من هنا نبدأ
التربية الإيمانية هي التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل الرجال.
وللتربية الناجحة آثار إيجابية كبيرة، تنعكس على جميع جوانب الدعوة، بدءًا من لُحْمَة الصف وقوته، واختفاء المشاكل التي تهدد وحدته وانسجامه، إلى المساهمة بشكل كبير في إنجاح المشاريع، ومجاوزة التحديات والعراقيل المختلفة التي تواجه الدعوة خلال مسيرتها وعملها.
ويبرز دور التربية الإيمانية كنوع من أنواع التربية، التي لا بد أن تهتم بها الحركات الإسلامية، سواء من حيث إشعال جذوتها في نفوس أفرادها، وكذلك جعلها الدافع الرئيسي لتحركاتهم وأعمالهم، بحيث يربطون كل ما يقومون به بتحقيق رضا الله تعالى، والفوز بجنته، ونيل الثواب في الآخرة؛ مما يحقق نتائج عظيمة، ويحدث نهضة إيمانية داخل الصف الدعوي.
لماذا التربية الإيمانية:
تستهدف التربية الإيمانية ربط الأفراد بأصول دعوتهم وما تستمد منه منهجيتها وفكرها، تمامًا كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضوان الله عليهم، حيث رباهم على القرآن الكريم، فهمًا وتلاوةً وتدبرًا؛ مما جعل معانيه وأحكامه تنغرس في نفوسهم وتنعكس على تصرفاتهم.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهدف لإنشاء جيل فريد، يستطيع تحمل مشاق الدعوة ودفع تكاليفها، ويصبر على البلاء والعوائق التي تواجه مسيرتهم، وهو ما قام به خير قيام، حتى كان أولئك الصحابة رضي الله عنهم نبراسًا منيرًا، نشروا الإسلام في أرجاء الأرض ليعم الخير العالم كله.
وفي طور سيناء علَّم الله موسى التربية الإيمانية بقسميها، النظري والعملي.
فالنظري كما كلم الله موسى صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، وبين الله له أنه الإله الذي لا إله غيره، وأمره بعبادته وطاعته، وأن الناس راجعون إلى ربهم، وسيحاسبهم على ما عملوا يوم القيامة، وحذره من ترك ما أمر به، ومن طاعة أهل الكفر والأهواء فقال سبحانه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} [طه:12–16].
ثم علم الله موسى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمليًا فقال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)} [طه:17-18].
فالله سبحانه أراد أن يعلم موسى صلى الله عليه وسلم معنى لا إله إلا الله عمليًا، فأمره بإلقاء عصاه، فلما ألقاها جاءها أمر الله فورًا فتحولت بأمر الله إلى حية: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)} [طه:19-20].
فأمره الله بإلقائها وهي نافعة، ثم أمره بأخذها وهي ضارة، تدريبًا له على الإيمان وتمام الطاعة، ليعلم أن كل شيء بيد الله: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه:21].
ولما عرف حقيقة الإيمان نظريًا وعمليًا أرسله الله إلى فرعون يدعوه إلى الله، فقال له ولأخيه هارون عليهما الصلاة السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه:43-44](1).
لا يصح أن تكون التربية الإيمانية مهمشة أو ثانوية في مقابل أمور أخرى،.
وبناءً على ذلك، لا يصح أن تكون التربية الإيمانية مهمشة أو ثانوية في مقابل أمور أخرى؛ ومن الخطأ اعتبارها مرحلة يتجاوزها الفرد بحيث يصبح فوق التربية؛ مما يساهم في انحراف المرء وتأثره ببعض المعوقات، وظهور العديد من المشاكل الداخلية والخارجية؛ ولهذا لا يمكن لأي تربية أن تنجح مالم تنطلق من قاعدة التربية الإيمانية، وتستشعر أهميتها طيلة الوقت.
والأصل أن الفرد كلما علت مرتبته ومنزلته زاد اهتمامه بالتربية، وخصوصًا الإيمانية؛ لما في ذلك من أثر على سلوكه، ومساعدة على تحقيق الاستقامة كما أراده الله، ولنستذكر ما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته عائشة رضي الله عنها.
عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى قام حتى تَفَطَّرَ رجلاه، فقالت عائشة له: «يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!»، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا»(2).
والتربية الإيمانية لا بد أن يراعى فيها المعنى الشرعي للإيمان، وشموله لكافة جوانب الحياة، وعدم التركيز على مجرد أداء الشعائر؛ بل الاعتناء بالأصل وهو أعمال القلوب.
إن الحاجة شديدة الإلحاح لإعادة النظر في كل الأعمال التعبدية التي يؤديها المسلم بداهة، العبادات التي يؤديها المسلم بشكلٍ تلقائي كأنها فروض ثقيلة يلزمه إسقاطُها، ليتفرّغ لما يتوهَّمه دورًا أكثر أهمية، سواء أكان عملًا سياسيًّا أو دعويًا أو علميًّا، أو غير ذلك مما ينشغل به بنو الإنسان عن حقيقة وجودهم وحقيقة دورهم في هذا الكون.
ذلك أن العظمة الإنسانية لا تكمُن في قدرة بني آدم على صناعة آلات معقدة، أو تجريد تصورات نظرية مركبة، وإنما في أهليّة الإنسان لتلقي الخطاب الإلهي، وجدارته بتلقي التوجيه الإلهي.
إن هذه العبادات المهجورة هي التي تُعيد صياغة الوجدان، وتفتح للإنسان باب تزكية نفسه، وترقى به في مدارج السلوك إلى الله، ومن ثمَّ تنعكِسُ على الاجتماع الإنساني بصورةٍ واضحةٍ عندما يتحقق الإجماع بها وحدها، ليتنامى أثرها المجتمعي الخلاصي كلما زاد عدد السالكين المخلصين؛ الذين يتعاملون مع الشهادتين بوصفهما إعادة تأسيس للوجود الإنساني والاجتماعي، وليسا محض كلمات يَقذِفُ بها اللسان.
ويتعاملون مع الصلاة بوصفها صلة مع مالك يوم الدين، المستعان على كل دابةٍ هو آخذ بناصيتها، ويتعاملون مع الزكاة بوصفها تزكية حقيقية للنفس، وتطهيرًا لها من آفات الشح والأثرة قبل أن تكون تزكية للمال، ويتعاملون مع الصيام بوصفه الرياضة الروحية الأهم، التي تفتح لهم بابًا ربانيًّا لمكابدة أهواء النفس وشهواتها، قبل أن يكون مواساة للفقراء.
إن الاستهانة الضمنية بهذه العبادات وغيرها، وإسقاطها يوميًا بغير تغيير حقيقي، يلمسه الإنسان في وجدانه وفي سلوكه وفي مجتمعه المحيط؛ يعني أنه أبعد ما يكون عن حقيقة الإسلام، وأبعد ما يكون عن حقيقة العبودية، وأبعد ما يكون عن حقيقة الاستخلاف.
إن هذا التهاون في أمر العبادة والتزكية لا يؤثر سلبًا في النفس فحسب، فيُضعفها ويُضعضِع قواها؛ بل يؤثر سلبًا في الاجتماع الإسلامي كذلك، فكل مُقصِّرٍ في أداء حق الله هو بالتالي مقصر في أداء حق الناس.
ولن تجد مقصرًا في حق الناس إلا وهو مقصر أصلًا في حق الله، وقبل ذلك وبعده ظالمٌ لنفسه.
وإذا كان القرآن صريحًا في التأكيد بأنَّ كل عملٍ قد يذهب جفاءً كالزَبَد، حاشا ما ينفع الناس؛ إذ يمكُث في الأرض، فإنه قد رسم لنا الطريق الوحيد لتحقيق ما ينفع الناس، إنه ليس ما يُعجبهم ولا ما يُريحهم بالضرورة، إنه ما يكون باسم الله، ما يبدأ حيث أَمَر، وينتهي حيث نهى، أن يكون العمل وصاحبه ظلًّا للوحي وللموحى إليه، لا يستقل بنفسه عنهما أبدًا، لا يستقل في الوعي، ولا يستقل في المنطلق، ولا يستقل في النهج، ولا يستقل في الوِجهة.
إن الصلاة في هذا التصور تصير بداية الحركة الجماعية ضد سكون الدروشة والتواكل؛ تصير توكُّلًا دوريًّا ولجوءًا مُتكررًا إلى الله، واستعانة به، تعكِسُ تمام إدراك المستخلَف لافتقاره الدائم إلى مولاه، إنها استعانة به سبحانه على النفس قبل أن تكون استعانة به على ما خلق، إنها حركة من الوَحشَةِ باتجاه المعيّة، حركة تعرُج بها إلى الله في كل يوم خمس مرات، هذا العروج الدوري المتكرر نفسه هو الذي يُعيد تغيير وجهة المجتمع، بعد أن يعيد صياغة وجدان أفراده...، كذا تصير الزكاة حركة للنفس تخرُج بها من الأثرة إلى الإيثار.
فأنت تُعطي بقلبك أولًا قبل أن تُعطي بيدك، والعامة في مصر يقولون على بعض العطاء إنه خرج من ذمة المعطي؛ أي خرج من ضميره، هو عطاء جوانيّ سابق على العطاء البرانيّ، ومنشئ له، وينسحب التصور على باقي العبادات بما لا يتسع المجال لبسطه.
إنَّ الوعي بقوة هذه الأركان، وبقوة هذه العبادات، وبقوة شعائر الإسلام جملة، فضلًا عن غائيتها في تحقيق استقامة الفرد النفسية وشد عضده روحيًا؛ هو أول حقيقة يتعيَّن على كل مجتمعٍ مهزومٍ يدّعي الإسلام مواجهتها، ومراجعة موقفه منها، وأداؤه لها، وذلك قبل أن ينظُر في الأسباب المادية (السياسية والاقتصادية والعلمية إلخ).
فبهذا فقط يختلف المجتمع المسلم عن المجتمع غير المسلم؛ إذ المجتمع المسلم مُبتعثٌ حصرًا لطاعة الله والدعوة إلى طاعته بنفوس أفراده، التي خضعت لبارئها حبًّا واختيارًا، ولم يُبتعَث لتحقيق الرفاه الاقتصادي، ولا لبناء المصانع أو الحضارات، ولا لمنافسة غيره في الاكتشافات العلمية(3).
تقوية الحماية الداخلية:
ومن ثم لا بد من تقوية الحماية الداخلية، التي تجعل المرء يراقب الله تعالى، ويستطيع السيطرة على نفسه وضبطها، ومن الوسائل التي تعين على تقوية الحماية الداخلية:
أ- الاعتناء بالإقناع: فالتوجيهات التربوية التي يتلقاها المتربون في مجتمعاتنا تعتمد على التوجيه المباشر، وتعتمد على تلقين النتائج والأحكام، وهذا لو نجح مع جيل لا يتعامل إلا مع من يربيه فإنه لن ينجح مع جيل لا يعد المربي فيه، على أحسن أحواله، إلا واحدًا من العوامل المؤثرة على المتربي، وهذا يتطلب مراجعة شاملة لمحتوى المواد التربوية، ولأساليب تقديمها، وإلى اعتبار القدرة على الإقناع من أهم معايير اختيار المربين.
ب- تنمية قدرات الانتخاب والاختيار واتخاذ القرار، فالمتربي كان فيما سبق، في كثير من مواقفه، أمام موقف واحد أو رأي واحد، وهذا يجعله لا يعاني من صعوبة اتخاذ القرار، أما الآن فهو أمام متغيرات عديدة، وأمام آراء وبدائل متكافئة في درجة إقناعها له.
وهذا يتطلب أن تضمن الخبرات التربوية ما يعين المتربي على الاختيار بين البدائل واتخاذ القرار، ومراعاة ذلك من خلال ما يقدم للمتربين، سواء في اختيار موضوعات ضمن البرامج العلمية والثقافية تحتاج إلى الاختيار واتخاذ القرار، أو في طريقة تقديم المادة العلمية، بحيث يعطى المتربي الفرص في التدرب على الاختيار واتخاذ القرار تحت إشراف المربين؛ مما يزيد من قدرته على الاستقلال بنفسه في ذلك، أو في وضعه في مواقف عملية تتطلب الاختيار بين البدائل واتخاذ القرار.
ج- تنمية الإرادة وتقويتها: تعتمد العوامل والمتغيرات الجديدة على إثارة الشهوات والغرائز، التي كثيرًا ما يؤتى منها المرء من جهة ضعف إرادته، وقلة قدرته على ضبط نفسه، والذي يعينه على ذلك، بالإضافة إلى صحة العلم والإدراك، قدرته على مواجهة دواعي النفس وغرائزها، ومن ثم كان لا بد من الاعتناء بتقوية الإرادة، بالإضافة إلى تقوية التربية الإيمانية.
إعادة النظر في أهداف التربية:
ويتأكد هذا في التربية التي تتم من خلال المؤسسات الدعوية؛ فهي تهدف إلى تحقيق الاستقامة لدى المرء، وكثيرًا ما تتجاهل الجوانب التي يحتاج إليها في حياته الدنيا؛ بل ربما وقفت عائقًا دونها لأجل أن يتاح وقت أطول للمتربي، يتلقى من خلاله التربية في هذه المؤسسات الدعوية.
ويتطلب ذلك الاعتناء بالإعداد لمتطلبات الحياة المادية، من خلال التعويد على تحمل المسئولية، وتصحيح المفاهيم المغلوطة في ذلك، وبيان أنه من تقوى الله وطاعته أن يسعى المرء في سبيل تحصيل ما يحتاجه من مطالب الدنيا(4).
الاهتمام بالتربية الإيمانية:
هناك حلقة مفقودة بين الأقوال والأفعال، والسبب الرئيسي في ذلك هو ضعف الإيمان، فعندما يُهيمن الإيمان الحي على القلب فإنه يُولِّد في قلب صاحبه طاقة عظيمة، وقوة روحية هائلة، تدفعه للقيام بالأفعال التي تناسب المواقف المختلفة، من سرَّاء أو ضرَّاء...؛ لذلك فلو تجاوزنا البدء بالتربية الإيمانية فإن الفجوة ستزداد بين الواجب والواقع، وبين العلم والعمل(5).
التربية الإيمانية تولد الطاقة والدافعية التي تعين على القيام بالواجبات الدعوية المختلفة، وتظهر داخل الصف الدعوي أبطالًا لا يرهبون بطشًا ولا عدوانًا، ويضربون أروع الصور في الجهاد والتضحية.
التربية الإيمانية تولد الطاقة والدافعية، التي تعين على القيام بالواجبات الدعوية المختلفة، وتظهر داخل الصف الدعوي أبطالًا لا يرهبون بطشًا ولا عدوانًا، ويضربون أروع الصور في الجهاد والتضحية.
والتربية الإيمانية تنمي الوازع الداخلي الذي يضبط سلوك الصف المسلم، ويقوي وحدتهم، كما أن لها دورًا مهمًا في تحقيق المراجعة الذاتية، والاعتراف بالتقصير والخطأ حال حدوثه؛ لأنها تربي في المسلم الخوف من الله، ومحاسبة النفس، والسيرة النبوية تشهد عشرات القصص التي يأتي فيها الصحابة يعترفون ببعض أخطائهم، ويسألون عن كيفية غفران الله لهم.
التربية الإيمانية لا تعصم الأفراد من الوقوع في الأخطاء بالمطلق، لكنها، حال وجودها، ترسخ لدى الفرد وازعًا داخليًا يجعله يصحح خطأه بعد وقوعه، ويتجاوزه وكأن شيئًا لم يحدث.
إضافة لما سبق فالتربية الإيمانية تنمي الإيجابية لدى الأفراد، وتحقق الذاتية الدعوية لهم، بحيث تجعل منهم أصحاب همم ومبادرات وعطاء؛ مما يعني القضاء على البطالة الدعوية، وانتظار الأوامر للتحرك دون وجود دافع ذاتي، ولنتدبر قوله تعالى في وصف المؤمنين، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون:57-61].
وهذه التربية الإيمانية هي التي جعلت أنس بن النضر رضي الله عنه يستشهد في سبيل الله، ضاربًا أروع الأمثلة في البطولة والتضحية، حيث يروى عنه أنه أسف لعدم شهوده بدرًا، فقال: «أول مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، أما والله، لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع»، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: «يا أبا عمرو، أين؟»، قال: «واهًا لريح الجنة، أجدها دون أحد»، فقاتل حتى قُتِل، فَوُجِد في جسده بضع وثمانون، من بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت عمتي الرُّبَيِّعُ بنت النضر: «فما عرفت أخي إلا ببنانه»(6).
والتربية الإيمانية تسهل على الدعاة توضيح المقاصد والغايات الدعوية التي تبغيها الدعوة، بغض النظر عن أذى الناس وتجاهلهم للدعوة، ومحاولتهم لحرف بوصلتها وتشويهها، امتثالًا لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فهي تجعل تحقيق مرضاة الله والسعي للتمكين لهذا الدين بين عينيه، لا تحيد بوصلته مهما كانت الظروف، ولا تؤثر على وجهته وطريقه، وهو ما عبر عنه خبيب بين عدي رضي الله عنه، قبل استشهاده، حينما قال:
ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي
وللتربية الإيمانية دور هام في صمود الدعوة أمام المحن والشدائد، وقلب موازين المعركة لصالحهم، وتحقيق الانتصار رغم قلة عددهم وضعف قوتهم، فقوة الإيمان تهب المؤمنين دافعًا يعجز عن إخماده أي شيء، ويكفي أن نتدبر الآيتين التاليتين لنؤكد على ذلك:
{فلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩]، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [آل عمران:173-174](7).
أهداف التربية الإيمانية:
يمكننا أن نُصيغ هذه المراحل في أهداف ثلاثة؛ نضعها أمامنا ونسعى للوصول إليها، هذه الأهداف هي:
أولًا: الهدف القريب: وهو تمكُّن واستحكام اليقظة من القلب، فلا نريد يقظة لحظية؛ بل نريدها يقظة حقيقية دائمة، تتمكن من القلب لتبدأ معها الحياة تدب في جنباته.
ثانيًا: ولادة القلب الحي: هذا الهدف لا يمكن الوصول إليه إلا باستمرار تزويد القلب بالإيمان بعد تمكُّن اليقظة منه، والمقصود بولادة القلب الحي؛ أي: تحرره من أَسر الهوى وانفصاله عنه، أو بمعنى آخر: انقطاع الحبل الذي يجمع العلائق التي كان القلب مُتعلقًا بها من دون الله، كالمال والجاه والناس، التي تحول بينه وبين التعلق التام بالله عز وجل، والالتزام به، والتوجه الدائم نحوه.
هذه الولادة تتم عندما يعلو النور في القلب على الظلمة بصورة كبيرة، ومن علامات حدوثها: رقة القلب وسرعة تأثره بالمواعظ، وهبوطه وخشوعه وسجوده لله، وسهولة استدعائه إذا أراد صاحبه استحضاره.
ومن آثارها كذلك: تحسن ملحوظ في علاقات المرء المختلفة، فيزداد قربه من ربه، وتعلقه به، وتنقص رغبته في الدنيا بصورة ملحوظة، ويقل طمعه في الناس، ويزداد تشميره نحو الجنة.
ومن آثارها كذلك: راحة البال، والشعور بالسكينة والطمأنينة والسلام الداخلي.
الهدف الثالث: الحضور القلبي الدائم مع الله، والتعلق الشديد به سبحانه، أو بمعنى آخر: تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه»(8)، وهذا يحدث إذا ما استمر الإمداد الإيماني للقلب، فيزداد فيه النور، حتى يصير قلبًا سليمًا أبيض.
ومن آثار ذلك: خضوع المشاعر والسلوك في مجمله لله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»(9).
وقال: «لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه...»(10).
ومن آثارها كذلك: التعامل مع أحداث الحياة وتقلباتها المختلفة تعاملًا إيمانيًّا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، ولا يكون هذا إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(11).
والقلب في هذه المرحلة العظيمة يعيش في سعادة عظيمة، وعلاقة متينة مع ربه، فهو شاكرٌ لأنعمه، صابر على بلائه، راضٍ بقضائه، مطمئن بذكره، في شوق دائم إليه وتوجه مستمر نحوه(12).
ومع هذه الجولة السريعة مع التربية الإيمانية نستطيع أن نقول: من هنا نبدأ.
***
____________
(1) موسوعة فقه القلوب (3/ 2080).
(2) أخرجه مسلم (2820).
(3) من هنا نبدأ، عبد الرحمن أبو ذكري، مركز نماء.
(4) موسوعة الإدارة والتطوير والتربية (26/ 11).
(5) نظرات في التربية الإيمانية، ص7.
(6) أخرجه الترمذي (3200).
(7) الاهتمام بالتربية الإيمانية .. من هنا نبدأ، موقع: بصائر.
(8) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9).
(9) أخرجه أبو داود (4683).
(10) أخرجه أحمد (27530).
(11) أخرجه مسلم (2999).
(12) نظرات في التربية الإيمانية، ص39.