logo

منابع القسوة


بتاريخ : السبت ، 3 صفر ، 1445 الموافق 19 أغسطس 2023
بقلم : تيار الاصلاح
منابع القسوة

الفلسفة المادية تبرر القسوة، وترى في الرفق منهجًا لا يحقق النمو والثراء السريع والمتراكم، كما أنها لا تنظر إلى الضحايا؛ بل ترى أن وقوعهم نتيجة الاستغلال والعنف هو أمر طبيعي ومبرر، وهي بذلك تحمي نفسها من أية مشاعر إنسانية قد تتسرب إلى قلبها مع رؤية الضحايا أو آثار القسوة حولها، وبذلك تبتعد بقدر تبريرها للقسوة عن إنسانيتها، فيغيب الشعور بالذنب، بعدما شُيدت جدران عالية تحول بين القلب والرحمة.

لذلك تلجأ القسوة إلى تفكيك كل ما هو أخلاقي، لتوقظ الوحش المخيف الذي يتلذذ بالقسوة وممارسة العنف، وهذا المفهوم له امتداداته في التراث الإنساني، وربما عبر عن الوزير العباسي محمد بن الملك الزيات بقوله: ما رحمت أحدًا لأن الرحمة خَوَرٌ في الطبع، وكان يوصف بأنه قاسي القلب غليظ الكبد، يتلذذ بالقسوة والتعذيب.

ولذلك فغياب الرفق، وحضور القسوة يفسد الشخصية، ويغيب فضيلة التوازن بين الأخلاق في النفس البشرية، لتتحول القسوة إلى مرض لا ينفك عن الشخصية، وهو ما يعرف بالسادية والتلذذ بتعذيب الآخرين، لذلك تجد بعض الأشخاص يتلذذون بالإفساد وقتل الطيور وتقطيع الأشجار، وتشويه الجمال في الكون، لتصبح القسوة نزعة داخل النفس تمارس باعتياد وتلذذ وبلا نهاية أو مراجعة ذاتية.

واعلم أن الشدة في غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى، ولذا قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

أي ولو كنت- يا محمد- كريه الخلق، خشن الجانب، جافيًا في أقوالك وأفعالك، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك، ولو كنت كذلك {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك.

فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يكون فظًا أو غليظًا، لأن «لو» تدل على نفى الجواب لنفى الشرط، أي أنك لست- يا محمد- فظًا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مترخص وغال، ويحبونك حبًا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم.

وقال سبحانه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} لينفي عنه صلى الله عليه وسلم القسوة والغلظة في الظاهر والباطن: إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو في الفظاظة التي هي خشونة الجانب، وجفاء الطبع، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك، ويكفى أن الله تعالى قد قال في وصفه: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، إنه ليس بفظ، ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح (1).

ومع تحول القسوة إلى مرض في الروح، يقضم كل لحظة من إنسانية الإنسان، تتحول إلى مرض بلا علاج، وما أروع التوصيف النبوي لتلك القسوة المترسخة في نفوس البعض، في حديث الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقي» (2)، لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، ورقته علامة الإيمان، ومن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يرزق الرقة شقي ذكره الطيبي.

قال ابن العربي: حقيقة الرحمة إرادة المنفعة، وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره ذهب عنه الإيمان والإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، والمؤمن من أمن جاره بوائقه (3).

 

وقال عزّ من قائل: {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، فالمراد تلك القلوب الصّلبة الّتي لا تعي خيرًا ولا تفعله (4).

 

وقال الجاحظ: القساوة: هي التّهاون بما يلحق الغير من الألم والأذى، وهي خلق مركّب من البغض والشّجاعة (5).

 

وفي الحديث الذي رواه ابن حبان أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى اللهُ عليه وسلم فقال: «أتُقبِّلون الصبيان؟»، فما نُقبِّلُهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (6)، فنزع الرحمة شقاء مبين، يشقى به الإنسان، ويُشقى به من حوله من الموجودات.

 

سنن الاجتماع الإنساني تؤكد أن أي قسوة لا تمر دون آثار، فتنمية القسوة في المجتمع تعود على المجتمع بالجرائم المروعة، وتنمية الشره الاستهلاكي، ومشاهد تعذيب الحيوان ترجع إلى المجتمع في ممارسات خرقاء مخيفة، لذلك نمى الإسلام نزعة الرفق في المسلم لتصبح منهجها حياتيًا، فعندما وجد النبي صلى الله عليه وسلم، بعض أصحابه أخذ فرخين لطائر، وبدا الذعر على الطائر، قال صلى الله عليه وسلم: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» (7)، أي: من أحزنها وخوفها بأخذ صغارها؟ وهو لفت لنظر المسلمين، إلى أن هذه الطيور والحيوانات، تعرف الفجيعة، ولها عواطف يجب احترامها، وعدم التعدي عليها، والرفق بها، وألا تستخدم القسوة معها، وأنها ليست مجالًا للعبث، ولذلك كان الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن يقول: إن شرف الإنسانية في الإبقاء على ألبستها المعنوية، ومن ألزم تلك الألبسة بالإنسان هي الرحمة والرفق (8).

 

قد يبدو إلحاقك الأذى أو الألم بشخص آخر مسالم لا يستطيع أن يرد لك الصاع صاعين، قسوة لا تطاق، لكن اللافت أن ذلك الأمر يحدث بشكل يفوق ما يمكن أن تتصور.

 

هناك العديد من الأسباب التي تدفع للقسوة والعنف، ومنها ما يلي:

أولًا: الابتعاد عن الله سبحانه وتعالى وقلة الوازع الديني لديه، فالقرب من الله سبحانه وتعالى يرقق القلب ويلين الانسان وتصبحه نفسه طيبة وقلبه خاشعًا، فحب الدنيا ونسيان الآخرة يجعل الشخص يتصرف بقسوة وفظاظة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، أي: تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرًا (9).

 

فالله يهدي من ينيبون إليه، فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلًا لهداه، والمفهوم إذن أن الذين لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال، فيضلهم الله. فهو استعداد القلب للهدى وسعيه إليه وطلبه، أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد..

 

ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة، في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}، تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه، تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

 

ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله، يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردًا بلا أنيس، فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه.

 

وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله.

 

ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون، ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود.

 

ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدًا وحيدًا شاردًا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.

 

وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله، مطمئنًا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله (10).

 

وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع، إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه، ضنك الحيرة والقلق والشك، ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت، ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت، وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله، وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولًا وعرضًا وعمقًا وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان (11).

 

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم- في أنحاء الأرض- هو عالم القلق والاضطراب والخوف والأمراض العصبية والنفسية- باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار.

 

وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك! إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة. وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة؟ (12).

 

ثانيًا: طبيعة المجتمع الذي يشجع على القسوة، فينظر إلى الشخص العدواني والقاسي على أنه يتمتع بقوة الشخصية، والشخص الذي نفسه طيبة ينظر إليه على أنه ضعيف الشخصية.

 

قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72]، إنهم لا يناهضون الحجة بالحجة، ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجؤون إلى العنف والبطش عند ما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل، وذلك شأن الطغاة دائمًا يشتجر في نفوسهم العتو، وتهيج فيهم روح البطش، ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف الغليظ! ومن ثم يواجههم القرآن الكريم بالتهديد والوعيد (13).

 

لما وصل سحنون إلى الأمير، جمع له قواده وقاضيه ابن أبي الجواد وغيره، وسأله عن القرآن، فقال سحنون: أما شيء أبتدئه من نفسي فلا، ولكن سمعت من تعلمت منه وأخذت عنه كلهم يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال ابن أبي الجواد: كفر اقتله، ودمه في عنقي، وقال غيره مثله ممن يرى رأيه وقال بعضهم: يقطع أرباعًا ويجعل كل ربع بموضع من المدينة، ويقال هذا جزاء من لم يقل بكذا.

 

فقال الأمير لداود بن حمزة: ما تقول أنت؟ قال: قتله بالسيف راحة، ويقال إن قائل هذا علي بن حميد ومحمد بن أحمد الحضرمي ورجال السنة من أصحاب السلطان، ولكن اقتله قتل الحياة، تأخذ عليه الضمناء وينادى عليه بسماط القيروان ألا يفتي ولا يسمع أحدًا ويلزم داره ففعل ذلك وأخذ عليه عشرة حملاء (14).

 

وقام أهل المغرب على الإمام أبي بكر النابلسي- مع علمه وزهده وورعه وتمسكه بالسنة وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر- فأخرجوه من بلاد المغرب بالقيد والزند إلى مصر، وشهدوا عليه عند السلطان بكلمات من كلمات القوم، فأقر بها وأصر عليها، فأمر بسلخه حيًا منكوسًا، ففعل به ذلك، فصار- وهو كذلك- يقرأ القرآن (15).

 

ثالثًا: أساليب التربية الخاطئة المتبعة منذ الطفولة المبكرة، والتي يتم من خلالها الزرع في نفس الطفل أنك حتى تكون رجلًا فيجب أن تكون قاسي.

 

إن التربية عملية شاقة مستمرة متراكمة تراعي المتغيرات وتنتبه إلى النفسيات وخصائص كل مرحلة عمرية، فتوجيه الأطفال ليس كتوجيه اليافعين، وتوجيه اليافعين ليس كتوجيه الشباب البالغين وهكذا، فلكل خصائص علينا مراعاتها عند التعامل معه بما يحقق الهدف المرجو من التوجيه، وإلا أصبح التوجيه عبارة عن أوامر جافة لا روح فيها، والأوامر الجافة دائمًا تدفع الأبناء إلى الرفض والعصيان أكثر مما تدفعهم إلى الفهم والتطبيق.

 

رابعًا: أصدقاء السوء الذي يحبون القسوة والفظاظة، فإذا كنت رقيق القلب ولين سيتخلون عنك وقد يسخرون من هذا الشخص.

 

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالط»، وقال مؤمل: «من يخالل» (16).

 

قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد ذكر صحبة رجل فقال:

لا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى حليمًا حين آخاه

يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه

 

قال الراغب: التخلق والتشبيه بالأفاضل ضربان؛ محمود وهو ما كان على سبيل الارتياض والتدرب على الوجه الذي ينبغي وبالمقدار الذي ينبغي، ومذموم وهو ما كان رياء وتصنعًا ويتحراه فاعله ليذكر به ويسمى تصنعًا وتشيعًا، ولا ينفك صاحبه من اضطراب يدل على تشيعه (17).

 

وقال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا، لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري (18).

 

خامسًا: الظروف المعيشية السيئة، والظروف البيئية القاسية تجعل الشخص قاسي القلب ساخطًا على مجتمعه، ناقمًا على وضعه وحاله، فيقسو على كل من حوله من أهل وأصحاب وجيران؛ بل قد يقسو على نفسه أحيانًا.

 

سادسًا: سوء الأخلاق وارتكب المعاصي والذنوب وهجر القرآن، فالذنوب تقسي القلب وتميته.

 

إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة (19).

 

صفات الشخصية القاسية:

إليك بعض الصفات التي تمتلكها الشخصية القاسية وطريقة التعامل معها:

 

التهديد والوعيد:

بالنسبة لهم، هم فوق الجميع ولديهم القدرة على قيادة المحيطين بهم نحو الطريق الذي يرسمونه، وذلك عن طريق الضغط على نقاط الضعف لدى الآخر واستغلالها بأبشع الطرق، الأهم بالنسبة لهم هو تحقيق مصالحهم الشخصية بما يتوافق مع معتقداتهم.

 

التقليل من قيمة الآخر:

تعاملك مع واحد من القاسين في حياتك، كفيل بإفقادك الثقة في نفسك؛ حيث يعكف على التقليل من إنجازاتك مهما بلغت، وفي حالة كان لديك طموح معين، من الأفضل عدم البوح لصديقك القاسي به، فهو لن يحب الخير لك ولن يدعمك من أجل الوصول لأهدافك، بل يحاول بشتى الطرق التقدم عليك وتثبيط همتك على الجانب الآخر ليصل أولًا.

 

حب الزعامة:

قد لا تبدو صفةً ذميمة على أي حال، حيث تعبر القيادة عن قوة الشخصية، ولكن مع أصحاب الشخصية القاسية؛ الأمر مختلف، هم لا يعرفون ما هي المشاركة والحرية في التعامل مع الآخر، بل الديكتاتورية والعدوانية وافتقاد اللين والتعاطف مع الموظفين هو السمة السائدة.

 

لا تجد من يعملون تحت قيادتهم راضين أو راغبين في تقديم أفضل ما لديهم، وذلك لأن المدير القاسي لا يعزز ثقة الموظف في نفسه وقدرته على العطاء، بالتالي لا ننصحك كصاحب عمل بتعيين صاحب هذه الشخصية في وظيفة إدارية، بل تخير الشخص المتوازن نفسيًا والقادر على دعم موظفيك.

 

سياسة العقاب:

نعلم جيدًا أن سياسة الثواب والعقاب هي من السياسات الفعالة والتي تأتي بنتائج طيبة، لكن ما هو الحل مع الشخص الذي يعاقب فقط؛ هذا هو الإنسان القاسي.

 

الأب القاسي يعاقب طفله لمجرد أنه يبكي، ويعتقد أن تلك هي الطريقة المُثلى في التربية من وجهة نظره، وكان أولى به التعرف على السبب ومحاولة علاجه.

 

العقاب حسب الرغبة:

قد نكون على إلمامٍ واضحٍ بأهم ما يستوجب العقاب بالفعل، وهو على الأرجح الوقوع في خطأ ينتج عنه تداعيات خطيرة، ولكن الأشخاص القاسين يضعون قواعد مختلفة تمامًا، حسب ما يتراءى لهم وتبعًا لاضطراباتهم النفسية؛ لا تجد الشخص القاسي واضحًا في قواعده بحيث يخطئ الآخر رغمًا عنه، الهدف الرئيس لديه هو إلحاق الضرر النفسي بالآخرين.

 

عقول خاوية:

رغم أن فكرتك عن الشخصية القاسية للوهلة الأولى أنه إنسان غير قابل للكسر، وله عقلٌ راجح، إلا أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، هو بالفعل يختبئ خلف ستار من القسوة كي لا يظهر خواء عقله وعدم قدرته على إدارة الأمور.

 

الحجج المنطقية هي أكثر عدو لهم، حيث تظهرهم على حقيقتهم وبأنهم غير قادرين على المجادلة أمام الحقائق الملموسة، تلك الحقائق التي تدحض مبادئهم وتجعلها تنهار أمام أعينهم، حيث يعتمدون في حياتهم على الكذب لإطالة عمر سطوتهم على الغير.

 

النزعة العرقية المستبدة:

أشياؤه هي الأفضل دائمًا، وبالرغم من أنهم من ذوات العقليات الخاوية أو المحدودة على أقل تقدير، إلا أنهم أمام أنفسهم لا يمكن لأحد مجاراتهم فيما يقدمون من إنجازات.

 

من أهم مبادئهم؛ إنجازاتي هي الأفضل مهما بلغت أنت من مكانة، دائمًا ما يحبطونك ويثبتون لك أنهم الأكثر نجاحًا بما لديهم من خبرات حياتية تؤهلهم للقمة، فهم لا يتحملون نجاح أي شخصٍ آخر سواهم.

 

مقاومة الإبداع:

الأبيض والأسود فقط هو ما يعرفونه، ليست هناك أية ألوان أخرى في حياتهم، يفتقدون النظرة الإبداعية ولا يتذوقون الشعر أو الرسم أو الموسيقى وغيرها من المجالات التي بحاجة للإبداع.

 

كيفية التعامل مع الشخصية القاسية:

قد يكون حظك عسرًا وتحتاج لبعض المهارات التي تجعلك مؤهلًا للتعامل مع هذا الشخص القاسي المستبد؛ لذلك احرص على تدريب نفسك على النقاط التالية:

 

- تحل بالصبر وكن منصتًا جيدًا؛ كي لا تثير غضبته.

 

- إذا كان لديك خبرة تعامل سابق معه، اتخذ من معلوماته التي منحها لك سابقًا، حائطًا للصد عن نفسك أثناء الحديث معه.

 

- كن واثقًا أمامه، كي لا يشعر بضعفك وبالتالي لا يتمكن من استغلالك لصالحه.

 

- إذا كان في طريقه لتعنيفك على خطأ ما لم يكن مقصودًا، التزم الصمت وسوف يشعر من تلقاء نفسه أنه حمّل الأمر أكثر مما يحتمل.

 

- ضبط النفس والمحافظة على رباطة جأشك وهدوئك؛ هو أفضل طريقة للتعامل مع الشخصية القاسية.

 

- عندما ترفض طلبًا له، كن حازمًا في ذلك ولا تتراجع.

 

- يفضل عند التعامل مع شخص متسلط وقاسٍ ألا تبدأ بالنقاش، بل دع المبادرة له (20).

-----------

(1) التفسير الوسيط لطنطاوي (2/ 316- 317).

(2) أخرجه أبو داود (4942).

(3) فيض القدير (6/ 422).

(4) تفسير القرطبي (6/ 76).

(5) القاموس المحيط (ص: 900).

(6) أخرجه ابن حبان (5595).

(7) أخرجه أبو داود (2675).

(8) من أين تتفجر منابع القسوة؟ - إسلام أون لاين.

(9) تفسير ابن كثير (4/ 455).

(10) في ظلال القرآن (4/ 2060).

(11) في ظلال القرآن (4/ 2355).

(12) في ظلال القرآن (1/ 326).

(13) في ظلال القرآن (4/ 2443).

(14) موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (3/ 481).

(15) غاية الأماني في الرد على النبهاني (2/ 319).

(16) أخرجه أحمد (8028).

(17) فيض القدير (3/ 71).

(18) إحياء علوم الدين (2/ 173).

(19) في ظلال القرآن (6/ 3489).

(20) صفات الشخصية القاسية وكيفية التعامل معها/ النجاح.