الإشاعة والدوافع النفسية
القلق، والحبّ، والكره، والحقد، والخوف، والأمل، والانتقام؛ كلها دوافع نفسية إنسانية يتم التركيز عليها عند إطلاق الإشاعات، فالإنسان القلِق من فشله مثلًا يكون أكثر ميلًا من غيره لتصديق خبرٍ عن فشل أعدادٍ كبيرةٍ من الناس ثم يسعى لنشر هذا الخبر، والشخص الذي يكره شخصًا آخر أو مجموعةً من الناس مثلًا يسارع إلى تصديق أو نشر أي خبرٍ يسيء إلى ذلك الشخص أو إلى تلك المجموعة.. وهكذا.
فالخُواء الفكري والفراغ النفسي، وإهمال التربية الصحيحة، والانسياق وراء شبهات العقل، وشهوات النفس، واعتياد الناس على اللهو وعدم الجدِّ في الأمور، كل ذلك يؤدي إلى خلل في وعي المجتمع وإدراكه يجعله فريسة للشائعات، ومرتعًا خصبًا لمروِّجي الأكاذيب ودعاة التهويل والتضليل.
ولسنا مبالغين حين نقول إن ما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك، هو حدث الأحداث في تاريخه عليه الصلاة والسلام، فلم يمكر بالمسلمين مكر أشد من تلك الواقعة، وهي مجرد فرية وإشاعة مختلقة بينت (السماء) كذبها، لكنها لولا عناية الله كانت قادرة على أن تعصف بالأخضر واليابس، ولا تبقي على نفس مستقرة مطمئنة، ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله شهرًا كاملًا وهو يصطلي نار تلك الفرية، ويتعذب ضميره وتعصره الإشاعة الهوجاء، حتى تدخل الوحي ليضع حدًا لتلك المأساة الفظيعة.
وليكون درسًا تربويًا رائعًا لذلك المجتمع، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة، وصدق الله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11]، فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي عندئذ لا تقف عند حد (1).
فأجرى الله حديث الافك حتى ردّ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها إلى الله، وردّ قلب عائشة عنه إلى الله حيث قال- لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك كشف الله عنها به تلك المحقة، وأزال الشكّ، وأظهر صدقها وبراءة ساحتها.
فإذا كانت الفراسة صفة المؤمن؛ فأولى الناس بالفراسة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تظهر له بحكم الفراسة براءة ساحتها، والسبب فيه أنه في أوقات البلاء يسدّ الله على أوليائه عيون الفراسة إكمالًا للبلاء.
وكذلك إبراهيم- عليه السلام- لم يميّز ولم يعرف الملائكة حيث قدّم إليهم العجل الحنيذ، وتوهمهم أضيافًا، ولوط عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة إلى أن أخبروه أنهم ملائكة (2).
من أهداف الإشاعة:
المحور الذي تهدف إليه الإشاعة هو إضعاف الروح المعنوية للخصم تمهيدًا لانهيارها، وبالتالي إجبار هذا الخصم على الاستسلام وتنفيذ الشروط التي تُملَى عليه، وتعريضه لهزيمةٍ، وانكسارٍ، أو لخسارةٍ كبيرة.. وهذه الهزيمة هي النتيجة النهائية لجملةٍ من الأهداف تحققها الإشاعة في صفوف الخصم أو العدوّ، ومن هذه الأهداف:
1- تفريق الصفوف، وتوسيع الثغرات، وتبديد الإمكانات، يقول أحمد نوفل: وللإشاعة قدرة على تفتيت الصف الواحد والرأي الواحد، وتوزيعه وبعثرته، فالناس أمامها بين مصدق ومكذب، ومتردد ومتبلبل، فغدا بها المجتمع الواحد والفئة الواحدة فئات عديدة (3).
2- التشكيك في كل عملٍ، أو حركةٍ، يقوم بها الخصم، وخاصةً في عدالة الهدف الذي يسعى إليه، أو في أهميته أو مبرراته.
3- بثّ عوامل الضعف والوهن، وفي طليعة ذلك: زعزعة ثقة الخصم بنفسه، وبعوامل قوّته وتماسكه.
إن الانشغال بإشاعة الأخبار السيئة، وتضخيم أخطاء الناس، والحرص على تصيدها ومتابعتها والتفكه بعرضها في المجالس يشيع الاضطراب والقلق في النفوس، ويكون من باب إشاعة الشعور بالإحباط واليأس عند كثير من الناس، ومن باب نشر الفتنة، وتهوين نقلها بين الشباب، وربما قاد ذلك إلى تهوين ارتكابها في نفوسهم.
يقول الله تعالى في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
هذا الحادث -حادث الإفك- قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلامًا لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل.. شهرًا كاملًا، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق (4).
الإشاعة كيف نقاومها:
تميل النفس الإنسانية دومًا إلى تنظيم المعلومات بطريقةٍ تحقق أكبر قدرٍ من الوضوح والانتظام والكمال، وعندما يسمع الإنسان خبرًا غامضًا يميل فورًا إلى تبسيطه ليكون واضحًا، وفي حال عدم توفر معلوماتٍ، كافيةٍ، لذلك يميل إلى سد هذه الثغرة وتعويض هذا النقص في المعلومات، وإذا لم يستطع تحصيل ذلك من المصادر الموثوقة يستعين بمصادر أخرى من أوساط الناس والمجتمع، أو من وكالات الأنباء المختلفة وغيرها من وسائل الإعلام المتعددة، وهذه الأوساط كلها قد تكون بؤرًا لبث الأخبار الملفّقة الكاذبة والإشاعات، مما يؤدي إلى نتيجتين سيّئتين:
1- تصديق الإشاعة أو الخبر الكاذب أولًا.
2- ثم المشاركة في نشره وتوسيع دائرة انتشاره في المجتمع.
وانطلاقًا من المفهوم العلمي النفسي الوارد آنفًا، فإنّ مقاومة الإشاعة تعتمد بشكلٍ رئيسيٍ على:
أولًا: نشر الحقيقة أو تصحيح المعلومات الخاطئة بأسلوبٍ يتّسم بالبساطة أو الوضوح ما أمكن ذلك، والانتظام في تزويد الناس بالمعلومات أولًا بأول، وتقديم المعلومات الكاملة حول الموضوع الذي يتخذه العدوّ أو الخصم مادّةً لإشاعته بين الناس، وذلك بما لا يتعارض مع مبدأ السرّية والكتمان عند اللزوم.
ثانيًا: تحليل الإشاعة ودراستها، ثم السعي لكسر حلقة نشرها، وكشف محاولات التخذيل فيها، وتتبّع سيرها للوصول إلى مروّجيها وكشف حقيقتهم، وحقيقة مطلقيها الأصليين.
ثالثًا: التماسك على صعيد الصف المسلم، وعلى الصعيد الاجتماعي، وما ينتج عنه من وعيٍ، وإدراكٍ، وترابطٍ، وثقةٍ متبادلةٍ، بين أبناء المجتمع أو الصف المسلم، ما يؤدي لردّ كل إشاعةٍ، إلى أولي الأمر لوضع الحل المناسب لها.
كيف تعامَلَ القرآن الكريم مع الإشاعة؟
1- بالردّ الحاسم السريع الذي يبيّن الحقيقة بكل وضوح: {أَمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثلِهِ وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِن دُونِ اللهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ} [يونس: 38]، {أَمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل فَأتُوا بِعَشرِ سُوَرٍ مِثلِهِ مُفتَرَيَاتٍ وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِن دُونِ اللهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ} [هود: 13].
هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته، وجزالته وطلاوته، وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به، وأفهمهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادًا (5).
ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب، وبتشريف نسبة إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيزي (6).
2- بالحثّ على عدم إذاعة أي خبرٍ (أمنًا كان أم خوفًا)، بل ردّه إلى أولي الأمر أولًا لاستنباط ما فيه من خيرٍ، أو شرّ، ثم اتّخاذ القرار المناسب بشأنه {وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولَا فَضْلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة (7).
والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ولم يدركوا جدية الموقف وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال (8).
قال الزمخشري: هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال، ولا استبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة، أو خوف وخلل، أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة (9).
3- بزيادة إيمان المؤمنين، وتقوية روابطهم مع الله عز وجل، وبوضع حدٍّ فاصلٍ واضحٍ بين الحق والباطل {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَولِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ} [آل عمران: 175].
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول، وأنهم يملكون النفع والضر، ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد.
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل، وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قويًا قادرًا قاهرًا بطاشًا جبارًا، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مدافع، ولا يغلبه من المعارضين غالب، الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا، فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش، يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم، ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة، بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه..
والشيطان ماكر خادع غادر، يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته، ومن هنا يكشفه الله، ويوقفه عاريًا لا يستره ثوب من كيده ومكره، ويعرف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته، ليكونوا منها على حذر، فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه، ويستند إلى قوته، إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر، هي قوة الله، وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء، فلا تقف لهم قوة في الأرض، لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان (10).
4- بالتحذير من أهل الكفر والشرك والأعداء من أهل الكتاب وخاصةً اليهود {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدٌّوكُم بَعدَ إِيمَانِكُم كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]، {أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤمِنُونَ بِالجِبتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 50].
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعدًا في طريق النماء والارتقاء، وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب.
هذا من جانب المسلمين؛ فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها، فهذه العقيدة هي صخرة النجاة وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة (11).
5- بالتحذير من المنافقين وأشباههم الذين يسعون دومًا لبثّ الإشاعات التي تفتّت الصفوف، وتفرّق المؤمنين، وتبعدهم عن هدفهم، وتفتّ في عزيمتهم {إِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُم وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، {لَو خَرَجُوا فِيكُم مَا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوضَعُوا خِلالَكُم يَبغُونَكُمُ الفِتنَةَ وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر، وتستخف بالخطر، وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة، وللأخطار الواضحة، إنهم هم لا يعرفون مبررًا لهذا التهور- كما يسمونه- وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة، إنهم يحسبون الحياة كلها- بما فيها الدين والعقيدة- صفقة في سوق التجارة، إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى، إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان، إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائما فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلب، أو الشهادة والجنة، ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف فهناك الله، وهذا ما لا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض، والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه، وأن ترى بنور الله وهداه، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله، وأن تلقي بالها دائمًا إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (12).
6- بالتحذير من ترديد الإشاعات من غير علمٍ، أو وعيٍ، لأبعادها وأهدافها {إِذ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتِكُم وَتَقُولُونَ بِأَفوَاهِكُم مَا لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وَتَحسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ (15) وَلَولَا إِذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَا يَكُونُ لَنَا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ (17)}
[النور: 15- 17].
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! {وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول (13).
كيف تعامَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الإشاعة؟
1- بثّ الثقة والأمل والتفاؤل بنصر الله وتأييده مهما كانت الظروف، كما فعل يوم الخندق ردّاً على الشائعات المرجِفة التي كان يطلقها المنافقون {وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، فقد كان ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المُرجِفين بمخاطبة أصحابه رضوان الله عليهم: «والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله عز وجل مفاتح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله» (14).
2- استنفار الطاقات وتجميع القوى والإمكانات حول هدفٍ واحدٍ محدّد، والسرعة في اتّخاذ الإجراءات بعد أي إشاعة، وقبل أن تفعل فعلها المدمِّر في الصف المسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يوجّه حالات الاستفزاز والاحتقان نحو الإيجابية والاستثمار الأمثل، قبل أن تتوجّه بشكلٍ ارتجاليٍ نحو أهدافٍ أخرى غير محسوبة النتائج؛ كما حصل يوم الحديبية بعد أن سَرَت إشاعة تفيد بأنّ عثمان بن عفّان رضي الله عنه قد قُتِل في مكة، حيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان المشهورة التي كانت بيعةً على الموت، فوجّه بذلك الطاقات، ورفع من الروح المعنوية للمسلمين، واستثمرها بشكلٍ منظّمٍ وهادف.
3- إشغالُ الناس بأمرٍ مفيدٍ، ريثما تتهيأ الظروف لوضع الحلول المناسبة لبعض الإشاعات التي قد تَشغَل الصف المسلم وتحاول تفتيته.. كما حصل بعد غزوة بني المصطلق عندما أطلق زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول إشاعته وفِريَتَهُ التي بدأت تسري بين المسلمين، إذ قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فقد جاء في السيرة النبوية المطهّرة ما يلي: فقد مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وإنما فعل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليَشغَلَ الناسَ عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ (15).
4- مَنعُ إطلاق الإشاعات أو المشاركة في نشرها حتى لو كانت صحيحةً؛ درءًا لخلخلة المجتمع والصف المسلم، أو التأثير على روحه المعنوية، كما حصل يوم الخندق بعد أن بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنّ بني قريظة قد نقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه صلوات الله وسلامه عليه: «فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس» (16).
كيف تعامَلَ المؤمنون والصحابة رضوان الله عليهم مع الإشاعة؟
1- بالإيمان القوي الذي لا يمكن زعزعته، وبأنّ العلاقة مع الله تعالى تفوق كل علاقة، وأنّ التوكّل عليه سبحانه هو الأساس {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبُنَا اللهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، {وَلَمَّا رَأى المُؤمِنُونَ الأَحزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُم إِلَّا إِيمَانًا وَتَسلِيمًا} [الأحزاب: 22].
2- بالتماسك والتلاحم والثقة غير المحدودة بإسلامهم، وبإخوانهم، وبالوعي التام لمخططات العدوّ والمرجِفين، وبمحاكمة الإشاعة بموضوعيةٍ، وعلميةٍ، ومنطقٍ، سليم، فقد ورد في السيرة النبوية بعد خبر الإفك: إنّ أبا أيوب –خالد بن زيد- رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، ألا تسمع ما يقول الناس عن عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذِب، أكنتِ يا أم أيوب فاعلة؟ قالت: لا واللهِ ما كنت لِأفعَلَهُ، قال: فعائشة واللهِ خيرٌ منكِ (17).
فالإشاعة تصبح سلاحًا فتّاكًا عندما يعاني المجتمع ويعاني الصف المسلم من الأمراض التي تهيئ الظروف والأجواء والبيئة لسريانها، وتحقيق أهداف مُطلقيها ومروّجيها، لكنها سلاح فاسد يرتدّ على صاحبه عندما يخلو المجتمع والصف المسلم من الأمراض التي تزعزع الثقة بنصر الله عز وجل، وبقضائه وقَدَرِه، وتُضعِف الإيمانَ به سبحانه وتعالى وبالإسلام العظيم، وتوهن العزيمة بالفوضى والاضطراب واللامبالاة.
يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ} [آل عمران: 139] (18).
والذي ينبغي على المسلم عند سماعه مثل هذه الإشاعات والأخبار أن:
1- أن يقدم حسن الظن بأخيه المسلم، وهو طلب الدليل الباطني الوجداني، وأن ينزل أخيه المسلم بمنزلته، وهذه هي وحدة الصف الداخلي: {لَولَا إِذْ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ والمُؤمِنَاتُ بِأَنفُسِهِم خَيرًا}.
2- أن يطلب الدليل الخارجي البرهاني: {لَولَا جَاءُوا عَلَيهِ بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
3- ألا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه الشائعات لماتت في مهدها ولم تجد من يحيها إلا من المنافقين: {ولَولَا إذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا}.
4- أن يرد الأمر إلى أولي الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبدًا، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي، كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِّنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَو رَدٌّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم ولَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم ورَحمَتُهُ لاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83].
والشائعات إذا حوصرت بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها، ولكن ليس الإشكال في هذا بل الإشكال أن هناك فريق من المؤمنين يرضون أن يستمعوا لمثل هذه الإشاعات، هذا فضلًا عن فريق من أصحاب القلوب المريضة التي تحب البحث ونشر مثل هذه الأمور، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى: {وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم} [التوبة: 47]، أي للمنافقين المغرضين، وهذا هو الداء الكبير، وهو أن يرضى فريق من الناس الاستماع إلى مثل هذه الشائعات، وإلى كلام المنافقين والمغرضين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالًا، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين، يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم: إما لظن مخطئ، أو لنوع من الهوى، أو لمجموعهما (19).
5- عدم سماع ما يقوله الكذابون، والمنافقون، والمغتابون، وأصحاب القلوب المريضة، وعدم الرضى بذلك، كما هو منهج السلف رضوان الله عليهم، وقد عدّ الإسلام ذلك سلوكًا مرذولًا، منافيًا للأخلاق النبيلة والسجايا الكريمة والمثل العليا التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم ومعول هدم لهذه المثُل؟!
6- التفكر في عواقب الإشاعة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
[الحجرات: 6]، هلا تفكرت في نتائج الإشاعة، هلا تدبرت في عواقبها.
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر رضي الله عنهم، عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال تعالى: {واتَّقُوا فِتنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً}، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله (20).
وفي هذا العصر نجد للشائعات دور كبير، بل واستغلت ضد المسلمين استغلالًا كبيرًا، ومثل هذه الشائعات تحدث في الصف ثغرات تخل به، وأحيانًا تكون ثغرات كبيرة يصعب سدها؟!! وخاصة إذا كانت الشائعات مصدرها من داخل الصف، من أناس جهلة، أو لهم هوى خفي، أو ظن مخطئ.
وأما أعداء الإسلام فهم يستخدمون الشائعات ضد المسلمين وخاصة علمائهم وقادتهم ودعاتهم، وغالبًا ما يستخدمون في شائعاتهم طريقين:
1- إنشاء وتلفيق الأكاذيب والاتهامات بالعلماء والدعاة لزعزعة الثقة بهم، والانصراف عنهم، فكم من العلماء والدعاة قيل فيهم أنهم عملاء، وأصحاب مناصب ودنيا.
2- تصيد الأخطاء العلمية والعملية، ونشرها بين الناس، وإعطائها حجمًا كبيرًا، فيزيدون شائعات مكذوبة على أمر صغير، كالشيطان الذي يلقي على الكاهن كلمة صحيحة، وتسعًا وتسعين كذبة؟ (21).
الشائعة تُعمي عن الحق وعن الصراط المستقيم، {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 5].
الشائعة ضررها أشد من ضرر القتل، فالإشاعات من أهم الوسائل المؤدية إلى الفتنة والوقيعة بين الناس ويقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ}، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لأن القتل يقع على نفس واحدة لها حرمة مصانة أما بالفتنة فيهدم بنيان الحرمة ليس لفرد وإنما لمجتمع بأسره.
الشائعة يطلقها الجبناء، ويصدقها الأغبياء الذين لا يستخدمون عقولهم، ويستفيد منها الأذكياء.
إن نشر الإشاعات سلاح خطير يفتك بالأمة ويفرّق أهلها، ويسيء ظن بعضهم ببعض، ويفضي إلى عدم الثقة بينهم، وأسرع الأمم تصديقًا للإشاعات هي الأمم الجاهلة الفاشلة، بسذاجتها تصدّق ما يقال، وتردد الأخبار الكاذبة دون تمحيص ولا تفنيد، وأما الأمم الواعية فلا تلتفت إلى الإشاعات، وتكون مدركة لأحابيل وألاعيب المنافقين وأعداء الإسلام، فلا يؤثر على مسيرتها، ولا يهزّ أعصابها.
ولذلك مطلوب منا دائمًا ولا سيما في هذه الظروف الحرجة أن نكون يدًا واحدة، أعوانًا على الخير، وأعوانًا على البر والتقوى، يكمل بعضنا نقص بعض، ويعين بعضنا بعضًا، نسعى في جمع الكلمة، ونسعى في وحدة الصف، ونسعى في لمّ الشمل (22).
-----------
(1) في ظلال القرآن (4/ 2500).
(2) لطائف الإشارات (2/ 597).
(3) الاشاعة لأحمد نوفل (ص: 127- 128).
(4) في ظلال القرآن (4/ 2495).
(5) تفسير ابن كثير (4/ 269).
(6) التحرير والتنوير (11/ 170).
(7) تفسير ابن كثير (2/ 365).
(8) في ظلال القرآن (2/ 723).
(9) الكشاف (1/ 412).
(10) في ظلال القرآن (1/ 521).
(11) في ظلال القرآن (1/ 438).
(12) في ظلال القرآن (3/ 1533).
(13) في ظلال القرآن (4/ 2502).
(14) أخرجه البيهقي (17863).
(15) السيرة النبوية لابن هشام (3/ 229).
(16) سيرة ابن هشام (2/ 222).
(17) السيرة النبوية لابن هشام (3/ 236).
(18) الإشاعة.. ذلك السّلاح الفتّاك/ مداد.
(19) انظر درء تعارض والنقل (2/ 105).
(20) منهاج السنة النبوية (4 /343).
(21) التحذير من نشر الشائعات/ مداد.
(22) خطر الشائعات على الفرد والمجتمع/ صيد الفوائد.