logo

موانع الانتفاع بالعمل في الآخرة


بتاريخ : الأربعاء ، 16 جمادى الآخر ، 1443 الموافق 19 يناير 2022
بقلم : تيار الاصلاح
موانع الانتفاع بالعمل في الآخرة

إنَّ من علامة توفيق الله عزّ وجل للعبد أن يوقظه من غفلته ويوفقه لتدارك عمره القصير فيما ينفعه غدًا في الدار الآخرة.

ومن علامة الخذلان أن ينسى العبد نفسه ويفرِّط في ساعاته وأيامه ولياليه، وينصرم العمر القصير دون أن يقدِّم لنفسه ما ينفعها عند الله عزّ وجل فضلًا عمَّا يضرُّه ويهلكه.

وعندما ينظر الواحد منَّا إلى حاله وحال كثير من النَّاس يجد التفريط وتضييع الأوقات بما لا ينفع أو بما يضرُّ، عياذًا بالله تعالى.

ولو حاسب كلّ واحد منَّا نفسه وحاول الرجوع إلى ما مضى من عمره الذي مرَّ كلمح البصر، وما عمله في ذلك العمر من القربات، أو ما ضيَّعه من الأوقات؛ لوجد النتيجة جدّ محزنة، إلا من رحم الله تعالى.

لأنَّ ما ضاع من الأوقات بما لا ينفع أو بما يضرُّ أكثر من تلك التي عمل فيها بالطاعات.

فإذا أُضيف إلى ذلك أنَّ العبد لا يضمن أيضًا انتفاعه من طاعاته وقرباته التي أدَّاها، وذلك لتعرضها لبعض المفسدات والآفات؛ كالرياء والسمعة والعجب، أو عدم موافقتها لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فماذا سيبقى من الطاعات القليلة إذا مُرِّرَت على مصفاة الإخلاص والمتابعة؟ إنَّه لا يبقى إلا أقل القليل.

إذن فالأمر جد خطير، ولا يجوز للعبد أن يهمل نفسه ويتركها بلا محاسبة وتدقيق وتفتيش؛ حتى لا يأتي يوم القيامة فيبدو له من الله ما لم يحتسب، والعياذ بالله تعالى.

معرفة موانع القبول:

والأصل في معرفة هذه الموانع قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19].

وهذه الآية وإن كانت قد انطوت على ذكر الشروط للانتفاع بالعمل الصالح؛ فإنَّ مفهوم المخالفة فيها يشير إلى موانع الانتفاع، حيث ذكر الله عزّ وجل في هذه الآية الكريمة أنَّ من شروط قبول العمل عند الله عز وجل وكونه مشكورًا عنده سبحانه ما يلي:

- إرادة الدار الآخرة بقوله وعمله.

- تصديق هذه الإرادة والسعي إلى الآخرة بعمل موافق لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

- أن يكون صاحب العمل موحِّدًا، مؤمنًا بالله عزّ وجل، غير مشرك به.

وهذا ما أشار إليه الفخر الرازي في تفسيره حيث قال: فشرط تعالى فيه شروطًا ثلاثة:

الشرط الأول: أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذا النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات»، ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته.

والشرط الثاني: قوله: {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا} وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات، وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان....

والشرط الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهذا الشرط معتبر، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكورًا والعمل مبرورًا.

واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسنًا في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول والإتيان بأفعال تدل على كونه معظمًا عن ذلك الشاكر، والله تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه، وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلًا كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى (1).

يقول الإمام ابن كثير عند هذه الآية: وقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} أي: أراد الدار الآخرة، وما فيها من النعيم والسرور، {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا} أي طلب ذلك من طريقِه، وهو متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، أي: وقلبه مؤمن، أي مصدِّق بالثواب والجزاء {فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] (2).

وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 18- 19] (3).

قال القرطبي: وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم (4).  

فالعبد إنما يعطى على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة.

استنباط الموانع:

مما سبق نستنبط الموانع التي تحول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله في الآخرة، وهي كما يلي:

أن يكون العامل مشرِكًا أو غير مؤمن:

وذلك بأن لا يكون صاحب العمل مؤمنًا بالله عزّ وجل ولا بوعده ووعيده، أو كان مشركًا به أو مرتدًا عن دينه.

فلو تقرَّب العبد إلى الله عزّ وجل بقربات كثيرة من صلاة وصيام وغيرها وهو مشرك بالله عزّ وجل الشرك الأكبر، وذلك بصرف أيّ نوع من أنواع العبادة لغير الله عزّ وجل؛ فإنَّه بذلك لا ينتفع بأيّ عمل صالح عند الله عزّ وجل؛ لأنَّ توحيد الله عزّ وجل والبراءة من الشرك وأهله يعدُّ الشرط الأعظم في الانتفاع من بقية الأعمال والأقوال، وبدون ذلك تحبط جميع الأعمال.

كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ..ِ} [الأنـبياء: 94]، إلى غيرها من الآيات.

وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلا ما لو فعله في الكفر أخذ به، وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه (5).

وخطورة هذا المانع أنَّه يحبط جميع الأعمال، بينما الموانع التالية تحبط العمل الذي وجدت فيه فقط.

ولا ينبغي للعبد أن يستهين بهذا المانع ولا أن يأمنه، بل عليه أن يخافه، وأن يفتِّش في عقيدته وأعماله كلَّها خشية الوقوع في هذه الآفة العظيمة التي تُحبط الأعمال ولا يغفرها الله عزّ وجل إلا بتوبة.

ومَن يأمن الشرك بعد إمام الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ حيث دعا ربّه بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

إرادة الدنيا دون الآخرة:

وذلك بإرادة العبد بعمله الدنيا وليس الآخرة، وهذا مانع كبير يحول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة، وهذا يكثُر في عمل المرائين والمريدين بأعمالهم شهرة، أو منصبًا، أو أيّ عرَض من أعراض الدنيا الفانية، فهؤلاء لا خلاق لهم في الآخرة من تلك الأعمال الملوَّثة.

قال الله تبارك وتعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15- 16].

عن ابن عباس، في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا، يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا، صوما أو صلاة أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين (6).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانًا قارئ فقد قيل ذاك.

ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذاك.

ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء ، فقد قيل ذاك»، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» ().

وقد أدخل العلماء في ذلك من أدّى العمل بإخلاص لله تعالى، لكنّه أراد من عمله وتوبته وتركه للمعاصي آثارها الدنيوية، وذلك بأن يبارك الله له في المال والولد ويجنِّبه المصائب والجوائح في الدنيا فقط؛ فمن كان دافعُه إلى العمل إرادة ثواب عمله في الدنيا فقط فإنَّ هذه الأعمال معلولة غير مقبولة وغير مشكورة عند الله عزّ وجل يوم القيامة.

أمَّا من أراد بعمله الآخرة وأراد مع ذلك بركتها في الدنيا؛ فهذا مرغَّب فيه وسعيُه مشكور عند الله عزّ وجل، إذا كمّل الشروط الأخرى لقبول العمل.

مخالفة السُنة الكريمة:

بأن يكون سعيه وعمله مخالفًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن من شروط الانتفاع بالسعي والعمل أن يكون موافقًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، غير مبتدع ولا مبدل، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لآية الإسراء حيث قال: {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا} أي: طلب ذلك من طريقِه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن أوضح الأدلة في أن تخلف المتابعة عند العمل يمنع من الانتفاع به عند الله عز وجل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (8).

ومن هنا وجب الحذر من الابتداع والتعبد لله عز وجل بما لم يأذن به سبحانه أو يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن التفريط في ذلك يضيع على العبد سعيه وعمله ولو كان صاحبه مخلصًا لله فيه مريدًا به الدار الآخرة؛ لأن قبول العمل عند الله عز وجل مقيد بالاتباع مع الإخلاص.

فمصفاة الإخلاص ترد كل عمل لم يرد به وجه الله عز وجل، ومصفاة المتابعة ترد كل عمل لم يؤد على وجه الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

حقوق العباد ومظالمهم:

يقول الله عزّ وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 30- 31]، والخصومة تكون فيما بين العباد من مظالم.

فعن الزبير بن العوّام رضي الله عنه قال: لما أنزلت هذه الآية، قلت: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواصِّ الذنوب؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم ليُكرِّرن عليكم حتى يُؤدى إلى كل ذي حق حقه»، قال الزبير: والله إن الأمر شديد (9).

ومن الأحاديث المشهورة في ذلك حديث المفلس الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: «إنَّ المفلِّس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة؛ وكان قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فينقص هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ قال: فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياتهم فطرحت عليه ثمّ طُرح في النّار» (10).

وهذا المانع الخطير من موانع الانتفاع بالعمل الصالح يوم القيامة من أشدّ الموانع خطرًا وأصعبها تحرزًا، فلا يسلم من تبعات العباد إلا من رحم الله عزّ وجل، وقليل ما هم.

والغرماء يوم القيامة لا يقبلون من عمل خصومهم إلا النظيف، والذي تجاوز مصفاة الإيمان والإخلاص والمتابعة، أمَّا العمل الملوَّث فلا يقبلونه لعدم نفعه، فإذا كان العمل النظيف أقلّ القليل كما سبق بيانه؛ لأنَّه ثمرة تصفيات كثيرة، وكلّ مصفاة تسقط منه جزءًا، إذا كان الأمر كذلك فإنَّ المغبون الخاسر من ضيَّع هذا القليل ووزَّعه يوم القيامة بين خصومه وغرمائه، وحالَ بين نفسه وبين الانتفاع بأعماله المقبولة عند الله عزّ وجل، وذلك بتفريطه في الدنيا في حقوق العباد أو الاعتداء عليهم في دينٍ أو عقلٍ أو نفسٍ أو مالٍ أو عِرض.

وممَّا ينبغي التنبيه عليه أنَّ أكثر الخصوم يوم القيامة هم من أقرب النّاس للنفس؛ كالوالدين، والأبناء، والزوجة، والزوج؛ ذلك لما بينهم من الحقوق والواجبات ووجود الاحتكاك الدائم بينهم والاجتماع معهم في كثير من الأوقات، فالحذرَ الحذرَ من ظلم الأبناء في دينهم وإهمال تربيتهم والنفقة عليهم… إلخ، والحذرَ الحذرَ من بخس الوالدين حقوقهم وعدم الإحسان إليهم، وكذلك الحال في بقية الأقارب والأباعد (11).

معصية الخلوات:

واعلم علمني الله وإياك أن من أسباب عدم الانتفاع بالأعمال وردها على صاحبها انتهاك محارم الله تعلى في الخلوات، ففي سنن ابن ماجه بسند جيد من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورًا»، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: «أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل ما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» (12).

استخفوا تحريم ما حرم الله عليهم من محرماته بارتكابها وعملها؛ كأنه تعالى لا يراهم.

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل   خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة    ولا أن ما يخفى عليه يغيب

قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] إذا خلو بالمعاصي بين الحيطان والجدران ارتكبوها وفعلوها ولا يبالون بنظر الله عز وجل لهم ولا باطلاع الله تبارك وتعالى إليهم.

إن شأن هؤلاء الخوانين الراسخين في الإثم أنهم يستترون من الناس عند ارتكاب خيانتهم واجتراحهم الإثم; لأنهم يخافون ضرهم، ولا يستترون من الله تعالى بتركه لأنهم لا إيمان لهم، إذ الإيمان يمنع من الإصرار والتكرار، ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم ولا تتكرر حتى تحيط بصاحبها خطيئته، على أنه لا يمكن الاستخفاء منه تعالى فمن يعلم أنه تعالى يراه وراء الأستار في حنادس الظلمات وهو المؤمن الصادق، فلا بد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى أو خوفًا من عقابه (13).

قال السعدي: وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم (14).

الـمَنٌّ بالأعمال:

اعلم زادك الله علمًا: أن من موانع قبول الأعمال المن بها {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].

يأيها المؤمنون لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء لا من أجل رضا الله، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحبًا للظهور، مثل حجر أملس لا ينبت شيئًا، ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب، فانكشف حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإِنبات أي شيء عليه.

قال عبد الله: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ثلاث لا يدخلون الجنة، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، والمرأة المترجلة، المتشبهة بالرجال، والديوث، وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» (15).

والمن: أن يَعُدَّ الإنسان إحسانه على من أحسن إليه، متطاولًا به عليه، مبينًا له: أنها فضل ساقه إليه، غير مشكور، وإن ذلك فيه اتجاه إلى طلب المثوبة من العبد، لَا من الرب، فله ما اختار (16).

أسباب قبول الأعمال:

بعد أن رأينا الجانب المظلم فيجب أن نبين البديل المشرق، فكما أن هناك أشياء تمنع قبول الأعمال، فيجب أن عرف الأشياء التي تؤدي بالمرء إلى قبول عمله، والتي منها:

أولًا: الإيمان بالله تعالى:

وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94].

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا -وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه، من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله -بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة (17).

ثانيًا: الإخلاص لله تعالى:

عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بشر هذه الأمة بالنصر والسناء والتمكين فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» (18).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» (19).

ثالثا: الاتباع:

لأن من شروط الانتفاع بالسعي والعمل أن يكون موافقًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولا مبدل، ومن أوضح الأدلة في أن تخلف المتابعة عن العمل يمنع من الانتفاع به عند الله عز وجل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (20)، ومن هنا وجب الحذر من الابتداع والتعبد لله عز وجل بما لم يأذن به سبحانه أو يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن التفريط في ذلك يضيع على العبد سعيه وعمله ولو كان صاحبه مخلصًا لله فيه مريدًا منه الدار الآخرة؛ لأن قبول العمل عند الله عز وجل مقيد بالشروط السالفة الذكر مجتمعة كلها في العمل؛ فلو تخلف واحد منها بطل العمل وحِيلَ بين صاحبه وبين الانتفاع منه.

----------

(1) تفسير الرازي (20/ 317).

(2) تفسير ابن كثير (5/ 63).

(3) تفسير ابن كثير (2/ 130).

(4) تفسير القرطبي (10/ 235).

(5) التحرير والتنوير (2/ 333).

(6) تفسير ابن كثير (4/ 311).

(7) أخرجه الترمذي (2382).

(8) أخرجه مسلم (1718).

(9) أخرجه أحمد (1434).

(10) أخرجه الترمذي (2418).

(11) موانع الانتفاع بالعمل يوم القيامة/ ناصحون.

(12) أخرجه ابن ماجه (4245).

(13) تفسير المنار (5/ 325).

(14) تيسير الكريم الرحمن (ص: 200).

(15) أخرجه أحمد (6180).

(16) زهرة التفاسير (2/ 975).

(17) تفسير ابن كثير (4/ 601).

(18) أخرجه ابن حبان (405).

(19) أخرجه مسلم (2985).

(20) سبق تخريجه.