ونحــن أنــاس لا توســط بيننــا       لنــا الصــدر دون العالميــن أو القبــر

وقد فاه المنافقون في عهد الرسول بأنهم أعزة، وأن الرسول، في زعمهم الفاسد، لم يكن بهذه الصفة، وأنهم يستطيعون إخراجه من المدينة، كما حكى الله عنهم ذلك في قوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8]، والحقيقة أن الأعز يخرج الأذل، ولكن الأعز هو الله ورسوله والمؤمنون، {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، فالمؤمنون هم الذين يمكنهم إخراج المنافقين لأنهم الأعزة، أما الأذلة لا تفسح له مجال نشر دعوته، ولا تضمن انتشاره ولا انتصاره، وليس تلك المسألة إلى حد الصفع من توجيهاته الحيوية، التي ترمي في جوهرها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية تغيير المنكر حيث قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(13)، فأمر النبي بتغيير المنكر باليد، وبين أن الانتقال من التغيير باليد إلى التغيير باللسان مشروط بعد استطاعة تغييره باليد، والمنكر قد يكون صادرًا عن شخص كما يكون صادرًا عن جماعة، وما عجز عن تغييره الفرد لا تعجز عنه الجماعة، وقد كانت قريش عقدت بينهما حلفًا في الجاهلية يسمى حلف الفضول، يضمن نصرة كل مظلوم بمكة، حيث تعاهدت على ألا تجد بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم، ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمهم حتى ترد عليه مظلمته.

وقد كان الإسلام يريد أن يظهر أمام أعدائه بمظهر القوة والعزة لا بمظهر الضعف والذلة، في كل مرحلة من مراحل كفاحه.

ومن أروع ذلك الاستعراض الذي وقع يوم فتح مكة، حسبما رواه ابن هشام في السيرة، أنه بعد ما أجار العباس بن عبد المطلب أبا سفيان حتى أسلم، قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر؛ فاجعل له شيئًا، قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها»، قال: فخرجتُ به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه، قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: «يا عباس، من هذه؟»، فأقول: سليم، فيقول: «مالي ولسليم»، ثم تمر القبيلة فيقول: «مالي ولمزينة»، حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال: «مالي ولبني فلان»، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها، قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.

فقال أبو سفيان: سبحان الله، يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: نعم إذن(14).

فهذا اعتراف خطير من قائد حربي محنك هو أبو سفيان، القائد العام للمشركين في معركة أحد، وفي غزوة الأحزاب.

يقول عبد الواحد المراكشي، في شأن إنقاذ يوسف بن تاشفين وأصحابه للأندلس، بعد أن كاد ملوك الطوائف المتخاذلين يسلمونها للأعداء، بما فيهم المعتمد بن عباد، قال: لم يزل أصحاب يوسف بن تاشفين يطوون تلك الممالك مملكة مملكة، إلى أن دانت لهم الجزيرة بأجمعها، فأظهروا في أول أمرهم من النكاية في العدو والدفاع عن المسلمين وحماية الثغور؛ ما صدق بهم الظنون، وأثلج الصدور، وأقر العيون، فزاد حب الأندلس لهم، واشتد خوف ملوك الروم منهم، ويوسف بن تاشفين في ذلك كله يمدهم في كل ساعة بالجيوش بعد الجيوش، والخيل إثر الخيل.

ويقول في كل مجلس من مجالسه: إنما كان غرضنا من ملك هذه الجزيرة أن نستنقذها من أيدي الروم، لما رأينا استيلاءهم على أكثرها، وغفلة ملوكهم، وإهمالهم للغزو، وتواكلهم وتخاذلهم وإيثارهم الراحة، وإنما همة أحدهم كأس يشربها، وقينة تُسمعه، ولهو يقطع به أيامه، ولئن عشت لأعيدن جميع البلاد التي ملكها الروم في طول هذه الفتنة إلى المسلمين، ولأملانها عليهم (يعني الروم) خيلًا ورجالًا لا عهد لهم بالدعة، ولا علم عندهم برخاء العيش، وإنما همة أحدهم فرس يروضه ويستنفره، أو سلاح يستجيده، أو صريخ يلبي دعوته.

في أمثال لهذا القول؛ فيبلغ ذلك ملوك النصارى فيزداد فرقهم، ويقوى، مما بأيدي المسلمين؛ بل مما بأيديهم، يأسُهم.

وحين ملك يوسف أمير المسلمين جزيرة الأندلس وأطاعته بأسرها، ولم يختلف عليه شيء منها عد من يومئذ في جملة الملوك، واستحق اسم السلطة، وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين، وصار هو وابنه معدودين في أكابر الملوك، ونفس هذه الروح العسكرية كانت لعبد المؤمن، مؤسس دولة الموحدين بالمغرب، يحكي لنا عبد الواحد المراكشي ذلك حيث يقول: وكان عبد المؤمن في نفسه سري الهمة، نزيه النفس، شديد الملوكية، لا يرضى إلا بمعالي الأمور.

أخبرني الفقيه المتفنن أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي جعفر الوزير عن أبيه عن جده الوزير أبي جعفر قال: دخلت على عبد المؤمن وهو في بستان له، قد أينعت ثماره، وتفتحت أزهاره، وتجاوبت على أغصانها أطياره، وتكامل من كل جهة حسنه، وهو قاعد في قبة مشرفة على البستان، فسلمت وجلست، وجعلت أنظر يمنة وشأمة، متعجبًا مما أرى من حسن ذلك البستان، فقال لي: يا أبا جعفر، أراك كثير النظر إلى هذا البستان، فقلت: يطيل الله بقاء أمير المؤمنين، والله، إن هذا المنظر حسن، فقال: يا أبا جعفر، المنظر الحسن هذا؟ قلت: نعم، فسكت عني.

فلما كان بعد يومين أو ثلاثة أمر بعرض العسكر آخذي أسلحتهم، وجلس في مكان مطل، وجعلت العساكر تمر عليه قبيلة بعد قبيلة، وكتيبة إثر كتيبة، لا تمر كتيبة إلا والتي بعدها أحسن منها؛ جودة سلاح، وفراهة خيل، وظهور قوة، فلما رأى ذلك، التفت إلي وقال: يا أبا جعفر، هذا هو المنظر الحسن، لا ثمارك وأشجارك، ولم يزل عبد المؤمن يطوي الممالك مملكة مملكة، ويدوخ البلاد، إلى أن دانت له البلاد وأطاعته العباد(15).

وهكذا كان الشأن في الشرق أيام صلاح الدين، الذي استنقذ البلاد من الصليبيين، وأيام الخلافة العثمانية وتوغلهم في تخوم أوربا، ولكن دار الزمان دورته، فرجحت في الوزن الدولي كفة أقوام وشالت كفة الآخرين، طبق ما نطق به الذكر الحكيم: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

ورغم أن الحق منصور من داخله بأدلته وبراهينه، فلا بد له من قوة خارجية، لا لكي يفرض ‏بها نفسه على الناس، وإنما يحتاج إليها لأمرين: الأول: لكي تدافع عنه ضد عدوان المعتدين، وصيال ‏الصائلين، الذين ختم الله تعالى على قلوبهم، وأصبح نهجهم العناد والمكابرة، والعدوان على المخالفين.

الثاني: جهاد الطغاة الظالمين، الذين يصدون الناس بما لديهم من سلطان وقوة عن الاستجابة ‏للنداء الحق، ويصرفونهم عن اتباعه، ويجبرونهم جبرًا وقسرًا على البقاء على دينهم الفاسد، وعدم الإقبال ‏على الدين الحق، ولأجل تلك الحقيقة شرع الله تعالى الجهاد.‏

__________________

(1) داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب، ص33.

(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (10/13).

(3) المصدر السابق (12/253).

(4) تفسير ابن كثير (3/64).

(5) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/153).

(6) في ظلال القرآن، سيد قطب (الحديد:25).

(7) محاسن التأويل، للقاسمي (2/417).

(8) مجموع الفتاوى (28/263).

(9) رواه أحمد (5114).

(10) أخرجه مسلم (1910).

(11) موسوعة نضرة النعيم (1/210).

(12) كيفية دعوة الوثنيين إلى الله تعالى، د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص43-46.

(13) رواه مسلم (49).

(14) السيرة النبوية، لابن هشام (2/404).

(15) المعجب في تلخيص أخبار المغرب، للمراكشي، ص123.