logo

تحديات العمل الدعوي


بتاريخ : الاثنين ، 13 ربيع الأول ، 1438 الموافق 12 ديسمبر 2016
بقلم : تيار الاصلاح
تحديات العمل الدعوي

لا توجد أمة على وجه الأرض تعرضت لهجمات عنيفة متلاحقة مثل أمتنا الكريمة هذه، ويكمن سر قوتها في عقيدتها، فإذا تهاونت فيها ضعفت وطمع بها الأعداء، وما تاريخ هجمات الوثنية العربية، والفارسية، والبيزنطية، والصليبية، والمغول، والإسبان، وقوى الاستعمار القديم عنا ببعيد، وكل هذه الهجمات اندحرت، وخرج عالَم الإسلام منتصرًا؛ بسبب الإيمان الذي لمّ شتات المسلمين، وحقق لهم انتصارات جديدة في جبهات جديدة، كانت التعويضات فيها أكبرَ حجمًا من الخسارة، وهذه سمة التوحيد الأصلية، وفعله بأبنائه المخلصين.

إن نظرة واحدة إلى امتداد الإسلام، في آسيا وأفريقيا وأوروبا، تكفي دليلًا على عظمة المسلم الصادق إذا تحرك بإيمانه، أما إذا تهاون في طاعة ربه وأخلد إلى الدعة، وترك العلم النافع والعمل الصالح، فإن الله تعالى يبتليه بضغوط لا ترحم، واحتلال يفترس كثيرًا من أرضه، وركام الأحداث التاريخية عبر القرون يشهد على تسيب المسلمين والتزامهم، وما هذا التسيب والإهمال في حياة المسلمين إلا بقعًا سوداء محدودة في ثوبهم الأبيض الواسع الجميل.

إن الإسلام يواجه كثيرًا من التحديات الضارية، والدعوة تعمل في محيط ملغوم، والأعداء يتربصون بها، وأقاموا أحلافهم في وجهها، وما زال كيدهم يتجدد ويأتمرون لوضع مخططات التضييق.

والواقع أن الباطل مهما كان نفوذه فإنَّه لا ينتشر ولا يذيع إلَّا في غفلة أهل الحق وضعفهم؛ وابتعادهم عن ميادين البذل والجهاد.

ولكن التحديات تزيد عود الداعية صلابة، وهمته شموخًا، فلا يفتأ قائمًا على أمر الله، ظاهرًا على الحق، لا يضره من خالفه، ولا من خذله حتى يجعل الله له سبيلًا: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9)} [نوح:8-9].

والتاريخ يحدثنا عن الجهود الكبيرة التي بذلها مصلحون مسلمون، توفرت فيهم النية المخلصة والإيمان الصادق والالتزام المسئول والذكاء الواعي، أعادوا بناء الأمة على ضوء معطيات الإسلام كتابًا وسنة واجتهادًا ورصيدًا تشريعيًا، وذكروها بمصدر شرفها وكرامتها وقوتها، والتي لن تجد في أيّ بديل عنه إلا التمزق والتغرب والانقطاع.

ومن هنا فقد كانت أمتنا تحمل في قلبها وعقلها ووجدانها الاستعداد للعودة إلى الله جل وعلا، كلما ظهرت قيادة واعية مؤمنة تخرجها من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها.

تنوع التحديات:

تواجه الحركة الإسلامية المعاصرة تحديات كثيرة، من خارجها ومن داخلها، فأما التحديات الداخلية فهي الخطر الحقيقي الذي يعوق مسيرة الحركة، ويباعد بينها وبين أهدافها.

لقد عانت الدعوة كثيرًا جراء التشرذم الذي غذَّته آمال أهل الأهواء وطموحات المشبوهين، حتى ساد نوع من عدم الانسجام والتنافر بين المجموعات الدعوية، الأمر الذي يستوجب إقامة جسور للتواصل والترابط والتكامل؛ حتى يتحقق التغلب على الأخطاء، ويتم التصدي للمخاطر، ويتجدد بناء الثقة، ويتجسد التشاور المثمر الذي لا محاباة فيه ولا مجاملة؛ بل أساسه الصدع بالحق في حكمة بالغة وأسلوب حسن.

وسائل التحديات في طريق الدعاة:

اجتمع في الزمان أمران:

الأول: التضييق على الدعوة الإسلامية بوسائل:

- فكرية، مضمونها: محاولة تغيير الصورة والمفهوم من الداخل.

- وعملية، بإغلاق المؤسسات الخيرية المنتشرة في العالم، وباحتلال بلاد المسلمين.

الثاني: اتساع باب الدعوة اتساعًا لا مثيل له، بتنوع وتجدد الوسائل؛ إنترنت، جوال، فضائيات، وظهور وطغيان ما يسمى بحرية الرأي واحترام الرأي الآخر، وإيمان كثير من المستبدين به، وتلبسهم بلبوسه، تجاوبًا مع مقتضيات العصر، لا اعترافًا بخطورة وضرر الاستبداد.

فالباب المفتوح بلغ من اتساعه أن صار يلج منه ويخرج حتى ذلك الذي كان محرمًا وممنوعًا، ذلك إما لمخالفة للسنة، أو لسفاهة في الرأي، أو لمجاهرة بمنكر، ليتكلم ويبدئ ويعيد في مسائل الدين، مع غيره كغيره، سواء بسواء.

ومنها عملية إعادة صياغة لمفاهيم جديدة للدين في قضايا أصلية محورية: الولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرية، والمرأة، والجهاد، واتباع السلف؛ لتنسجم مع دائرة العصر وعقاربها.

ومن الصعب فهم كيف يمكن حصول هذا الانسجام في ظل متناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ أحدهما: هو المحرك للدائرة وعقاربها، وهو لا يرى عدوًا عنده أعدى من الإسلام، ولا يزال هذا منطق كبرائهم ورؤسائهم.

وأما الآخر: فيراد له أن يدخل هذه الدائرة، ليسير وفق عقاربها هذه، متلائمًا مطواعًا.

كيف يمكن أن يبقى في صورته، محتفظًا بهويته حينئذ، لكنه الإسلام الذي يبشر به من لا يرى عدوًا أعدى عنده من الإسلام، ويبشر به أيضًا من رمى بنفسه في الدائرة، فدارت به حتى أحبها، فولاؤه لها، ومعاداته لبني جلدته(1).

الضغوط النفسية التي تواجه الدعاة:

هذه الضغوط منها ما يرجع إلى ذات الداعية، ومنها الخارجية، فالضغوط الذاتية:

1- الخوف: وهو من أقوى الأسباب المثبطة على طريق الدعوة، وهو سلاح فتاك له تأثير كبير على النفس إذا تملك قلب الداعية، ولم يقو على مقاومته انقطع عن الاستمرار على الخط الدعوي، وهو يرجع في الغالب إلى ضعف النفس، والخوف له أسباب متعددة، يأتي على رأسها تهديدات الطغاة من ذوي النفوذ والسلطان.

2- الواقع الأليم: يعيش الداعية وهو يتأمل الواقع الفعلي للبشرية من حيث الانحراف عن منهج الله القويم، فينظر إلى قلة المستمسكين بالدين وكثرة المجانبين له؛ فتتولد داخله حالة يائسة من صلاح البشرية، وعندها قد يقعد عن العمل، وهذا من أهم أسباب الضغوط النفسية على الداعية.

3- المصادمات الدعوية: قد ينشأ خلاف وتباين في وجهات النظر بين داعية وآخر، أو مجموعة دعوية وأخرى، فتحمل كل فئة على غيرها، وتظهر السلبيات في كل داعية أو مجموعة دعوية، ويصبح هناك أهداف بعيدة عن الصواب؛ مما يؤثر على نفسية الداعية أو مجموعة الدعاة المنتمين لهذه المؤسسة سلبًا.

4- الفوضى في التعامل مع الوقت: والذي من شأنه أن يتسبب في تراكم الأعمال والواجبات عليه، ويشكل عبئًا نفسيًا عليه، يؤثر على نشاطه الدعوي.

5- ضعف الخطاب الديني وسطحيته في كثير من الأحيان، وبعده عن مناقشة القضايا المطروحة؛ مما أفقده القدرة على التأثير في حياة الناس.

6- عدم ترجمة الإسلام عمليًا في واقع حياة الداعية، وهذا يقلل من استجابة الناس لما يقول؛ لأن الدعوة لا تقتصر على القول فقط، وإنما بالفعل أيضًا.

7- عدم استحكام الترابط الإيماني، والأخوة الصادقة بين الدعاة في كثير من الأحيان.

8- عدم التركيز على الشرائح المثقفة، والنخب المتميزة المؤثرة، التي تكون أكثر وعيًا لطبيعة المجتمع، فتنظر إليه نظرة واعية فاهمة، تستكشف بها أخطاءه وأمراضه، ومن ثَمّ توجد لها العلاج والحلول المناسبة.

أما الضغوط الخارجية فهي:

1- الأسرة: من زوجة وأولاد ووالدين، فتقصيره أمام مسئولياته تجاه الزوجة والأولاد والوالدين، أو تحججه بهما يؤثر بلا شك على نشاطه الدعوي، واستمراره في دعوته بشكل صحيح، أو ربما تركه بالكلية.

2- العمل أو الوظيفة: إن كان مرتبطًا بمؤسسة ما أو بوظيفة أو غيرها من الأعمال، فإنها تعيقه عن الاستمرار في نشاطه الدعوي.

3- عدم رؤية الثمرة: وهذا يعني أن يستمر الداعية في أنشطته الدعوية ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا، ثم لا يجد لجهده ثمرة واضحة، فيؤثر ذلك على نفسه، فإذا به يتقاعس عن الاستمرار والمضي في دعوته(2).

إن قدسية الدعوة وعصمة منهجها لا تعنيبالضرورة النجاح المطلق لها ولا العصمة الكاملة لممارسيها, فالممارسة جهدٌ بشري قاصر يحتاج إلى الانتقال من مجرد الدعوة عمومًا (الهواية والعفوية) إلى البصيرة بها، خصوصًا الاحتراف والتخصّص، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108], وتأمّل كلمة: {سَبِيلِي} فهي تعني: منهجي ووظيفتي الأصلية في الحياة، إنها أجلُّ وأقدس وظيفةٍ في الوجود, كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].

تحديات التنظيم الجماعي:

1- تحدّي الاختصاص الوظيفي:

بقدر ما تحتاج الوظيفة الدعوية إلى الانتقال من الهواية والعفوية: «من رأى منكم منكرًا فليغيره...»(3)، إلى التخصص والاحتراف: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122], ومن مجرد العلم المجرد: «بلّغوا عني ولو آية»(4)، إلى الفهم والبصيرة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125], فهناك تحديات تواجه هذا المنحى في العمل الدعوي المعاصر، ومنها تحدي التخصص، الذي يتحول في بعض الأحيان إلى نوعٍ من الاتكالية على المتخصصين، وظهور الجزر التنظيمية حول الزعامات الفردية، وخطر الرمزيات الصاعدة عندما تلتبس الوسائل بالغايات، وتحل عصمة الدعوة في ذاتية الدعاة, فلا يفرق الناس بين إلهية الدين وبشرية التدين.

2- تحدي الاستقالة الطوعية:

لم تعد الدعوة إلى الله تعالى والعمل في سبيل الله عز وجل بالوظيفة المغرية في الحياة, مع أنها الوظيفة الأساسية التي بُعث من أجلها الأنبياء، وقامت عليها حركات التغيير والتجديد عبر مسيرة الإنسانية التي نتطلع إلى الاقتداء بها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90], ويرجع ضُمور الإحساس بهذه المسئولية إلى وَهْم براءة الذمة من القيام بها، وكأنها لا تكون إلا من المتخصصين في الشريعة, أو لا تكون إلا من المتخصصين في العمل الدعوي, وأن القيام بمهامٍ أخرى داخل الحركة تُعفي صاحبها من استصحاب البعد الدعوي فيها.

كما ترجع الاستقالة الدعوية كذلك إلى التأثر بنظريات التغيير الوضعية؛ ومنها تغيير ما بالناس (التغيير السياسي الفوقي على مستوى خط السلطة) بدل نظريات التغيير الإسلامي، ومنها تغيير ما بالأنفس (التغيير الدعوي القاعدي على مستوى خط المجتمع): {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11], وهو طريق استجابة الفرد لنداء الإيمان وخير العمل، واستقامة السلوك بانشراح الصدر للخطاب القرآني, وهو الخيار النبوي عندما خُير بين أن يكون ملكًا نبيًا أو عبدًا رسولًا فاختار المسار الدعوي؛ لأنه الأصل، على المسار السياسي السلطوي؛ لأنه الفرع المكمل، فحصل عليهما معًا: التمكين للدين بالدعوة في المجتمع، والتمكين للجماعة بالسياسة في الدولة، ومنها إلى بناء الحضارة وأستاذية العالم: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [الأنفال:39].

3- تحدي الحوافز الإيمانية والمبادرة الذاتية: إن الدعوة إلى الإسلام (عبادات الجوارح)، وإلى الإيمان (اعتقادات العقل)، وإلى الإحسان (عبادات القلب)؛ هي ثمرة حقيقية لقوة الإيمان وترجمة عملية له, لا تنسجم مع القعود عن واجب الدعوة، والتطبع على منكرات الحياة، والاستسلام لإكراهات الواقع, يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله: «إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها؛ لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي»(5).

4- تحدي الحوافز التنظيمية: الأصل هو أن تتحول الدعوة إلى ممارسة يومية وإلى جزءٍ أصيل وبرنامجٍ ثابت من حياتنا، وهو ما نسميه بالرسالية في العمل الدعوي (استصحاب البعد الدعوي في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا في كلِّ زمانٍ أو مكانٍ ومع أيِّ إنسان) دون انتظار الحوافز التنظيمية والتكاليف الجماعية: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95], ومع ذلك فإن للحوافز التنظيمية والعمل الجماعي الدعوي كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [أل عمران:104]، دورٌ في التذكير بها، وتهيئة المناخ لها، وإشاعة الثقافة الدعوية لدى أبنائها، وبالرغم من ضرورة العمل المؤسسي الدعوي إلا أن تحدي اختزالها في الهياكل التنظيمية الإيديولوجية، ودمجها بالهياكل الحزبية قد يُفقدها بريقها، ويزهد الآخرين فيها، فلا يفرقون بين الدعوة إلى الحزب والدعوة إلى الله عز وجل, وبين الدعوة إلى المبادئ والقيم، وبين الدعوة إلى التنظيمات والأشخاص.

5- تحدي الحياة المادية والتمركز على الذات: فممّا يواجه الوظيفة الدعوية هو شيوع الثقافة المادية الاستهلاكية والتأثر، طوعًا أو كرهًا، بمظاهر الحياة الغربية؛ مما أضرّ بفقه الأولويات، وبفقه المقاصد، وبفقه مراتب الأعمال، وأدى إلى نوعٍ من الأنانية والتقوقع على المصالح الشخصية والدنيوية على حساب واجب الدعوة إلى الله تعالى, ولم يسلم من هذه الآفة الدعاة المتخصصون والمتفرغون فكيف بغيرهم؟ فأصبحت الدعوة لا تحتل مكانة قدسية في قلوب مَن ظن بهم النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا: {أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].

6- تحدي الموازنة بين العمل السياسي والعمل الدعوي: إن التنظيم الدعوي المرن (وحدة المشروع بدل وحدة التنظيم, والذهاب نحو التمييز بين الوظائف الأساسية والموازنة بين التخصصات الوظيفية) هو الذي يحُلُّ إشكالية وجدلية الفصل أو الوصل بين السياسي والدعوي، وعلاقة الحزب بالجماعة, فالكلُّ يعمل لهدفٍ واحدٍ وغايةٍ كبرى وفق التخصص الوظيفي والرغبة الذاتية فــ: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41]، فلا الحزب هو الواجهة السياسية للجماعة، ولا الجماعة هي الواجهة الدعوية للحزب: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38], و{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، إلا أن الحركة الإسلامية قد تجد نفسها تجاري الأحداث المتسارعة، وتلعب في واقعٍ صنعته قوى أخرى, فتارة تفرض عليها الظروف الخروج من السرية إلى العلنية قبل النضج, وتارة يُفرض عليها التكيف والدمج بين السياسي والدعوي, وتارة أخرى تجد نفسها تحت إكراهات الواقع المتأزم؛ فيتضخم عندها العمل السياسي على حساب العمل الدعوي, والأخطر هو عدم الجرأة على المراجعة بالرغم من تغير ظروف الزمان والمكان والإنسان.

كم خسرت الحركة من الإطارات بسبب عجزها عن الاستيعاب الداخلي عبر التخصص الوظيفي, وكم خسرت من الكفاءات بسبب عجزها عن الاستيعاب الخارجي عبر الانفتاح والتنظيم المرن, فالكل يتزاحم على مسارٍ واحدٍ هو المسار السياسي, ومع تراكم القيادات وضعف الدعوية في العمل، وعدم التنفيس عن التنظيم الواحد؛ نصل تلقائيًا إلى الضغط والانفجار، وإلى الانشقاق والانشطار(6).

إشكاليات دعوية:

من المعروف أن العمل الإسلامي لا ينقصه الإخلاص في معظم الحالات، ولكن قد ينقصه الصواب الذي يعد شرطًا لازمًا للنجاح، كما يعاني العمل الدعوي من عدة إشكاليات تتمثل في:

1- جمود آليات العمل الدعوي وأساليبه، وتحولها إلى أشكال مقدسة لا تتجاوز ذلك، جعلت الهوة بينها وبين الواقع تزداد اتساعًا مع تسارع أحداث العصر ووقائعه وتطور معطياته.

2- ضعف الخطاب الديني وسطحيته في كثير من الأحيان، وبعده عن مناقشة القضايا المطروحة؛ مما أفقده القدرة على التأثير في حياة الناس، وتعميق هذه السطحية لدى المتلقي.

3- إشكالية وجود الرأي وفقدان الموقف، فعلى الرغم من كثرة الآراء السديدة والطروحات المهمة؛ إلا أن العجز عن اتخاذ موقف عملي جاد هو الإشكالية الحقيقية التي يعاني منها العالم الإسلامي.

آليات تفعيل العمل الدعوي:

1- ضرورة تحديد الوسائل المشروعة والمجدية، واختيار الموقع الفاعل المؤثر وفق الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، مع عدم الإخلال بالتوازن، وضبط النسب، والاحتفاظ بالرؤية الشمولية للإسلام.

2- الانتقال بالعمل الدعوي من مرحلة المبادئ المبنية على المواعظ، والخطب، والدروس، إلى مرحلة البرامج الواضحة، والخطط المرحلية المدروسة، والحسابات الدقيقة للواقع المعاصر، والظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة.

3- تصويب المسار، وتجديد عملية الانتماء لهذا الدين.

4- تجديد وسائل العمل الإسلامي وطرائقه وأساليبه وهياكله وميادينه، التي تحولت عند البعض إلى دين يحرم تجاوزه، ذلك أن الاستمرار عليها إنما هو حرب بغير معركة، وانتصار بغير عدو.

5- ضرورة المراجعة وإعادة النظر وفق المستجدات على الساحة المحلية والإسلامية والدولية، ومتابعة مجريات الأحداث العالمية، وتحليلها وفهم أبعادها؛ لتحسين التعامل معها.

6- العمل على جمع الشمل ووحدة الصف بين الجهات المختلفة العاملة في مجال العمل الدعوي، وفتح باب الحوار والمفاهمة بينها، وتبادل الخبرات والاستفادة من الطاقات في عمل جماعي مشترك.

7- نبذ كل أشكال التحزب والتقوقع والانعزال، والاعتقاد بأن العمل الإسلامي حكر على جماعة بعينها.

8- الالتزام بالأدب الإسلامي في الحوار والخلاف في وجهات النظر، والجدال بالتي هي أحسن، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

9- الانتقال من موقف الدفاع الفكري والنظري عن الإشكالات والقضايا الجزئية المطروحة التي تكون في غالبها متوهمة أو مفتعلة، والتي لا تنتهي أبدًا، والمقصود بها استفزاز الطاقات الفكرية، واستهلاك النشاطات الذهنية والجهود العلمية والعملية، وحصرها في إطار الأدب الدفاعي، أو الفكر الوقائي، والمواقع الدفاعية التي لا تراوح محلها، وإنما تدور في فلك الانفعال لا الفعل، والإثارة لا الإصلاح، فيكون الزمام بيد أعداء الإٍسلام، الذين يتحكمون بالمعركة لصالحهم، في زمانها ومكانها وأدواتها ومضامينها، إلى امتلاك زمام المبادرة في الطرح، والمواجهة وفق المشكلات الحقيقية والقضايا الواقعية التي تمس كيان هذه الأمة.

10- العمل على تحقيق التحكم الثقافي من خلال المؤسسات، والمراكز البحثية والدراسات الجادة، وغيرها من الوسائل والآليات لمواجهة سلطة العولمة والهيمنة بأبعادها المختلفة، الساعية إلى تدمير الرؤية الإسلامية الشاملة، وفقدان البصر والبصيرة.

11- تفعيل التعامل الجاد الواعي المدروس مع وسائل الاتصال المختلفة، والإسلامية منها على وجه الخصوص؛ للعمل على توجيه المسلمين وتثقيفهم بقضاياهم الحقيقية وتعبئتهم، وتوحيد جهودهم، وحشد قواهم لمواجهة التحديات المصيرية، وعدم الانخداع بالأطروحات المروّج لها إعلاميًا من قبل أعداء هذه الأمة.

12- العمل الجاد على تكوين جيل من الدعاة والإعلاميين الإسلاميين، المؤهلين شرعيًا وتقنيًا وتخصصيًا، القادرين على التعامل مع أبعاد هذا الواقع الخطير، الذي يلعب فيه الإعلام الدور الأكبر والأخطر في التوجيه والتغيير وتحديد المسارات.

13- تحقيق التوازن المطلوب والتلازم الغائب بين الإخلاص لله وإتقان العمل للوصول إلى الصواب.

14- التحرك البصير بين جميع شرائح المجتمع، مع التركيز على الشرائح والنخب المثقفة المتميزة واستقطابها، ومحاولة تحطيم الحواجز القائمة والمفتعلة بين العمل الإسلامي وعامة أفراد المجتمع.

إنه لا بد للعمل الإسلامي أن يسعى بشكل جاد ليعمل عبر جميع شرائح المجتمع وطبقاته، وذلك بتغذية الصحوة الإسلامية العامة، فلا تدع ركنًا في المجتمع إلا وصلت إليه وبلغته الرسالة، وكان لها فيه أبناء وبنات جنود وجنديات، من خلال عمل دعوي وإعلامي، يمتاز بتخطيط دقيق، وتنظيم واضح يتعامل مع معطيات العصر وتقنيات العلم؛ وفق المفهوم الإسلامي الصحيح(7).

15- التفكير الواعي في المستقبل، من خلال التعرف على ما حدث في الماضي، وما يحدث في الحاضر، بهدف استنتاج ما يمكن أن يحدث في المستقبل.

16- رصد كل الفرص المتاحة والمتوقعة للعمل الدعوي، والحلول الممكنة من خلال هذه الفرص.

17- تحديد كل التحديات والصعوبات الحاضرة والمتوقعة مستقبلًا، والحلول المقترحة لها.

18- إعداد كوادر في جميع المجالات والتخصصات يمتلكون كفاءة عالية في تخصصهم، وهذا مهم جدًا إذا أردنا الإعداد الجيد لمستقبل أكثر فاعلية.

19- لا بد من وضع خطة شاملة لما نريد أن نحققه في المستقبل، تشتمل على الآليات والوسائل لتحقيق ذلك، وتجعل في الاعتبار كل الفرص الممكنة، والتحديات المتوقعة(8).

كلما عظم التحدي اشتدّ الحافز:

إن تحديات الحركة الإسلامية كثيرة جدًا؛ فعليها أن تستعين بخالقها على تحقيق أهدافها, وعليها أن تكثر العمل وتُقلِّل مِن الجدل، وتهتم بالرواحل وتترك المثبطين، وتصعد بأبنائها على كل المجالات والأصعدة، وتهتم بتربيتهم وتزكيتهم وتفجير طاقاتهم وتوجيهها حتى تسُدَّ الثغرات المتعددة، وعليها أن تحرص على أوقات أبنائها، وتشغلهم بالنافع المفيد للأمة ولهم.

إن التحديات القاسية إما أن تقتل الذات الهشّة الضعيفة، أو تزيد من صلابة الذات المتماسكة، وتتماسك الذات، الفردية أو الجماعية، في حال امتلكت هدفًا تؤمن به وتدافع عنه، سواء كان فكرة أو مصلحة، فإذا اتحدت الفكرة بالمصلحة كان هذا أدعى إلى الاستقطاب، وفي اندفاع الذات لتحقيق هدفها تغدو التحديات عنصرًا خلَّاقًا لاستفزاز طاقة الاندفاع القصوى، وعامل توحيد يستثير رابط العصبية الفطرية تجاه الأخطار وعوامل الاستئصال وتهديد الوجود.

بل إن التحديات القاسية قد تسلب الذات عدّتها كلها، ولا تترك لها في معركتها ما تخسره، فتكون بهذا قد منحتها فرصة ثمينة لتحقيق ما تراهن عليه، باعتباره الخيار الوحيد الذي ينبغي التعلق به وإلا الفناء، فيتفرّد الهدف ويتوحّد، ويغدو اندفاع الذات أشد، ومقاومتها أصلب؛ لأن المعاناة التي تفرضها التحديات، والضغط الذي يرافقها يعملان على تعزيز البناء النفسي، وصناعة شخصية رجل الحضارة، الذي يتحلى بالجلد والإحساس بالمسئولية والإيجابية والمبادرة والأمل الواثق المستشرف للمستقبل، كما تسهم المعاناة المقترنة بمعادل مكافئ في تهذيب الشخصية من الصفات السلبية المعيقة للفعالية والحركة؛ كاليأس واللامبالاة والكسل والتواكل، وبذلك تصير التحديات نفسها عاملًا إيجابيًا من عوامل التخلق الحضاري والحركة(9).

إن التحديات الخلّاقة التي تصعّد من قوة الاستجابة، تشق الطريق أمام الأمة لاكتشاف وسيلة ذهبية أو ظافرة، هي الاستجابة الناجحة، أو الحل النموذجي للتحديات القائمة نتيجة تعاقب الشد والجذب من قبل التحديات وسلسلة الاستجابات الناجحة والفاشلة؛ ما يجعل الانكسارات مرحلة من مراحل الصعود، وحافزًا لاختبار المزيد من العوائق لتفاديها وتجاوزها(10).

__________________

(1) تحديات الدعوة، د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه، موقع: صيد الفوائد.

(2) الضغوط النفسية في حياة الداعية، موقع: إسلاميات.

(3) أخرجه مسلم (49).

(4) أخرجه البخاري (3461).

(5) في ذكرى استشهاد الإمام البنا، موقع: الألوكة.

(6) التنظيم الرسالي والتحدّيات الدعوية، موقع: حركة مجتمع السلم.

(7) إشكاليات العمل الدعوي، موقع: المختار الإسلامي.

(8) تحديات تواجه الصحوة الإسلامية المعاصرة، د. عمر عبد العزيز، الحوار.

(9) على عتبات الحضارة، ص43.

(10) المصدر السابق، ص46.