تربية المشاعر
إن لكل واحد منا عواطف تسيطر عليه، ومشاعر تحركه وتلعب دورًا كبيرًا في توجيهه والتحكم في مساره، كما تساهم بشكل كبير في نجاحه وفشله، وإنَّ إجادة بعض الناس لفن توظيف المشاعر بصورة إيجابية محفِّزة للهمة ومفجِّرة للطاقة وداعمة للاستقرار النفسي، هي من ركائز صناعة النفوس العظيمة، في حين تمثِّل المشاعر المتفلتة التي تسيطر على صاحبها دون أن يسيطر هو عليها عائقًا كبيرًا أمام تقدُّم صاحبها، وتمنعه عن تحقيق أي إنجاز.
فليست الأفكار وحدها ولا الخبرات والمعلومات هي التي تحدد توجُّهات الإنسان وترسم سلوكه أو تعبِّر عنه وعن شخصيته، ولكنْ مشاعرُه أيضًا؛ لأنها جزء أساسي من تكوينه البشري؛ فللعاطفة إذًا دور كبير في تشكيل بناء الإنسان الداخلي من جهة، ورسم علاقاته الخارجية ومواقفه تجاه الآخرين من جهة أخرى.
لذا فإن تفعيلها بطريقة صحيحة تسهم في تحفيز الهمة، وحماية حياة الإنسان، فضلًا عن استواء الشخصية واستقرارها، أما إن أُهملت أو عوملت بطريقة خاطئة فستكون من أهم أسباب الاضطراب النفسي، والفشل في الحياة وتدميرها؛ فكم من شخص تحولت حياته إلى بؤس دائم نتيجة عدم ضبط مشاعره وردّات فعله؛ لذا ينبغي للمربي أن يراعي هذه المسألة ويعتني بها.
والنفس الإنسانية بما تحويه من مخزون عاطفي كبير هي مجال العمل الأول للمربي، وحجر الأساس في العمل التربوي على اختلاف صوره وأشكاله، ولهذا فإن غفلة المربي عن العناية بتلك المشاعر وتهذيبها يعني مواجهة العديد من المشكلات، والفشلَ في الوصول للأهداف التربوية المرجوة أو العجزَ عن تحقيق بعضها.
لذا اهتمّ الإسلام بالمشاعر، ووجه برعايتها وإشباعها؛ حتى إنَّه عدَّها جزءًا أصيلًا في إيمان المرء لا يكتمل إلا به ولا ينمو إلا بنمائه؛ فالحب والبغض في الله أوثق عرى الإيمان.
عن البراء بن عازب، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أتدرون أي عرى الإيمان أوثق؟» قلنا: الصلاة قال: «الصلاة حسنة وليس بذاك» قلنا: الصيام فقال مثل ذلك حتى ذكرنا الجهاد، فقال مثل ذلك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» (1).
فيه دليل على أنه يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون له أصدقاء وإخوان يحبهم في الله، بيانه أنك إذا أحببت إنسانًا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله، فإن عصاه فلا بد أن تبغضه؛ لأنه عاص للَّه وممقوت عند الله، فمن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان وصفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات (2).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» (3).
وفيه الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم؛ كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم والرفق بها، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه وفى كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو بهيمة لا تقدر على النطق وتبيين ما بها من الضر، وكذلك ينبغي أن يرحم كل بهيمة وإن كانت في غير ملكه، ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له (4).
عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (5)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن المؤمن يألف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (6).
فهذه الأحاديث الشريفة تبين أن الحق في هذا الأمر هو الوسط، وهو أن تُعطى النفوس حقها من الجانب الشعوري والاحساس بقيمة النفس، ومحاولة رفعها وتعزيزها، والابتعاد عن هدمها وتحطيمها، حتى تتربى تربية حسنة مستقيمة دون إفراط أو تفريط.
والدارس للعلاقات الإنسانية يلحظ أنه لا تكاد تخلو علاقة من نوع من أنواع المشاعر التي تؤثر في استمرار تلك العلاقات وتوجيهها، كما أنها تلون حياة الإنسان بالفرح أو الحزن، والأمل والتفاؤل أو اليأس والإحباط، والحب أو الكراهية، ودون هذا التلون تصبح الحياة رتيبة مليلة.
فكلما اهتم المربي برعاية مشاعر المتربي وتنميتها؛ كان أنجح في تربيته، وأقدر على التأثير في تلقيه وتفاعله ونموه، والوصول به إلى الأهداف المرجوة.
علاقة المشاعر بالسلوك الإنساني:
هناك علاقةٌ تبادلية بين المشاعر والسلوك، فالسلوك الذي يصدر عن الإنسان يكمن خلفه مسببات ودوافع، وهذه الدوافع تهدف لإشباع إحدى حاجات الإنسان، وإشباع تلك الدوافع ينضبط بحدود الشرع الحنيف؛ فتتحول الأفكار مع الأيام إلى معتقدات وقيم راسخة، تترجم في نفس الإنسان إلى مشاعر، والمشاعر تَصنع وتولِّد السلوك.
من خلال السلوكيات والانفعالات المصاحبة للمشاعر يستطيع الشخص التعبير عما في داخله وعن حاجاته، وتعتبر تلك الانفعالات الوسيلة التعبيرية الأساسية لدى الأطفال بالأخص في مرحلة الطفولة المبكرة.
الانفعالات السلوكية هي مؤشرات على المشاعر؛ فمثلًا: منظر الوجه الضاحك يعبر عن مشاعر الفرح والسعادة والرضا، وتعبيس الوجه يعبر عن مشاعر الضيق والألم والحزن.
وفي حديث كعب بن مالك قال: فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب.
وفيه أيضًا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه (7).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا (8).
تمثِّل المشاعر المتفلِّتة التي تسيطر على صاحبها دون أن يسيطر هو عليها عائقًا كبيرًا أمام تقدُّمه، وتمنعه عن تحقيق أي إنجاز، وتوقعه في سلوكيات خاطئة تجعله يعيش في حالة من الندم وتأنيب الضمير، وهنا يأتي موضع النصيحة النبوية الثمينة: «لا تغضب» (9).
وتلعب المشاعر دورًا مؤثرًا في تخفيف ثقل ومشقة المهام والواجبات والتكاليف؛ فالمشاعر الإيجابية تجاه سلوك معين ترفع الهمة وتزيد من الاستعداد لعمله دون ضجر أو ملل، وبالعكس لو فقدت تلك المشاعر الإيجابية؛ فقد تدفع الشخص إلى التهرب من القيام بالسلوك المكلف به أو تأديته بأداءٍ ضعيفٍ وصورة روتينية.
والمشاعر هي البوابة الذهبية والمدخل الرئيسي لتربية السلوك وتعديله، فالمشاعر بمثابة الوقود الذي يحرك عجلة السلوك ويحفزه، فما تشعر به النفوس تطلبه، لذا عني النبي صلى الله عليه وسلم بتنمية مشاعر أصحابه، فعَظّم اللهَ تعالى في نفوسهم حتى أصبحت مرضاته غاية مطلبهم، وصوّر لهم الجنة بأنَّ فيها «ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (10)، فاشتاقت لها نفوسهم وعملوا من الأعمال ما يُبلِّغهم إياها.
وعلّم الإسلام أتباعه ضبط مشاعرهم لما له من أثر كبير في ضبط سلوكياتهم، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩].
استثارة المشاعر وتوظيفها قد تُحدث تغييرًا في السلوك أسرع من المنطق والتفكير، وإجادة المربي لفن توظيف المشاعر بصورة إيجابية محفِّزة وداعمة للاستقرار النفسي يعدُّ من ركائز صناعة النفوس العظيمة وتوجيهها نحو السلوك السوي، وقد حفلت نصوص الكتاب والسنة بالكثير من الخطاب المحرك للمشاعر الحامل على الاستجابة لما يُطلب من النّاس والارتداع عمّا يُزجرون عنه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: ١٦٥].
وقوله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التّوبة: ٢٤].
وهناك نصوص كثيرة توضح أثر المشاعر على السلوك؛ كالفرح والحزن والغضب والطمأنينة والخوف، منها:
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: ١٠]، قال ابن كثير رحمه الله: كادت من شدة وَجْدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها، لولا أن الله ثبتها وصبرها (11).
قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩]، فعلم الإسلام أتباعه ضبط مشاعرهم لما له من أثر كبير في ضبط سلوكياتهم.
قال تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [القصص: ٢٣]، قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا والحزن صبرًا (12).
عن أبى بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» (13).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» (14)، فمِن رحمة الله أنه جعل الطلاق لا يقع في حالة الغضب الشديد الذي يغلق على صاحبه.
الأدوار الأساسية للمربي تجاه تربية المشاعر:
دور المربي لا يقف عند إقامة علاقات اجتماعية جيدة مع المتربي ومؤانسته فحسب؛ لكنه يتعدى ذلك إلى العمل على بناء مشاعره، وتعويده على ترجمتها في سلوكيات إيجابية تعود عليه وعلى من حوله بالنفع، ومن ذلك ما يلي:
أولًا: الاستعداد التربوي:
وذلك بأن يستشعر أهمية دوره وغايته، ويرفع من وعيه بمفهوم المشاعر والعوامل المؤثرة فيها وأساليب تربيتها وضبطها، مع الإلمام بالمعارف والعلوم التي تُساعده على فهم مشاعر المتربي.
ثانيًا: القدوة:
فالمربي محط أنظار المتربي، وطريقة تعامله مع مشاعره الإيجابية كالفرح والسعادة، أو السلبية كالقلق والاضطراب، تنعكس في مشاعر المتربي، ومنه يتعلم أساليب التعبير عنها، ويقلدها ويعبر عنها بالطريقة نفسها دون وعي.
ومن الجوانب المنوطة بالمربي في هذه المسألة:
ضبط المربي لانفعالاته المعبرة عن مشاعره، فعندما يشاهد المتربي طمأنينة مربيه في التعامل مع موقف ما يشعر تجاهه بالراحة، ولو واجه موقفًا مشابهًا مستقبلًا فإن هذا الشعور يصاحبه ويتفاعل معه كتفاعل قدوته، وعلى النقيض كما هو في المثال المشهور؛ فإن شعور الأم بالخوف من الحشرات وصراخها ينعكس على الأبناء بالطريقة نفسها، فينتقل إليهم القلق تبعًا لذلك، كما أن الحديث مع المتربي بصورة انفعالية شديدة اللهجة بصفة متكررة تجعله يكتسب هذه الطريقة في التعبير عن مشاعره.
إبداء المربي لبعض مشاعره والتعبير عنها أمام المتربين: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُظهر مشاعره لأصحابه ويعبر عنها، يقول أبو سعيد الخدري: فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه (15)، وفي قصة توبة كعب بن مالك قال: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك» (16).
وعن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله (17).
احترام مشاعر الأخرين أمام المتربي: فالمربي الذي يراعي مشاعر الآخرين ويتعامل معهم بلطف على مرأى ومسمع من المتربي يزرع محبته في قلبه، ويشجعه على التخلُّق بالخلق نفسه، أما المربي الذي يستخف بمشاعر الآخرين ويتسلط عليهم فإنه يزرع في نفس المتربي مشاعر الضغينة والكره، ويزرع في نفسه احتقار الآخرين، ويدفعه ذلك للبحث عن أخطائهم والاستخفاف بمشاعرهم.
استثمار المربي مشاعره في التوجيه التربوي والتعامل مع المتربي: وقد وجه الخطاب القرآني الرسولَ صلى الله عليه وسلم لاستثمار العاطفة في تبليغ الرسالة وكسب اهتمام المجموعة بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: ١٥٩].
فهذا خطاب من الله جل جلاله لخير مربي وأعظم معلم صلى الله عليه وسلم يقول له: إن من رحمة الله بك وبأصحابك أن ألان الله قلبك لهم، فخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وترفقت بهم، وحسنت لهم أخلاقك، ووطئت لهم جانبك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.
ولو كنت فظًا سيئ الخلق غليظ القلب قاسيه لانفضوا من حولك، وابتعدوا من عندك، لأن النفوس البشرية تنفر ممن يبغضها ولا يحبها ولا يأخذ بنفسيتها ولا يعطيها حقها من العطف والحنان والشعور بالمحبة ولذلك قال له: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.
ثالثًا: بناء المشاعر:
ومن ذلك:
- اتخاذ التدابير التي تتيح للطفل نموًا طبيعيًا لمشاعره، والمحافظة على سلامته الجسدية والنفسية.
- حماية الطفل من مظاهر الانتهاك والاستغلال وسوء المعاملة، أو الشعور بالذل والخضوع.
- إشعار المتربي بأنه متقبَّل من محيطه، مما يشعره بالاحترام والاهتمام، ويُسهم في تكوين مشاعره الإيجابية وردّات فعله تجاه نفسه والآخرين.
- غمر المتربي بدفء المشاعر، وإشباع حاجته من كلمات الحب والتقدير والفخر به، وأن وجوده في حياة والديه مصدر لسعادتهما وأنه جدير بحبهما؛ فهذا يشعره بالأمن والطمأنينة، ويساعده على ضبط انفعالاته وتكوين علاقات إيجابية مع الآخرين، وفي المقابل فإن إهمال المشاعر والتعبير عنها سبب لتكوين مشاعر الكره أو الجفاف العاطفي لدى المتربين، ومما تجدر الإشارة إليه أن توفير احتياجات المتربي المادية لا تغني عن إبداء المشاعر؛ فهي جزء من حقوقه، ولا تعني له شيئًا إن لم تقترن بما ينمي مشاعره وأحاسيسه.
- ملاحظة مشاعر المتربي وتفقدها، وقراءة تعابير وجهه وردود فعله، والاطمئنان عليه بأسلوب يشعره بالاهتمام (يبدو لي أنك منزعج، هل أستطيع مساعدتك) وهذا يساعده على إخراج ما في صدره من مشاعر والتعبير عنها، لا بأسلوب التحقيق (يبدو أنك ارتكبت خطئًا، لماذا تبدو منزعجًا؟!) مما يُدخل الخوف والريبة على نفسه ويجعله موضع تُهمة.
فعن مالك بن الحويرث قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظنَّ أنا اشتهينا أهلينا، فسألنا عمّن تركنا في أهلينا؟ فأخبرناه -وكان رفيقًا رحيمًا- فقال: «ارجعوا إلى أهليكم فعلِّموهم ومُرُوهم، وصلُّوا كما رأيتموني أُصلي، فإذا حَضَرت الصلاة، فليُؤذِّن لكم أحدُكم، وليؤمكم أكبركم» (18).
- تعميق عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر لدى المتربي، ومن ذلك مفهوم الرضا بما قسم الله تعالى للعبد، وأن الخيرة فيما اختاره الله للعبد، وهذا مما يساعد المتربي على الشعور بالطمأنينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (19).
- توفير احتياجات المتربي المادية لا تغني عن إبداء المشاعر؛ فهي جزء من حقوقه، ولا تعني له شيئًا إن لم تقترن بما ينمي مشاعره وأحاسيسه
- تدريب المتربي على فهم مشاعره وعواطفه الإيجابية والسلبية، وتأثيرها على سلوكه وحالته النفسية والاجتماعية.
- تعليمه أسماء المشاعر والأفكار المرتبطة بها، والسلوكيات والانفعالات الإيجابية للتعبير عنها والتعامل معها: عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طِيَرَة، ويعجبني الفأل الصالح، والفأل الصالح الكلمة الحسنة» (20).
وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبدٍ تُصيبه مصيبة فيقول: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجُرْني في مُصيبتي واخلفني خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها» (21).
نهي المتربي عن الانفعالات والسلوكيات السلبية للتعبير عن مشاعره: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (22).
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط…» (23).
توجيه المتربي لتقبل المشاعر السلبية التي تنتابه (الخوف– الحزن– الألم): فمن المستحيل تجنُّب تلك المشاعر أو محاولة إبعادها عن الفرد، والواجب على المربي أن يُعلِّم المتربي كيفية التأقلم مع تلك المشاعر وتوجيهها لمساعدته على البقاء والانتباه للمشكلات التي تحيط به؛ فالمشاعر السلبية يمكن أن تكون علامة مهمة، ودالة على أنه ثمة ما يتطلب الانتباه والمعالجة.
قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} [آل عمران: ١٣٩-١٤٠].
تعديل وتصحيح الأفكار الخاطئة المتعلقة بالأخطار والتوقعات البعيدة عن الواقع، ومساعدة المتربي على التخلص من المشاعر السلبية المرتبطة بها، وتوعيته بالانفعالات والسلوكيات الخاطئة في التعبير عن المشاعر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مصححًا مفهوم الشدة: «ليس الشديدُ بالصُّرَعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (24)، فقد جعله وصفًا لمن يتحكم بمشاعره ويضبطها ويحسن إدارتها، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: الشديد من لا يغضب، فمن طبيعة النفس البشرية الغضب، فلا يتأتّى النهيُ عنه، لأنّه أمر طبيعيٌّ لا يزول من الجِبِلّة البشرية (25).
إعطاء الفرصة للمتربي للتعبير عن مشاعره وتفريغها، سواء كانت إيجابية أو سلبية، والإنصات له والاهتمام بما يقول ويشعر، وتدريبه على تنفيس انفعالاته بشكل صحيح من خلال الاتصال بالله تعالى وبث همومه إليه، أو ممارسة بعض أنواع الرياضة، أو الحوار، أو الكتابة والرسم، وغيرها من الوسائل المعرفية والسلوكية التي تساعده على استعادة توازنه النفسي والانفعالي والتحكم بمشاعره على المدى البعيد.
الوقوف مع المتربي في أزماته، والإصغاء له عندما يبدي مشاعره تجاهها، وإظهار الاعتراف بها والتعاطف معه (أتفهَّم أنَّك تشعر بالإحباط – فعلًا هذا الأمر مخيف – معك حقٌّ أن تشعر بالانزعاج من …)، وإعانته على التفكير بحلِّ مشكلاته وتجاوزها، كل هذا يترك أثرًا كبيرًا في نفس المتربي ويكسبه الشعور بالأمان.
قال الله تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه: ٦٨- ٦٩]، فأمر الله موسى عليه السلام بعدم الخوف وعلمه ما يذهب عنه الخوف.
- إشعار المتربي بأن مربيه سند له بعد الله سبحانه تعالى، يمكنه الوثوق به في تأمين الحماية له والدفاع عنه إن تعرض له أحد بأذى أو انتقص منه أو وجه الإساءة إليه.
- النصيحة التربوية: وهي التي يصاحبها إشعار المتربي بالحب والاحترام حتى عندما يبدر منه سلوك غير مرغوب، وأن يوجه النقد للفعل وليس لذاته التي يجب أن لا تمسَّ بسوء، وأن يُشعره بالحنان والرحمة أثناء نصحه.
قال الله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣]، فهذا عتاب من الله تعالى لخير الخلق صلى الله عليه وسلم ابتدأه تعالى بإخباره بالعفو وتطييب الخاطر وتهيئة المشاعر قبل العتاب رحمةً به وإكرامًا له وتسكينًا لقلبه (26).
الجوانب المتعلقة بتربية مشاعر المتربي نحو الآخرين:
- تعويد المتربي وتعليمه أن طريقة التعبير عن المشاعر تنعكس على المناخ الاجتماعي له؛ فالشخص حاد المزاج يستثير من حوله ويشعرهم بالانزعاج، والشخص المتعاطف والودود يشعر الآخرين بالراحة والطمأنينة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (27).
- إكساب المتربي مهارة تفهم مشاعر وعواطف الآخرين وقراءتها واحترامها وعدم الاستخفاف بها، وكيفية التعامل معهم فيما يخص ردود أفعالهم التي يعبرون بها عن مشاعرهم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (28).
- تعليم المتربي وسائل تحريك مشاعر الآخرين نحو الهدف والرسالة التي يريد إيصالها لهم.
- تعويد المتربي على إبداء المشاعر والعواطف للآخرين بطريقة إيجابية: فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على إخبار الآخرين بعاطفة الحب نحوهم، فعن أنس بن مالك أن رجلًا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرّ به رجل فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أعْلَمتَه؟» قال: لا، قال: «أعلِمه»، قال: فلحقه، فقال: إني أحبُّك في الله، فقال: أحبَّك الذي أحببتني له (29).
- تعويد المتربي على الاندماج في المجتمع والتواصل مع محيطه وبيئته من الأرحام والأقارب والجيران، وأداء الصلاة مع الجماعة والمساهمة في الأعمال التطوعية مما يكسبه الشعور بقوة الجماعة وعواطفها المشتركة (30).
أخطاء تربوية مدمرة لمشاعر المتربي:
من خلال ما سبق، تمت الإشارة عرضًا لبعض الأخطاء في التعامل مع مشاعر المتربين، وفيما يلي تفصيل لأهم الأخطاء التربوية التي تؤثر على نفسية المتربي، وقد تسبب فيها دمارًا يترك بصمته على شخصيته:
- الاستخفاف بمشاعر المتربي: فحين تُقمع المشاعر بطريقة غير مناسبة، كأن يُستخف بخوفه من زمان أو مكان ما، أو لا تُقدَّر مشاعره، أو يُعنَّف عند إظهار الابتهاج لحدوث أمر سار بالنسبة له نراه تافهًا أو سخيفًا، فإن ذلك يرسخ في ذهنه أن التعبير عن مشاعره نوع من الضعف أو سخافة العقل والتصرفات.
ومما يزيد الطين بِلّة أن يعمد المربي إلى إعادة رواية شعور المتربي وردّات فعله أمام الآخرين من باب الطرفة أو الاستهزاء، ووسمه ببعض الألقاب السلبية (خواف – جبان- أهبل- مهرج..)، مما يولد مشاعر الضيق والخجل وامتهان الكرامة، فيتعود على كبت انفعالاته وعدم إظهار مشاعره، ويصبح ضعيف القدرة على التعبير عن مشاعره للآخرين، وتتراكم لديه مشاعر الكُره والبغضاء والحقد.
- العبث بمشاعر المتربي: كأن يعمد المربي إلى المزاح مع المتربي بأداء سلوكيات للحصول على ردود أفعال يراها ظريفة أو لطيفة، لكنها تسبب الانزعاج أو عدم الراحة للمتربي، والأشد من ذلك توثيقها أو نشرها على وسائل التواصل، والاستعراض بمشاعره السلبية أمام الآخرين دون احترام لخصوصيته وحساسية مشاعره.
- تخويف المتربي من أمورٍ قد تكون سخيفةً في نظر الكبار، لكنها جادّةٌ بالنسبة للصغار، فالضحك عليهم وإغاظتهم لا يساعد في بناء مشاعر إيجابية لديهم، ولا يفيد في التغلب على تلك المخاوف بل يزيد من حجمها.
- مقارنة المتربي بغيره لحثه على الاستجابة للأوامر والتحسين من تصرفاته، فلكل شخص قدراتُه وإمكانياتُه وظروفُه وشخصيتُه الخاصةُ به وخصائصه المختلفة، ومقارنته بغيره تكوِّن لديه مشاعر الحقد تجاه الآخرين والإحباط تجاه نفسه.
- عدم العدل في التعامل مع المتربين، مما يولِّد لديهم مشاعر الغيرة والحسد.
- غرس مشاعر الضعف في نفس المتربي من خلال ترداد بعض العبارات التي تصف حاله بغض النظر عن واقعيتها نحو: (مسكين– ضعيف– مظلوم– الكل يتعدى على حقوقه).
- التربية الجافة: القائمة على التسلط وتجاهل مشاعر المتربي وكبتها، هي تربية فاسدة تُقسي مشاعر المتربين وتجمد عواطفهم، ونجاحُها في بعض الأحيان هو نجاح مؤقت، لكنها تؤجِّج مشاعر الحقد والغل لدى المتربي، وتوجه مشاعره نحو الشر.
- الغلو في إبداء المشاعر للمتربي: سواء بالخروج عن الحد الطبيعي في إظهار المشاعر والتودد والقرب منه و(تدليله) حبًا فيه أو لكسب ثقته واستمالته، أو تكلف هذه المشاعر، مما ينتج صورًا متنوعة من السلبيات التي تصيب المتربي والمربي أيضًا، فقد يحصل لدى المتربي نوع من التعلق العاطفي يضعف شخصيته ويفسد عليه قلبه ومشاعره، كما أنه ينمي فيه صفات الأنانية وحب الذات والتواكل.
وختامًا:
فإنَّ الإنسانَ هو حجر الأساس في العمل التربوي، والإنسان مجموعة من عواطف، فجهل المربي بالتعامل مع هذه المشاعر أو غفلته عنها له نتائج خطيرة على الفرد والمجتمع، من أهمها فشل المتربي في حياته، أو فشل العملية التربوية برمَّتها، مما يوجب على المربين والمؤسسات التربوية العناية بهذه المسألة، وتقديم الحلول الناجعة للتعامل معها دون إفراط أو تفريط؛ للوصول للأهداف التربوية المرجوة، وتحقيق استخلاف الإنسان في الأرض وعمارتها (31).
-----------
(1) مسند أبي داود الطيالسي (783).
(2) شرح سنن أبي داود لابن رسلان (18/ 86).
(3) أخرجه البخاري (5997).
(4) شرح صحيح البخارى لابن بطال (9/ 219).
(5) أخرجه البخاري (2457) مسلم (2668).
(6) أخرجه الحاكم (59).
(7) أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
(8) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 92).
(9) أخرجه البخاري (٦١١٦).
(10) أخرجه مسلم (٢٨٢٥).
(11) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (٦/ ٢٠١).
(12) معالم التنزيل، للبغوي (٨/ ٤٠).
(13) أخرجه البخاري (٦٧٣٩)، ومسلم (١٧١٧).
(14) أخرجه أحمد (٢٦٤٠٣).
(15) أخرجه البخاري (٦١٠٢)، ومسلم (٢٣٢٠).
(16) أخرجه البخاري (٤٦٧٧)، ومسلم (٢٧٦٩) واللفظ له.
(17) أخرجه مسلم (٩٧٦).
(18) أخرجه البخاري (٧٨٥)، ومسلم (٦٧٤).
(19) أخرجه مسلم (٢٦٦٤).
(20) أخرجه البخاري (٥٤٢٤)، ومسلم (٢٢٢٤).
(21) أخرجه مسلم (٩١٨).
(22) أخرجه البخاري (٥٧١٨).
(23) أخرجه البخاري (٢٧٣٠).
(24) أخرجه البخاري (٥٧٦٣)، ومسلم (٢٦٠٩).
(25) فتح الباري (١٠/٥٢٠).
(26) فتح الرحمن في تفسير القرآن (٣/ ١٩٠)، بتصرف.
(27) أخرجه البخاري (٥٦٦٥).
(28) أخرجه مسلم (٢٥٦٤).
(29) أخرجه النسائي في الكبرى (١٠٠١١).
(30) التربية الإسلامية (ص: ٣٥).
(31) تربية المشاعر/ مجلة رواء.