منهج الإسلام في غرس القيم الخلقية
إن الأخلاق الحسنة هي أعظم ما تعتز به الأمم وتمتاز به عن غيرها، والأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها، وتلفت الأنظار لها، ويتحير أعداؤها فيها، وبقدر ما تنحط أخلاقها وتضيع قيمها تنحط حضارتها، وتذهب هيبتها بين الأمم، وكم سادت أمة، ولو كانت كافرة، وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق؛ كالعدل وحفظ الحقوق وغيره، وكم ذلت أمة، ولو كانت مسلمة، وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق.
ولا شك أن الأخلاق مرتبطة بالتزكية؛ تزكية النفس وتطهيرها وتحقيقها بالعبودية لله، وذلك مرتبطٌ بحقيقة الإيمان بالله؛ ولذلك عندما افتُقد كمال الإيمان أو حقيقته افتُقدت التزكية، ومن ثمَّ تعمقت المشكلة الأخلاقية في حياتنا.
فما أحوجنا إلى أخلاق الإسلام وتوجيهاته؛ لتستقيم أمورنا، وتصلح أحوالنا، وتضبط تصرفاتنا، ويحسن إسلامنا، ويكتمل إيماننا، فلا ينفع إيمان، أو يقبلُ عمل، أو ترفع عبادة بدون أخلاق تحكم السلوك وتوجه التصرفات، وقد مدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي اختاره واصطفاه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ولا يمدح الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشيء إلا وله مكانة عظيمة عنده تعالى، ووصف الله عز وجل عباده بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)} [الفرقان:63-68].
إن القيم الإسلامية هي الكفيلة وحدها فقط بإخراج الإنسان المعاصر من الأزمة الأخلاقية الفظيعة التي يعيش فيها، وذلك من خلال مفهومات التزكية وابتغاء التعارف، ومن خلال قيم التسامح والتضامن والتكافل والتعاون على البر والتقوى؛ كقيم خلقية لنفي القيم المستوردة الآتية إلينا عن طريق سلوكات اقتصادية أجنبية علمانية.
ولما سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أحسنهم أخلاقًا»(1)، وقد سمى الله الإيمان برًا، فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177].
والبر اسم جامع لأنواع الخير من الأخلاق والأقوال والأفعال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق»(2)، ويظهر الأمر بجلاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»(3).
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يقول ابن خلدون: «إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات، وانتحال الرذائل، وسلوك طريقها، فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم، ويتبدّل به سواهم، ليكون نعيًا عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك، وجعل في أيديهم من الخير، {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]»(4).
وأدرك هذه الحقيقة أيضًا أحد كتاب النصارى، واسمه (كوندي)، حيث قال: «العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات»(5).
في معركة اليرموك أرسل أحد قادة جيش الروم، واسمه القُبُقلار، رجلًا من قضاعة يقال له ابن هزارف، فقال له: ادخل في هؤلاء القوم، يعني المسلمين، فأقم فيهم يومًا وليلة ثم ائتني بخبرهم، فدخل ابن هزارف في جيش المسلمين، فأقام فيهم يومًا وليلة، ثم رجع إلى قائد الروم، فقال له القائد: ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق فيهم ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم لإقامة الحق فيهم، فقال القائد: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله أن يخلي بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم عليّ، قال: ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يومًا أشد من هذا! قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف(6).
بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، خليفة المسلمين، يستشعر أهمية الأخلاق في حياة المسلمين، ولو كانوا في حرب مع عدوهم، لأهميتها وأثرها وارتباطها بالجزاء والحساب، فقد أوصى أسامة بن زيد حين بعثه قائدًا لجيش إلى الشام: «لا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له»(7).
لقد كان هناك ضرورة ملحة لطرح منهج الإسلام في تنمية القيم الخلقية لدى الإنسان المسلم، وهذا المنهج بأصالته وربانيته استطاع أن يساعد على اكتساب الأخلاق الإسلامية واستمرارها استمرارًا مشهودًا، وسيادتها في حركة الإنسان المسلم الصادق، وبداية لا بد أن نقرر مجموعة من المبادئ الأساسية التالية:
1- إن تنمية القيم الخلقية لدى المسلم تعتمد على فطرة الإنسان، وما زود به من استعدادات فطرية للتعلم والتخلق، ثم يأتي بعد ذلك عملية اكتساب الأخلاق من المجتمع المحيط، في إطار التنمية المتكاملة المتوازنة لكامل شخصية الإنسان، من خلال الجوانب الروحية والوجدانية والعقلية للإنسان وحواسه، وعلى ذلك فإن على التعليم والتربية أن يقدما الزاد لتنمية الإنسان من كافة النواحي، على صعيدي الفرد والجماعة، وأن يحفزا هذه الجوانب كافة إلى الخير وطلب الكمال(8).
2- إن وجود القيم الخلقية والمبادئ العليا والأهداف السامية ضروري لتوجيه حياة الإنسان توجيهًا صحيحًا، يضبط حركته سليمة صحيحة، فالإنسان لكي يجعل نفسه في صورة إنسانية مرضية ينبغي أن يكون له في حياته أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره، ويتمثل ذلك في مجموعة من القواعد الخلقية، والمثل العليا التي يلزم نفسه بها، ويسير على منهاجها طوعًا، وتزيد فرادته في قوة خلقه ومثابرته في التمسك بها، وعندما ينعدم وجود هذه المبادئ والمثل تفقد الحياة دوافعها ومعانيها؛ بل تبدو راكدة غير منتجة، ويضمحل الإنسان وتهمد إرادته بافتقادها الهدف والمبدأ والخلق والقيمة.
وهذا يعطينا مؤشرًا هامًا على أهمية القيم الخلقية في بناء الإنسان، وكذا أهميتها كمصدر من مصادر الأهداف التي ترتجى وتؤمل في نمو الشخصية المسلمة في المجتمع.
3- إن هذه القيم والمبادئ والأهداف تحتويها ثقافة المجتمع المسلم باعتبارها الإطار المرجعي لكافة سلوكيات الفرد والجماعة، وهي التي تمثل القيم والأخلاق والمهارات والأذواق، وما إلى ذلك مما يكتسبه الإنسان ويشكل شخصيته القيمية والأخلاقية.
وهذه الثقافة تقوم على مبدأ التوحيد، حيث تشتق منه وتدور حوله كافة القيم الإسلامية، باعتبارها معايير واقعية توجه جميع أفعال الفرد في مختلف المواقف الفردية والاجتماعية، وباعتبارها تصورًا للمعاني الكلية المسئولة عن الأحكام التي يصدرها الفرد على أي موضوع أو موقف، ويرى الفرد فيها شيئين: الحق والخير، وهذه لا تتم إلا بالاتصال بين الأجيال.
إن التوحيد، ومجموعة الأحكام المعيارية، بما فيها الأخلاق، لا يتحققان إلا في ثقافة هيئة اجتماعية وفي ذوات إنسانية، فالفرد يكتسب قيمه الخلقية من المصدرية الجماعية، ومن خلال التفاعل مع الجماعة يمتص الفرد القيم الخلقية، وتنمو لديه الأحكام الخلقية، ويحرص المجتمع الحرص الشديد الأكيد على إكساب الفرد القيم الخلقية، حتى تصبح سمة من سمات شخصيته؛ بل إنها في الحقيقة تعتبر الأساس الجوهري لبناء شخصيته.
4- إن تنمية القيم الخلقية لدى الإنسان المسلم تعتمد على تكوين الوازع الداخلي في الفرد منذ الطفولة الأولى، حيث يؤمن الفرد بالقيم، ويكتسبها ويتشربها ويضيفها إلى إطاره المرجعي للسلوك، ويتم ذلك من خلال التنشئة الاجتماعية، وعن طريق التفاعل الاجتماعي يتعلم الفرد أن مواقفه يجب أن تتسم بالخلقية، وذلك حتى يشارك في حياة المجتمع بفاعلية.
وبعد فإن منهج الإسلام في تكوين القيم الخلقية يتأتى كما يلي:
باستطلاع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تطالعنا طريقة فذة في معالجة القيم الخلقية من حيث تكوينها لدى الفرد المسلم والجماعة المسلمة، وقد أتى الإسلام لا ليصطدم مع الطبيعة البشرية؛ بل ليضبطها، ويفجر أحسن ما فيها، وقد أقام السلوك على أساس خلقي ضابط بوعي واختيار واع، وذلك كما يلي:
1- لفت النظر إلى خلق الله:
اهتم القرآن الكريم في مرحلته المكية ببناء الإيمان في نفوس الناس، والدعوة إليه بكافة الوسائل، وذلك بلفت النظر إلى خلق الله، والتأمل فيه، للاستدلال على الخالق عز وجل والإيمان به، والتصديق بما أنزله على رسوله.
وقد عرضت الآيات الواردة في هذا المجال: سنة الله في الأسباب والمسببات، سنة الله في جزاء من اتبع هداه، سنة الله في حال الإعراض عنه، سنة الله في التدافع بين الحق والباطل، سنة الله في الابتلاء والفتنة، سنة الله في الظلم والظالمين، سنة الله في الترف والمترفين، سنة الله في الطغاة والطغيان، سنة الله في بطر النعمة وتغييرها، سنة الله في الذنوب والسيئات، سنة الله في الاستدراج، وغير ذلك من سنن عرضها القرآن في قصصه أو في آيات منفصلة، بهدف تعريف الناس بكيفية السلوك الصحيح في الحياة، حتى لا يقع الإنسان في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة.
إنها الدعوة الكاملة إلى الإيمان الكامل الصحيح، وقد يصاحب بيان ذلك في الآيات ذكر الجنة والنار، والثواب والعقاب، ليحرك في النفس عاطفة الخوف والإحساس بالأمن، وهو في ذلك يريد أن يحرك في الإنسان الإحساس بالأمان النفسي والشعور بالحماية الإلهية في ظل الإيمان، وفي الوقت نفسه يعطيه الثقة بنفسه، وبأنه مكرم ومؤهل لحمل أمانة الوجود، وحمل أمانة التكليف.
فهي تستثير في الإنسان أقصى طاقاته الإنسانية لتسمو بها وتضعها على الطريق السوي السليم المنشود من الإيمان.
وتحويل الإنسان من التبعية الذليلة في كل شيء من جنبات حياته للطواغيت الكفرة والفجرة، إلى آفاق العزة والكرامة، وتحقيق الإنسانية الكريمة، وذلك ببث روح القوة والتخلص من العجز والاتكالية {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
2- علاقة الإنسان بما حوله:
وقد صحح القرآن علاقة الإنسان بما حوله بأن جعلها علاقة تعاطف وتعارف، فلا عبودية لها ولا تأليه، ولا استهانة ولا إنكار، وقد ربى القرآن الإنسان على حضور واع، واتخذ في هذا السبيل طرقًا مختلفة لعملية التصحيح هذه، وهي لازمة لتكوين قيم صحيحة سليمة، وكان أول ما قام به هو تصحيح علاقة الإنسان بالله الخالق الراعي لخلقه، المعتنى بهم، الرحيم، المبدع، التواب، وهو الواحد؛ غرس في نفس المسلم التوحيد، الذي دفع الإنسان إلى حب الخير وفعله، وتجنب الشر وكراهيته، وبالتالي كانت العلاقة بين الإنسان والله طريق الإنسان إلى الكمال، وكانت طريقًا إلى امتلاء قلب الإنسان بالولاء والانتماء إلى الله وحده، ومنهجه الذي إذا تمسك به الإنسان أصبح إنسانًا فاضلًا يسارع إلى فعل الخيرات، ويبتعد عن فعل الشر، وبالتالي يتصف الإنسان بمكارم الأخلاق، ويتشبه بأخلاق الله تعالى من حيث الاتصاف بالكمالات، والتنزه عن النقائص، ويصبح مجتمعه كله ذا أخلاق دينية، تسوده مكارم الأخلاق.
وكان ذلك منطلقًا لتصحيح كافة العلاقات الأخرى بما حول الإنسان ومن حوله، وما دام الإنسان قد آمن موحدًا، وتولدت في نفسه حالة العبودية الكاملة لله وحده؛ فإن ذلك ينعكس على علاقاته بالأشياء حوله، وعلى كافة مكونات حياته؛ ذلك أن الإيمان الصحيح هو أكبر القيم الخلقية الدافعة للإنسان في مجرى الحياة الصحيح الموصل للسعادة.
ومن هنا تنبع مجموعة من القيم الخلقية الفذة النابعة من توجيه التوحيد، كحالة نفسية، وضرورية للتعايش مع الكون والعالم، ومصادقة قوى الطبيعة، ودراستها وفهمها، واكتشاف أسرارها، لتضفي قيمة عليا على العلم والبحث العلمي بالمعنى الواسع للكلمة.
ثم هو لا يذوب في الطبيعة المادية ولا يعاديها، لكنه لا بد أن ينفصل عنها إلى عالم التوحيد المطلق والمجرد، فالطبيعة ليست مقصودة لذاتها، وهي ليست ثابتة؛ بل هي متغيرة ومتقلبة، ومن حق المسلم أن يتجاوزها بعد أن يكتشف فيها لغة التسبيح لله، وفي هذا الذي أقره الإسلام ووجه إليه تحقيق سام لإنسانية الإنسان؛ لأن الإنسان بهذا يتحرر من عبودية أي شيء سوى الله تعالى، ويتخلص من قلقه المَرَضي؛ لأن المنهج الإسلامي يضع الإنسان حيث يجب أن يوضع، مخلوقًا ذا رسالة سامية في هذه الحياة(9).
3- علاقة الإنسان مع نفسه:
وصحح القرآن علاقة الإنسان مع نفسه، ثم مع من حوله من الناس، وذلك بعد أن ضبط حركته بقيم خلقية معينة تجاه الخالق والأشياء، والآيات المدنية تأتي لبناء الإرادة الإنسانية، وتكوين القيم السليمة لعلاقات الإنسان بنفسه، وبالإنسان في مجتمعه، وللجماعة كلها بعد أن قام البناء الإيماني في نفس المسلم.
وكثيرة هي تلك القيم الفاسدة التي كانت موجودة عند العرب وفي العالم، واستطاع الإسلام بتوجيهاته أن يقضي عليها، ويحولها إلى قيم إيجابية صحيحة على أساس من الإيمان الصحيح الخالي من الشوائب.
وقد اهتم القرآن كثيرًا بتوضيح الانحرافات الخلقية التي يمكن أن توجد في المجتمع المسلم، فاهتم بإيضاح حقيقة النفاق وعدّها انحرافًا نفسيًا يسهل الوقوع فيه؛ لأن الإنسان المسلم، تحت الظروف المستبدة، قد يعيش حالة مزيفة، إنه يصبح ضد نفسه أحيانًا، ويحبس حركتها الحرة في التنقل من حالة إلى حالة، ويوقف تيارها الداخلي، وهذا مرض نفسي، يجمد حركة الإنسان، ويحرمه من الحركة الحية، ويصيبه بالخواء والزيف والخداع، وقد صور القرآن حالة المنافقين في آيات كثيرة، منها:
- {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} [البقرة:10].
- {إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].
- {وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
إن القرآن يعرض النفاق كطبيعة منحرفة وسلوك مريض، ويشخص هذا المرض ويحلله، ويتحدث عنه باستفاضة، وعن مضاعفاته ونتائجه، وقصده من ذلك التحذير منه، ومن النتائج الخطيرة التي تترتب عليه، فهي نتائج تصيب الإنسان في وجوده الذي يرتبط بالصدق والحرية والتجدد، فيتحول وجوده إلى زيف وجمود وهراء(10).
ومن هذا المنطلق حارب البخل والجبن في نفس الإنسان، وحارب التواكل الذي يحيل الإنسان إلى طفل لا يستنفر ذاته، وإنما يعتمد على الآخرين في حل مشكلاته، وفي حربه تلك، يجعل المسلم يجابه الواقع ويتحمل المسئولية، ويبتعد عن كل شيء يصادر تلك المسئولية(11).
لقد علم الإسلام المسلم أن يؤمن بوجود قوة عليا، وأن يستفيد من إمكانياته واستعداده للإيمان بالغيبيات، فضبطها بحيث لا يصل إلى التصادم مع الأسباب والمسببات، وعلمه القرآن أن الحق يبطل السحر، وأنه ليس بإمكان أحد أن يضره إلا بإذن الله، وأن التلصص على السماء لسماع الغيب قد بطل منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له الرحمن، وقد كان ذلك كله إيذانًا بتصحيح علاقة الإنسان بنفسه، فلا يخور ولا يجبن ولا ينافق ولا يدع الأسباب(12)، وكان أيضًا إيذانًا بتصحيح علاقة الإنسان مع الآخرين، وانطلق المسلم بالدعوة الإسلامية إلى مرحلة العالمية.
4- القدوة الصالحة:
وأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء القيم الخلقية في النفوس المسلمة، وكانت طريقته في ذلك أبدع ما تكون الطريقة، وأساليبه أشهر ما تكون وأعظم، في ضربه المثل الأعلى والقدوة الصالحة من ذاته، في نفسه، وفي مجالسه، وتوجيهاته، وأفعاله، وأقواله، وباستخدام كافة الطرق لاستثارة إمكانيات الإنسان من أجل تمثل القيم الخلقية، والأمثلة على ذلك كثيرة في مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم.
نذكر منها، على سبيل المثال، ما يتعلق بمجلسه صلى الله عليه وسلم، فقد كان، كما جاء في حديث هند بن أبي هالة: «مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبّن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا فحّاش ولا عيّاب ولا مدّاح، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ»(13).
ولا عجب أن نجد في أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعدها مجتمعًا إسلاميًا ملتزمًا، وفردًا مسلمًا ملتزمًا، توجهه قيم خلقية صحيحة في كافة نواحي سلوكه المختلفة، ونجد الأفراد في المجتمع الإسلامي أصحاء أزكياء مبدعين ملتزمين بالإسلام.
كيفية تكوين القيم الخلقية:
لتكوين القيم الخلقية عمليًا، وبالوسائل السابقة، وعلى أساس القدوة الحسنة، نجد أن هناك عدة مراحل هامة، وهي كما يلي:
1- عرض المواقف الخلقية لجذب الانتباه إليها:
لقد عرض القرآن مواقف خلقية كثيرة، وذلك لجذب انتباه الإنسان، وإيقاظ إحساسه بالقيمة الخلقية، وهنا تستخدم كافة الإمكانيات في سبيل هذا العرض بقصد الاستحواذ على انتباه المسلم، ويعتبر هذا درجة أولى لتكوين الوعي بها، وإثارة الرغبة في الترقي لتتم عملية تركيز الانتباه، ويظهر الإنسان نوعًا من الاهتمام تأتي بعده الاستجابة النشطة الطوعية النابعة من داخله.
ومثال ذلك: قيمة الصلاة، حين نريد تكوينها في نفس الناشئ الصغير، فإنه لا بد من جذب انتباهه باستثارة حواسه، والسلوك الفعلي أمامه، بحيث نبين له أهمية الصلاة مرة بعد مرة، بحيث يبدأ تكون الوعي لديه بها، ويتطلب هذا إطلاع الناشئ على أهمية الصلاة وكيفية أدائها، دون تمييز محدد أو إدراك للخصائص الموضوعية لها، بمعنى أنه لا بد من إتاحة وتهيئة جو يظهر اهتمام الناشئ بالقيمة، فيصحبه إلى المسجد وبغير قصد وعن طواعية من الناشئ، وبالتالي يمكن، وبهذه الطريقة المبسطة التي تحترم إنسانية الناشئ وتجذبه في جو تعاوني تعاطفي، أن نغرس قيمة أداء الصلاة في نفسه.
2- موقف التقبل الواضح وتعزيز هذا التقبل:
فحيث يظهر الإنسان تجاوبًا معينًا مع القيمة والوعي بها، فإنه لا بد من مصاحبة ذلك بقول لطيف مشجع يحرّض على ذكر هذه الاستجابة الطيبة التي تكاد تظهر إلى حيز الوجود الفعلي دون إشارة إلى ضعف ممكن، وبهذه الخطوة يمكن القول إن القيمة أصبحت متمثّلة بدرجة كافية من العمق بحيث يمكن أن تصبح قوة مسيطرة باستمرار على السلوك، ومعنى هذا أن الإنسان تتكون لديه رغبة مستمرة في تطوير قدرته على الالتزام بالقيمة.
وقد أشار القرآن إلى هذه الخطوة، حيث يثير الانتباه إلى حضور الله العليم المطلع على كل ما يأتيه الإنسان: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، {الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218].
إن دفع الإنسان نحو انطباع معين، وهو أن يجد في هذه الفكرة ما يحفزه حقًا لدعم جهوده، وتغذية طاقاته، وترقية نفسه، ومضاعفة ما يقتضيه من ذاته، وذلك من أجل المحافظة على جودة أعماله وطهارة نواياه، يقتضي أن يجد فيه ما يتقبله ليدفعه إلى أن يأتي دائمًا بالجديد وبالأفضل.
إن أفضل شيء يعزز هذا التقبل للقيمة هو دفع الإنسان إلى التفكير في صلته بالله لحظة العمل، حيث إن لهذا تأثيره على إرادة الإنسان، ليضاعف ذلك من حماسه، ويكمل عمله، وبالتالي يتحقق ثبات القيمة، وتحقيق التقدم المطرد في سبيل تعزيز القيمة، وليس هناك أعظم من الحب في تثبيت هذا التعزيز، وهذا الشعور بالحب يولد شعورًا بالارتياح وبالقوة البناءة(14).
ونجد ذلك ملخصًا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل: ما الإحسان؟ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(15).
3- موقف تفضيل القيمة الخلقية:
ويظهر هذا الموقف من خلال التزام الفرد بالقيمة لدرجة تجعله يحرص على القيمة، ويسعى وراءها ويريدها، وهنا تظهر استجابات معينة تعبر عن هذا التفضيل، حيث يسعى إلى تكوين أرضية واسعة عنها، ويمكن أن يتعدى ذلك إلى الكتابة عما يشعر به إزاءها.
وهنا يتدخل المربي من أجل زيادة العمل التوجيهي، ولا يجوز أن يكون هذا العمل صريحًا؛ بل ضمنيًا عمليًا، ذا رزانة وبرفق وأناة، مع إتاحة فرصة أوسع للناشئ لإظهار استجابات أوسع وبتفكيره الذاتي المستقل(16).
4- موقف الالتزام بالقيمة:
في هذه المرحلة، وبعد استخدام كافة إمكانياته، يصل الفرد إلى اليقين؛ بل إلى درجة عالية من اليقين، فيصل إلى اقتناع عال وتأكد لا مجال للشك فيه، وإيمان راسخ بضرورة هذه القيمة، ومن ثم التقبل الوجداني الكامل، فيعمل الفرد لتقرير القيمة وتأكيدها، وتتعمق مشاركته في هذا التقرير والتأكيد، كما يبحث عن أشباهه المؤمنين بهذه القيمة والملتزمين بها؛ فيشاركهم أنشطتهم وتعبيراتهم، إلا أنه يجب أن نعي عدة أمور هامة، وهي:
- أن الالتزام ليس مجرد قدرة عاطفية وقتية عابرة، أو مجرد حماس يوجد ويتلاشى لتحل محلها عاطفة مؤقتة أخرى، إن الالتزام يعني استمرارًا عاطفيًا لتأكيد الالتزام، إنه يأخذ شكل العاطفة الثابتة.
- أن اعتناق الفرد لخلق معين فترة طويلة من الزمن لا يدل على الالتزام به؛ إذ لا يكون قد بذل فيه جهدًا عاطفيًا من طاقة الفرد العاطفية بحيث يتم الالتزام، وإنما لا بد من استغلال أكبر قدر ممكن من طاقة الفرد العاطفية، وتشغيلها بطريقة فعالة حتى يتم الالتزام الحقيقي.
- أن الأعمال المؤيدة للقيمة تعد أمرًا مهمًا، وهذه الأعمال إما أن تهيّأ في البيئة المحيطة، أو من إتاحة مناخ تظهر فيه هذه الأعمال من الفرد؛ لأنها تدل على وعي والتزام بحكم طبيعتها(17).
وفي هذه المرحلة، أيضًا، يعبر الفرد عن اعتقاده بقيمة خلقية في سلوكه العلني البراني المترتب على القناعة الجوانية، بمعنى إلزام المرء نفسه، وتعهده بانتهاج خلق معين.
ولزيادة درجة الالتزام في تنمية القيمة الخلقية يمكن استخدام واحد أو أكثر من العناصر التالية:
- توضيح الفعل الخلقي، صالحًا أو طالحًا، بمعنى توضيحه وخلوه من الغموض.
- إبراز أهمية الفعل الخلقي الصالح.
- إبراز تعذر الرجوع في الفعل الخلقي الصالح أو الطالح.
- تكرار مواقف السلوك الخلقي.
- إتاحة فرصة الاختيار والحرية أمام الملتزم في إقدامه على الفعل الخلقي.
وبهذا يمكن تأكيد الالتزام وزيادة درجته بحيث تقوى وتتأكد لدى الشخص، ونجد هذه الملامح الأساسية من خلال نصوص القرآن والسنة النبوية المطهرة.
5- وضوح التنظيم القيمي الأخلاقي:
ويعني هذا ترتيب القيم الخلقية في نظام ترتيبي معين أو في نسق معين، ويظهر ذلك في أنه حين يأخذ الفرد في تمثل القيم الخلقية بصورة متتابعة، يواجه العلاقة ذاتها بأكثر من قيمة واحدة، وهنا تنشأ الضرورة لأمور ثلاثة، وهي:
- ضرورة تثبيت القيم في نظام تتابعي أو نسق واحد.
- تحديد العلاقات المتبادلة بين هذه القيم الخلقية وبين المواقف الحياتية المختلفة.
- إبراز القيم المسيطرة ذات اليقين العالي عند الفرد.
- وهنا يأتي التجريد للأحكام الخلقية المعلنة، ويكون التعبير عنها في صورة رمز أو عمل، ومن خلال عملية التجريد هذه يقوم الفرد بتحديد الأشياء العامة المعتمدة على التحليل والمفاضلة، حتى يصل إلى تنظيم معين لقيمه، مكونًا أحكامه، بناءً على الخطوات السابقة، على الأشياء والعلاقات حوله، وهنا لا بد أن يتصف المرء بالمرونة الأخلاقية، التي تعني القدرة على صياغة قواعد أخلاقية مرنة، وحيث تفيده في التعرف على المبدأ الأخلاقي الكامن وراء التعليمات والقوانين، وهذا من الأمور المهمة.
6- التميز الخلقي والفعالية الأخلاقية:
وهذه مرحلة أخيرة؛ حيث يصبح الفرد متميزًا، ويصل إلى التصرف السلوكي الذاتي طبقًا للقيم التي تمثلها، والتي أصبحت تسيطر على أفعاله وتصرفاته وتراقبها، فهي تقوم بدور المراقب على قدر كبير من سلوك وتصرفات الإنسان؛ إذ يمكن وصفه وتقديره عن طريق هذه القيم الأخلاقية.
وهنا يكون طابعه تطبيق المبادئ الخلقية التي آمن بها في مواقف وسلوكيات حياته بفعالية وإيجابية وإقبال، حيث يكون الفرد قد دمج قيمه وأفكاره ومواقفه واتجاهاته في رؤية متكاملة تشكل علاقته مع العالم المحيط به، واستجاباته الدائمة والثابته تجاه المواقف والأشياء بصورة مترابطة، أي تشكل توجهًا سلوكيًا أساسيًا، يمكّن الفرد من الاستجابة لمواقف العالم المحيط، والعمل بثبات وفعالية في هذا العالم.
ويرتبط بهذه النقطة ما يسمى بالإبداع الخلقي، حيث إن من يتصف بهذا الإبداع يتعامل مع كل موقف جديد بانفتاح كامل متوج بالحب والعقل، فهو يتعامل مع الناس بالحب، ويتعامل مع المشكلات بالعقل، وتنطلق لديه قدرات علمية وثقافية فائقة التصور، ومعنى هذا أنه لا يخضع خضوعًا أعمى للأعراف والتقاليد، وإنما يتعامل معها بانفتاح ومرونة واستقلالية، ويبلور لنفسه ولمجتمعه قيمًا جديدة وأهدافًا جديدة تتناسب مع طبيعة المجتمعات والتحديات التي تواجهها(18).
7- موقف دعوة الغير إلى الالتزام بالقيمة:
طالما أن القيمة الخلقية قد ترسخت جذورها، وأصبحت ديدنًا للإنسان لا يحيد عنه في مواقف الحياة المختلفة، فإنه، ومن منطلق إيماني، يدعو غيره إليها، ويحببه فيها بشتى الوسائل الممكنة، فالمؤمن لا يكتمل إيمانه إلا إذا أحب لأخيه ما يحبه لنفسه، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(19)(20).
____________
(1) أخرجه أبو داود (4682).
(2) أخرجه مسلم (2553).
(3) أخرجه مسلم (35).
(4) تاريخ ابن خلدون، ص180.
(5) عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي، شوقي أبو خليل، ص122.
(6) تاريخ الطبري (3/418).
(7) تاريخ ابن عساكر (2/ 50).
(8) آفاق جديدة في التعليم الإسلامي، سيد علي أشرف، ص28-29.
(9) العقيدة الإسلامية والأيدولوجيات المعاصرة، عبد الغني عبود، ص143.
(10) الوسطية العربية، د. عبد الحميد ابراهيم، ص157.
(11) المرجع السابق، ص157-159.
(12) المرجع السابق، ص160.
(13) أخرجه الترمذي (7)، وابن سعد في الطبقات (1/ 316)، والبيهقي في الدلائل (1/ 286).
(14) دستور الأخلاق في القرآن، محمد عبد الله دراز، ص323-324.
(15) أخرجه البخاري (50).
(16)القيم الإسلامية والتربية، د. علي خليل أبو العينين، ص84.
(17)المرجع السابق، ص85.
(18)اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، ماجد عرسان الكيلاني، ص52.
(19)أخرجه مسلم (45).
(20) نضرة النعيم (1/ 127-135).