logo

الطريق إلى الصبر


بتاريخ : الأربعاء ، 10 رجب ، 1444 الموافق 01 فبراير 2023
بقلم : تيار الاصلاح
الطريق إلى الصبر

الله سبحانه وتعالى شرع لنا طاعات فيها مشقة على النفس لا لصعوبتها؛ ولكن لأن النفس تستثقلها فلا ترضى بها ولا تقبل بها، قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، لذا جاء قبلها بقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، فتحتاج إلى صبر واصطبار لأدائها والتعود عليها، فتتحول إلى راحة وقرة عين كما كان عند سيد البشر صلى الله عليه وسلم.

وهناك أمور حذر الله منها لكن النفس تهواها، لذا قال الله تعالى عن عباده الذين لا يقترفون المعاصي، ولا ينجرفون إلى الشهوات والملذات: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]، وقد قال بعض أهل العلم: إن الصبر عن المعصية أفضل من الصبر على الطاعة، قال ابن القيم: واختلف في أي الصبرين أفضل: صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟ فطائفة رجحت الأول وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدّيق، قالوا: ولأن داعي المعصية أشد من دواعي ترك الطاعة (1).

 

والإنسان في هذه الحياة يعيش مِحَنًا ومنحًا، ونعمًا ونقمًا، فهو لا ينفك عن أمرين: محن من الله تعالى حقها الصبر، ومنح ونعم قيدها الشكر.. فمن قام لله بحق النعم فشكرها، وواجب النقم فصبر لها كان خير الناس: كما في الحديث: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له» (2).

فالعبد يعيش بين الصبر والشكر، وهما مطيتان لا بد من ركوبِ إحداهما.

تعريف الصبر:

فإذا كان كل إنسان سيبتلى، وليس أحد منفك عن البلاء، وجب على المرء أن يتعلم الصبر ويتقنه؛ فإنه واجب، والرضا مستحب.

والصبر خلق جميل يمنع من فعل ما لا يحسن، وقيل هو: قبول البلوى بلا شكوى، وقال الفيروز أباديّ: وربّما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النّفس لمصيبة سمّي صبرًا، وإن كان في محاربة سمّي شجاعة، وإن كان في إمساك الكلام سمّي كتمانًا، وإن كان عن فضول العيش سمّي زهدًا، وإن كان عن شهوة الفرج سمّي عفّة، وإن كان عن شهوة طعام سمّي شرف نفس، وإن كان عن إجابة داعي الغضب سمّي حلمًا (3).

 

قال ابن القيّم: والاسم الجامع لذلك كلّه «الصّبر» وهذا يدلّك على ارتباط مقامات الدّين كلّها بالصبر (4).

وقال ابن القيم: فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن أظهر معاني الصبر: حبس النفس على المكرمة، وأنه من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة، وإنما كان صعبًا على العامة لأن العامي مبتدئ في الطريق وليس له دربة في السلوك، وليس تهذيب المرتاض بقطع المنازل، فإذا أصابته المحن أدركه الجزع وصعب عليه احتمال البلاء وعز عليه وجدان الصبر؛ لأنه ليس في أهل الرياضة فيكون مستوطنًا للصبر، ولا من أهل المحبة فيلتذ بالبلاء في رضا محبوبه (5).

والذي يجب أن يكون راسخًا في القلب لا تعصف به الرياح ولا تزعزعه الأهواء؛ أن نعلم يقينًا أنه ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله جلَّ وعلا، وحاشا لله الرحمن الرحيم أن يعذب أولياءه من المؤمنين بالفتن وأن يؤذيهم بالابتلاءات.

ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقة في نصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة.

والصبور اسم من أسماء الله الحسنى، وخير مثال عن الصبر نبي الله أيوب عليه السلام، فقد كثرت البلايا والأمراض عليه طيلة ثماني عشرة سنة، وهو صابرٌ محتسبٌ يرجو الثواب من الله تعالى، فدعا الله وابتهل إليه بخشوع وتضرع قائلًا: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، فأذهب الله عنه ما كان يجده من المرض وتعافى.

ولا بد من هذا الزاد الذي لا يمكن البتة أن يتحرك موكب الدعوة إلا به، حتى لتحتاج نفس محمد صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها للدعوة، وفي ثباتها وصلابتها وصفائها وشفافيتها؛ تحتاج نفسُ محمد صلى الله عليه وسلم بالرغم من هذا كله إلى هذا التوجيه الرباني الكريم بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة وقطف الثمار، فيأمره الله جلًّ وعلا بالصبر في عشرين موضعًا من القرآن الكريم، مرة بصيغة "اصبر" وهى ثماني عشر واثنتان بصيغة "اصطبر"، أما الصبر فقد ورد في نحو تسعين موضعًا في القرآن الكريم، فهو أكثر خُلق تكرر ذكره في كتاب الله عز وجل.

قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109]، {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، ثم يأتي الأمر بالصبر بعد النبي إلى الأمة في آيات كثيرة: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، ثم بشر الله عز وجل الصابرين بهذه البشريات الكريمة فقال جل من قائل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155- 157]

ثم زاد الله كرامة الصابرين في الجنة بدخول الملائكة للسلام عليهم كما قال عز وجل: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23- 25].

ذلكم هو شرف الصبر ولذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم خير وأوسع عطاءُ يعطاه العبد من الله جل وعلا، كما في الحديث الصحيح من حديث أبى سعيد الخدري وفيه: «ومن يستعفف يُعُّفهُ الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» (6).

قال ابن حجر: وقوله: «ومن يتصبر» أي يعالج نفسه على ترك السؤال، ويصبر إلى أن يحصل له الرزق، وقوله: «يصبره الله» أي فإنه يقويه ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له، ويذعن لتحمل الشدة، فعند ذلك يكون الله معه فيظفره بمطلوبه، وقال بن الجوزي: لما كان التعفف يقتضي ستر الحال عن الخلق وإظهار الغنى عنهم؛ فيكون صاحبه معاملًا لله في الباطن، فيقع له الربح على قدر الصدق في ذلك، وإنما جعل الصبر خير العطاء لأنه حبس النفس عن فعل ما تحبه، وإلزامها بفعل ما تكره في العاجل مما لو فعله أو تركه لتأذى به في الآجل (7).

والصبر كاسمه مرة مذاقته، صعبة معالجته، حلوة ثمراته؛ فعاقبته طيبة، وذكراه جميلة، وثمراته ممتعة مسعدة في الدنيا والآخرة، فعاجلها في العاجلة ممتع، وآجلها في الآجلة مسعد، يتنعم به السعداء في الجنة أبد الآباد، كما يشقى تاركوا الصبر في الدنيا يوم القيامة في النار وبئس المهاد.

أقسام الصبر:

والصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة.

فالصبر على الطاعات: بحمل النفس عليها، والقيام بها على وجهها، والاستمرار فيها طاعة لله ومحبة له وطلبًا لرضاه.

والصبر عن المعصية: بكف القلب عن تشَهِّيها، وكف النفس عن التطلع إليها، وكف الجوارح عن الوقوع فيها.. وأعظم ما يكون ذلك في الخلوات حين تتمكن من المعصية وتغيب عن عيون الناس، فعند ذلك يظهر الصابرون من الكاذبين.

والصبر على أقدار الله المؤلمة: أي على المصائب والابتلاءات في الأموال والأنفس والثمرات، ويقوم على ثلاثة أركان: حبس النفس عن التّسَخُّط بالمقدور، فلا يكون في نفسك اعتراضٌ على الله تعالى، وحبس اللسان عن الشكوى، فلا يتلفظ بما يُشعِر بعدم الرضا، وحبس الجوارح عن إتيان ما لا يرضي الله، كلطم الخدود، وشق الجيوب، والدعوى بدعوى الجاهلية.

بعد معركة أحد أَقبَلت صفيَّة بنت عبد المطلب إلى أرض القتال، وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزُّبير أن يمنعها؛ شفقة بها، حتى لا ترى جثة أخيها حمزة، أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد مُثِّل بها.

فقال لها ابنها الفارس المغوار الزبير بن العوام: يا أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولِمَ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك! لأحتَسِبنَّ ولأصبِرنَّ إن شاء الله، فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: «خل سبيلها»، فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له (8).

الطريق إلى الصبر:

وهذا الصبر بهذا الشكل شيء عظيم وعمل كبير، وإنما يعين عليه أمور:

الأول: أن تعلم أن هذا قضاءُ الله وقدره:

وقضاءُ الله نافد، وقدره لا يرد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه لا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره، وهو مكتوب على صاحبه قبل أن يخلق الله آدم بخمسين ألف سنة {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [الحديد: 22].

ومن تمام الإيمان وكماله أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

ثانيًا: أن تعلم أنه من الله فتُسَلِّم له، وترضى به:

فإن الله تعالى منه الخير كله، وما رأينا منه إلا الجميل، وكل نعمة بنا فمنه سبحانه، فإذا جاءنا منه ما يختبر به صبرنا ويبتلي به رضانا وإيماننا فلنسلم له ولنرض به.

قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].

فهو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد أن كل ما يصيب من خير ومن شر فهو بإذن الله.

وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها، فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها، كما يجوز أن تكون هناك مناسبة حاضرة في واقع الحال عند نزول هذه السورة، أو هذه الآية من السورة، فيما كان يقع بين المؤمنين والمشركين من وقائع.

وعلى أية حال فهذا جانب ضخم من التصور الإيماني الذي ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن، فيحس يد الله في كل حدث، ويرى يد الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء، يصبر للأولى ويشكر للثانية، وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء وفي الضراء إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات، أو بالخير على كل حال.

فقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وقد فسرها بعض السلف بأنها الإيمان بقدر الله والتسليم له عند المصيبة، وعن ابن عباس يعني يهدي قلبه هداية مطلقة، ويفتحه على الحقيقة اللدنية المكنونة، ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها، ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح، ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور (9).

ثالثًا: أن تعلم أن كل الناس مبتلى، وأنك لست في هذا وحدك:

فالابتلاء قانون عام يخضع له المؤمن والكافر، الطائع والعاصي، والبر والفاجر، والصالح والطالح..

من لم يصب ممن ترى بمصيبة     هذا سبيل لست فيه بأوحد

قال صلى الله عليه وسلم: «فإنما الناس مبتلى، ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية» (10).

فإذا أدركت ذلك سلاك وواساك وأعانك على الصبر.

رابعًا: أن تعلم أن السخط لا يمنع نزول القضاء، وأن عدم الرضا لا يمنع وقوع البلاء:

وأن كلًا منهما لا يحيي ميتًا ولا يرد فائتًا، وإنما التسخط والجزع يفرح الشيطان، ويشمت الأعداء، ويُحزِن الأصدقاء، ويضيع الثواب، ويحبط العمل.

قال علي لعدي بن حاتم رضي الله عنهما: يا عدي من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله (11).

خامسًا: أن ترى لطف الله فيها:

فإن لله في كل بلية ألطافًا، وليس لطفًا واحدًا.. فمن ذلك:

- أنها لم تكن في الدين: فكل بلية في غير الدين هينة، ولذلك جاء في سنن الترمذي والنسائي: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك...» وفيه: «ولا تجعل مصيبتنا في ديننا» (12).

- أنها لم تكن أكبر منها، وإنما خففها لطف الله.

- أنه سبحانه إذا أخذ أبقى، وإن ابتلى فلطالما عافى.

- أنه يفتح بسببها من صنوف العبادة ما لا يخطر على البال، من الافتقار إليه، الانكسار بين يديه، والإنابة إليه، والدعاء الذي كنت بعيدًا عنه، حتى إن البلية أحيانًا من لطف الله تكون عطية، والمحنة تكون منحة.

- أنها لا تدوم: فلا بد للبلاء من انقضاء، فإن الفرج مع الكرب والنصر مع الصبر، وإن مع العسر يسرًا.

يا صاحب الهم إن الهم منفرج       أبشر بخير فإن الفارج الله

الله يجعل بعد العســر ميســرة      لا تجزعن فإن الكافي الله

سادسًا: أن تتفكر في جزاء الصابرين:

فالصبر في أوله صعب لكن عاقبته أحسن العواقب:

الصبر مثل اسمه مر مذاقته      لكن عواقبه أحلى من العسل

- فأول عواقب الصبر: أن الله يحب الصابرين، وهو سبحانه معهم يعينهم ويوفقهم، قال سبحانه، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقال: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

- أن الصابرين عليهم صلوات الله ورحماته: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155- 157].

- أن الصابرين يوفون أجرهم بغير حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

- أن عاقبة الصبر الجنة: ففي صحيح البخاري: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر؛ عوضته منهما الجنة»، يريد عينيه (13)، وعند الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد» (14).

الوسائل المُعينة على خُلق الصبر:

قد يتعرض الإنسان في حياته إلى ابتلاءات ومحن عليه أن يكون صابرًا فيها، وقد يؤدي طاعة بعد جهد كبير فيصبر على ذلك، وقد يحاول ترك معصية، أو ذنب، فيستعين بالصبر ليحقق ذلك، فالصبر مهم في حياة الإنسان في كل الأحوال والأوقات، وفيما يأتي بيان بعض الوسائل والطرق التي تعين على التخلق بالصبر:

استشعار الإنسان الثواب الجزيل، والأجر العظيم الذي أعده الله تعالى لأداء الطاعات والعبادات.

أن يتذكر دائمًا أن للمعاصي والذنوب عقاب شديد عند الله تعالى.

القراءة في أحوال الأنبياء عليهم السلام، وأولو العزم من الرّسل كيف أنهم صبروا على كل ما حل بهم في حياتهم.

الاستمرار بدعاء الله تعالى، مع الإلحاح فيه بأن يرزقه الله الصبر، ويعينه على ذلك.

الاستعانة بالصلاة، والإكثار منها، فالصلاة تعين العبد على أن يكون صبورًا.

أن يستحضر في نفسه الثواب والفضل العظيم، الذي أعده الله تعالى للصابرين.

أن يكون الإنسان على علم دائم، وثقة بالله أنه الذي خلق الكون كله، وكتب كل شيء عنده في اللوح المحفوظ، وقدره قبل الخلق، فيبقى على إيمان بالقضاء والقدر خيره وشره.

أن يكون العبد دائم التذكر أن الدنيا زائلة فانية، وما هي إلا امتحان، واختبار من الله تعالى لعباده ليختبر عباده.

أن يستحضر العبد النعم التي أنعمها الله تعالى عليه، وأنّ كلّ المصائب والابتلاءات التي تحلّ وتقع، ويحمد الله تعالى على أنّ ما حصل لم يكن أكثر من ذلك.

أن يعلم الإنسان بأن بعد كل ما يحصل من ابتلاءات ومصائب له سيأتي بعده فرج من عند الله تعالى، فبعد كل عسر يسر (15).

الصبر زاد الطريق في هذه الدعوة:

والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة، إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء.

الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب.

والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار.

والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء.

والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق.

والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة، من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانًا في الخير، وقلة الرجاء أحيانًا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط.

والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع.

والصبر على هذا كله – وعلى مثله – مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل، لا تصوره حقيقة الكلمات، فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة، إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات، والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي، فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء، كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه.

إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي، منهج يتحكم في ضمائرهم، كما يتحكم في أموالهم، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم، منهج خير عادل مستقيم، ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة.

ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان، ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال، وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار.

وينهد لحربها المستهترون المنحلون، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات، ولا بد من مجاهدتهم جميعًا، ولا بد من الصبر والمصابرة، ولا بد من المرابطة والحراسة، كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل.

هذه طبيعة هذه الدعوة، وهذا طريقها، إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم، وهي واجدة أبدًا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام، ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد، ومن يتربص بها الدوائر، ومن يحاربها باليد والقلب واللسان، ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام (16).

فاصبروا لله ديانةً وعبادة، واصبروا بالله تعالى توكلًا واستعانة، واصبروا مع الله طاعة له بموافقة شريعته وتحقيق ما يرضيه، ونأيًا عن معصيته واجتنابِ كل ما يسخطه ويؤذيه؛ فإنكم من خلقه، وتتمتعون بفضله ورزقه، ومردكم إليه فمجازون برحمته وفضله، أو عدله وحكمته؛ فعاقبة الصبر أو عدمه عائدة إليكم، وعلم الله السابق وقدره متحقِّق فيكم، ولكن الله ابتلاكم بالتكليف به؛ لتقوم حجته عليكم، ويتجلى عدله أو فضله على مستحقه منكم، فاسألوا الله العافية من البلاء، واصبروا له وبه عند الابتلاء، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين كفعل أهل الكفر والأهواء.

----------

(1) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 275).

(2) أخرجه مسلم (2999).

(3) لسان العرب (4/ 438).

(4) مدارج السالكين (3/ 165).

(5) التهذيب (2/ 566).

(6) أخرجه البخاري (1469).

(7) فتح الباري لابن حجر (11/ 304).

(8) سيرة ابن هشام (3/ 784).

(9) في ظلال القرآن (6/ 3588).

(10) أخرجه مالك في الموطأ (8).

(11) أخرجه البيهقي في الشعب (9689).

(12) أخرجه الترمذي (3502).

(13) أخرجه البخاري (5653).

(14) أخرجه الترمذي (1021).

(15) كيف تعلم نفسك الصبر/ موضوع.

(16) في ظلال القرآن (1/ 552).