كانوا بشرًا
الصالحون الذين غيروا مجرى التاريخ وكانوا شامة في جبينه، والذي صنعوا الأحداث العظام والبطولات الكبيرة ليسوا ملائكة أو جان؛ بل كانوا بشرًا مثلنا، لهم نفس الطبيعة البشرية والكينونة البشرية؛ يفرحون ويحزنون، يُسَرون ويغضبون، يتحملون ويتألمون، يصيبون ويخطئون، ولم تنفك عنهم هذه الطبيعة ولم تشغلهم عن أهدافهم السامية ولا عن طموحاتهم العالية.
قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، أي لو جعل الرسول ملكًا لجعل الملك متمثلًا في صورة بشر، لتمكينهم من رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن الله تعالى، ولو جعله ملكًا في صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرًا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكًا، وقد كانوا في غنى عن هذا، وإنما شأنهم فيه شأن أكثر الناس حتى العلماء منهم فيما يوقعون فيه أنفسهم من المشكلات بسوء اختيارهم، وما يخترعونه من الشبهات بسوء فهمهم، ثم يحارون في أمر المخرج منها (1).
لقد كانوا ناسًا من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر، وليس مطلوبًا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري، ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته.
فلهذا خلقهم الله؛ خلقهم ليبقوا بشرًا، ولا يتحولوا جنسًا آخر، لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجرًا..
كانوا ناسًا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة، ولكنهم كانوا- مع هذا- مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. وكانوا بهذا وذاك نموذجًا فريدًا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير.
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور، علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرًا، لم يتخلوا عن طبيعة البشر، بما فيها من قوة وضعف، وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء.
وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق؛ فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا، أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدًا، ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية، ونصّر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا، هنالك العروة الوثقى -عروة السماء- وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيرًا بالنصر، فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق..
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام، النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، ثم ولم يوفوا بعهد الله: {وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولًا} [الأحزاب: 15].
عن ثابت قال: قال أنس: عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به، لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدًا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراني الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته -عمتي الرّبّيع بنت النضر-: فما عرفت أخي إلا ببنانه.
قال: فنزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}.. إلخ، قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضى الله عنهم (2)، (3).
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
بهذه الآية تختم سورة الكهف، بتقرير بشريّة الرسول، وأنه وجميع رسل الله، ليسوا إلا خلقًا من خلق الله، وعبيدًا من عبيده، اختصهم الله برحمته، واصطفاهم لرسالته..
وكما تقرر الآية بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، تقرر الطريق السّوىّ الذي ينبغي أن يستقيم عليه الإنسان كي يكون في عباده الله الصالحين المؤمنين.. وهذا الطريق إنما يقوم على الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح، الذي لا يجد الإنسان غيره في هذا اليوم، مركبًا يدفع به إلى شاطئ الأمن والسلام، ويفتح له أبواب الجنة والرضوان (4).
وعاش كما يعيش أطفال قومه، وصبيانهم، وشبانهم، ورجالهم، وإن كان ذلك على أحسن صورة يراها الناس في إنسان، ويتمنّونها لهم، ولأبنائهم.
فلما كرّم الله سبحانه وتعالى محمدًا بالرسالة، لم تقطعه هذه الرسالة عن حاله الأولى، ولم ير فيه الناس غير ما يرون، بل إنه لم يأتهم بخارقة من الخوارق، أو معجزة من المعجزات، يملكها في يده، وإنما جاءهم بآيات هي كلمات الله، مضافة إلى الله سبحانه، ومنسوبة إليه جلّ شأنه، وما محمد إلا مبلغ لهذه الكلمات، وليس له منها إلا ما للناس جميعًا، من الاهتداء بنورها، والامتثال لأمرها ونهيها، فكان ذلك أعظم توكيد وأبلغه، للدلالة على بشرية الرسول من جهة، وعلى أن ابن الماء والطين يحمل في كيانه من قوى الخير، ومشاعل النور، ما يرتفع به إلى أعلى عليين، وأن الطريق مفتوح إلى ما لا حدود له من الكمالات، أمام الإنسان، وأمامه المثل الأعلى للإنسان في محمد صلوات الله وسلامه عليه (5).
عن محمد بن كعب القرظي قال: قال فتى منا من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولجعلناه على أعناقنا، قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل هويًا، ثم التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يرجع أدخله الله الجنة»، فما قام رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل، ثم التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة»، فما قام رجل من القوم مع شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: «يا حذيفة، فاذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا»، قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل ما تفعل لا تقر لهم قدرًا، ولا نارًا ولا بناء، فقام أبو سفيان بن حرب فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه، فقال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدث شيئًا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم، قال حذيفة: ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني إلى رحله، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإنه لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا إلى بلادهم (6).
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)} [آل عمران: 152- 153].
فعل هذا ليمتحن إيمانكم، ولقد عفا الله عنكم وغفر لكم ذلك الصنيع، بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرطتم به، والله ذو فضل على المؤمنين أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، وربما كان سبب العفو والفضل والرحمة كثيرة عدد العدو وعددهم، وقلة عدد المسلمين وعددهم (7).
وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الصوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان بشرًا من البشر، يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه (8).
عن أنس بن مالك، قال: كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: «آنت هيه؟ لقد كبرت، لا كبر سنك» فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك؟ يا بنية قالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم، ألا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدًا، أو قالت قرني فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أم سليم» فقالت: يا نبي الله أدعوت على يتيمتي قال: «وما ذاك؟ يا أم سليم» قالت: زعمت أنك دعوت ألا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه، من أمتي، بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورًا وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة» (9).
إطلالة على البيت النبوي، ذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيرًا، إطلالة من كوّة فتحتها أمّنا عائشة رضي الله عنها حينما توارد عليها السؤال من عدد من التابعين: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته إذا كان عندك؟ إنه تساؤل عن هذه الشخصية العامة كيف تكون في هذه الحالة الخاصة، كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعيش خارج بيته متصديًا لقضايا الأمة، متحمّلًا لأعبائها، فإذا دخل بيته، وأغلق بابه وخلا بأهله فكيف يكون؟ وماذا يصنع؟
ولقد تلقّت عائشة رضي الله عنها السؤال بحفاوة واهتمام، وأشرعت نافذة على بيت النبوة؛ لنرى منها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة الخاصة في بيته ومع أهله، فإذا هي تصفه بهذا الوصف الوجيز البليغ.
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلًا من رجالكم إلا أنه كان ضحّاكًا بسّامًا، وما كان إلا بشرًا من البشر، كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه (10)، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، فإذا أحضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، ولا ضرب بيده امرأة ولا خادمًا.
إنها باقة معطرة من الصفات النبوية أحسنت أمُّنا عائشة رضي الله عنها وصفها في هذه الجمل الوجيزة بهذا البيان البليغ، وبقي أن نفتح أبصار البصائر على معانٍ عظام.
ما كان إلا بشرًا من البشر:
لا أحسب أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقرر بشريّة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس ملكًا بل بشرًا رسولًا، ولكنها كانت تقرر معنى أخص من ذلك، وهو بشريّته في التعامل الأسري بحيث إنه صلى الله عليه وسلم يدخل بيته ليس على أنه القائد أو الزعيم أو الإمام، ولكن على أنه الزوج ليعيش حياة السكن الزوجي مع أهله، لتجتمع معاني العظمة المحمدية في عظمة التعامل الزوجي، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعيش في بيته سمته الذي يلقى به الناس، ولكن يعيش بساطة الحياة الأسرية وعفويتها، فلا ترى فيه زوجه إلا الزوج الوادّ الرحيم، وهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وإمام البشرية، والعظيم لا تمتلئ الأعين من النظر إليه مهابة وإجلالًا، ولكنه يعيش في بيته ومع أهله زوجًا أولًا.
كم ننسى هذا المعنى النبوي العظيم حينما نصطحب معنا إلى بيوتنا المعاني والألقاب الخارجية؛ ليعيش أحدنا في بيته على أنه صاحب السعادة أو الفضيلة، مع أن هذه ألقاب تخلع عند الباب ليعود، ومن كان كذلك بشرًا من البشر.
كان في مهنة أهله صلى الله عليه وسلم:
يثب إلى ذهني سؤال ثاقب يقول: وهل كانت أمُّنا عائشة تشكو كثرة العمل ومشتتة حتى يكون عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها معونتها وخدمتها؟ أما كانت حجرتها متقاربة الجدر صغيرة المساحة، بحيث لم يتجاوز طولها عشرة أذرع، وعرضها سبعة أذرع، وأما العمل فيها فقد كانت تنقضي الشهران بتمامها وما أوقد فيها نار لطعام يُصنع، فهل ثمة عمل يحتاج إلى جهد، فضلًا عن أن يحتاج إلى معونة بحيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مشغولًا بمهنة أهله؟
إن الجواب عن هذا التساؤل: أن نبيك صلى الله عليه وسلم ما كان يصنع ما يصنع لكثرة الشغل وجهد العمل، ولكن هناك معنى أعمق، وهو المواساة والإشعار بالمشاركة التامة في الحياة الزوجية، وتحقيق أحد معاني السكن إلى الزوجة {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، ولم يقل لتسكنوا معها.
إن هذه الأعمال اليسيرة في المنـزل تصل إلى قلب الزوجة مشفوعة بمذكرة تفسيرية تضج بمعاني الحب والمودة والرحمة، وتشعر الزوجة بالدنو القريب إلى زوجها، والامتزاج الروحي والعاطفي، كون الرجل في مهنة أهله، وأي عمل وعلى أي صفة رسالة حياة تقول: هويتنا جميعاً كما هي حياتنا جميعًا، وإن معاني الالتحام الزوجي تنسجها هذه اللمسات المعبرة، فيكبر في عين زوجته بقدر تواضعه، ويعظم في نفسها بقدر بساطته.
إن على الذين يشتكون برودة الحياة الزوجية وجفافها أن يتعلموا من هذا الدرس النبوي: أن الدماء تتدفق حارة في حياتهم بمثل هذه اللمسات الساحرة، حينها لن يبقى في قلب المرأة ووجدانها مساحة شاغرة؛ فقد ملأ ذلك كله زوج أشعرها بالمشاركة الحقيقية في الحياة، ولوّن يومها بالبسمات.
إن هذا التوازن يفتقد عند أناس يبذلون المجاملات الرقيقة بسخاء في تعاملهم العام، ولكنهم يخزنون عبوس وجوههم وقترة نفوسهم لزوجاتهم، فلا يرين إلا قتامة التجهم، وملالة التضجر، مع أنهم أولى الناس ببشره وحسن خلقه، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد وسع الناس بحسن خلقه، وكان أهل بيته أسعد الناس بهذا الخلق (11).
أرسل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قبل القادسية ربعي بن عامر رسولًا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه، وقد زيَّنوا مجلسه بالنمارق، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت، واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاج وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي رضي الله عنه بثياب صفيقة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، قال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت؛ فقال رستم: آذنوا له، فأقبل يتوكَّأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالوا: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومـن جور الأديان إلى عدل الإسلام (12).
له جسد بشري، ولسان ملائكي، وعزة مؤمن، وجلد مجاهد، وثقة في الله تعالى تتخطى كل قوانين البشر.
------------
(1) تفسير المنار (7/ 263).
(2) أخرجه مسلم (1903).
(3) في ظلال القرآن (5/ 2844).
(4) التفسير القرآني للقرآن (8/ 718).
(5) التفسير القرآني للقرآن (9/ 1347).
(6) أخرجه أحمد (23334).
(7) التفسير المنير للزحيلي (4/ 127).
(8) أخرجه أحمد (26194).
(9) أخرجه مسلم (2603).
(10) أخرجه ابن حبان (5675).
(11) كان في مهنة أهله/ إسلام ويب.
(12) تاريخ الطبري (3/ 34).