التخول بالموعظة
الدعوة إلى الله تعالى فن، يقتضي معرفة ماذا تقول؟ ومتى تقوله؟ وكيف تقوله؟ ولمن تقوله؟ وهذا هو المقصود من قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
وقد تولى الله تعالى الموعظة بنفسه، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه} [البقرة: 231]، وقال: {إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]، وقال: {يَعِظُكُمْ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} [النور: 17]، وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء: 66]، وقال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، وقال: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63].
قال محمد رشيد رضا: الوعظ: النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل; أي: ذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود المقرونة بالحكم، والترغيب والترهيب يوعظ به أهل الإيمان بالله والجزاء على الأعمال في الآخرة؛ فإن هؤلاء هم الذين يتقبلونه ويتعظون به فتخشع له قلوبهم، ويتحرون العمل به قبولًا لتأديب ربهم، وطلبًا للانتفاع به في الدنيا، ورجاء في مثوبته ورضوانه في الأخرى (1).
وقد عني النبي صلى الله عليه وسلم بالموعظة عناية فائقة، وأكثر من استعمالها في مناسبات عامة وخاصة، قال العرباض بن سارية: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل يا رسول الله: وعظتنا موعظة مودع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: «عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، وسترون من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة» (2).
عن شقيق أبي وائل، قال: كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم، «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهية السآمة علينا» (3).
قال النووي: ومعنى يتخولنا يتعاهدنا، هذا هو المشهور في تفسيرها، قال القاضي: وقيل يصلحنا، وقال ابن الأعرابي: معناه يتخذنا خولًا، وقيل: يفاجئنا بها، وقال أبو عبيد: يدللنا، وقيل: يحبسنا كما يحبس الإنسان خوله، وهو يتخولنا بالخاء المعجمة عند جميعهم إلا أبا عمرو فقال: هي بالمهملة؛ أي يطلب حالاتهم وأوقات نشاطهم.
وفي هذا الحديث الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها (4).
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى، والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها، والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل، وبالهدى والضلال، إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل، إنما تنقص الناس الرغبة في الحق، والقدرة على اختيار طريقه، والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان، ولا يحفظهما إلا التقوى (5).
والبلاغة في الموعظة مستحسنة، لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها، والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر خطبتها، ولا يطيلها، بل كان يبلغ ويوجز (6).
قال ابن حجر: لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه، ويحدث من يشتهى بسماعه لأنه أجدر أن ينتفع به (7).
هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا يقطع أرضًا ولا يبقي ظهرًا.
وعن ابن مسعود قال: حدث الناس ما أقبلت عليك قلوبهم إذا حدقوك بأبصارهم وإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، وذلك إذا اتكأ بعضهم على بعض (8).
وقال عكرمة: عن ابن عباس: حدث الناس كل جمعة مرة فإن أكثرت فمرتين، فإن أكثرت فثلاثًا، ولا تمل الناس من هذا القرآن، ولتأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم وقال: أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وإياك والسجع في الدعاء فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلونه (9).
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول على المنبر: أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده، فقيل كيف ذاك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه (10).
وقالت عائشة رضي الله عنها لعبيد بن عمير: إياك وإملال الناس وتقنيطهم (11).
وخير الواعظين وعظًا وأجداهم نفعًا وأكثرهم تأثرًا من يتفقد أحوال الناس وأنسب أوقاتهم فيلقي إليهم بمواعظه وينشر بينهم مآثره.
كما أن أحسن العلماء أثرًا من اختار للناس مسائل العلم؛ وانتقى ما يفيدهم في دنياهم وآخرتهم؛ وكان في كل ذلك حسن العبارة فصيح القول، يخلط الجد بالمزاح الطريف والحكمة بالفاكهة الشيقة، وينتهز تشوقهم إلى ما يبين لهم وخلوهم من شواغل الدنيا، واستجمام قواهم ورغبتهم في التفقه والتعلم، فهناك يكون لوعظه وعلمه أبين الأثر وأنجح الفائدة.
وهذا قدوة المؤمنين صلى الله عليه وسلم كان يتفقد الأوقات المناسبة للصحابة فيعظهم ويعلمهم؛ ويجعل من حوادثهم وأحوالهم عظات بالغات، ودروسًا جمة المنافع، وما كان يداوم عليهم بذلك مخافة أن يلحقهم الملل والضجر فيسأموا وينصرفوا عن سماعه وقبول قوله؛ ولكنه كان كالطبيب يعطي من الدواء بالمقدار الملائم للمرض، ويتمشى معه في طريق العلاج مترقيًا في مقادير الدواء حتى لا يمل المريض ويكره الدواء فيصعب علاجه ويستفحل داؤه ويعز شفاؤه.
وفي الحق أن للنفوس أوقاتًا تكون فيها راغبة في العلم تواقة إلى سماع الموعظة؛ وذلك عند صفائها واستراحتها من العناء والمشقة؛ وحين ذاك ينبغي أن تتبلغ منهما بما يناسب مقدارًا ومادة، وأن لها أوقاتًا تكون فيها مكدودة ضجرة، قد أثقلتها متاعب الحياة وشغلتها صوارف الأيام؛ فلا تقبل علمًا ولا تقبل على عالم، بل تنفر وتفر هاربة لا تلوي على نصح ناصح، ولا تصيخ إلى وعظ مرشد.
ومن الخطل في الرأي أن يبتغي الناصح لها في تلك الأوقات رشدًا أو يرقب إصلاحًا، فعلينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يكون الواعظ أو المرشد كحاطب ليل لا يدري ما يلقي على الناس، ولا من يلقي عليه موعظته.
ولجهل كثير بطرق الوعظ والإرشاد اختيار مسائل العلم وتثقيف الناس وبخاصة العامة منهم؛ قلّت الفائدة منهم على كثرتهم؛ وانصرف الناس على الاستماع إليهم والركون إلى قولهم؛ وفضّلوا الجلوس في مجالس اللهو عن دروس العلماء والواعظين، اللهم إلا قليلًا أحسنوا الوعظ فأحسن القوم الاستماع والعمل، وأجادوا في القوم وتخيروا أساليبه فكان لهم التأثير الحسن والسلطان على القلوب فألانوا قاسيها؛ وأسلسوا عصيها، وملكوا زمامها فكانوا من الصالحين المصلحين الذين عملوا بقوله صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» (12).
المقاصد الكلية للموعظة:
الموعظة باب من أبواب الدعوة إلى الله، وأسلوب من أساليب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ويحسن هاهنا إيراد مقاصد الموعظة وحكمها؛ حتى لا يُظَن أنها شرعت لمصلحة معينه فإذا فاتت تلك المصلحة ظُنَّ أن الموعظة لم تؤتِ ثمرتها؛ ويمكن إجمال تلك المقاصد والحكم بما يلي :
1- إقامة حجة الله على خلقه: كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
2- الإعذار إلى الله والخروج من عهدة التكليف: قال الله تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164]، فهو واجب لله نؤديه: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، لنبلغ إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا، ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى (13).
3- رجاءُ النفع للمأمور: كما قال تعالى: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]، وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور، أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة، فلا تبلغ إليها الموعظة ولا تجد في الكلمات معانيها ولا تجد في التوجيهات روحها ولا تجد في العقيدة مذاقها ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب، إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة، وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة، وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي (14).
4- رجاء المثوبة من عند المولى جل وعلا: إذ الدعوة باب عظيم من أبواب البر.
5- الخوف من عقاب الله عز وجل: إذ إنَّ تَرْكَ الدعوة مُؤذن بالعقوبة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
6- النصيحة للمؤمنين: والرحمة بهم، ومحبة الخير لهم، والرغبة في إنقاذهم مما أوقعوا به أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، وهذا قريب من الثالث.
7- إجلال الله وإعظامه، ومحبته: وأنه أهلٌ لأن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، وأن يُفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال.
قال ابن عبد البر كان يقال ستة إذا أهينوا فلا يلوموا أنفسهم: الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه، والمستخف بالسلطان، والجالس مجلسًا ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمع منه ولا يصغي إليه (15).
وقال ابن عبد البر في بهجة المجالس: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان؛ فابتغوا لها طرائف الحكمة (16) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أريحوا القلوب فإن القلب إذا كره عمي.
وقال أيضًا: إن للقلوب شهوة وإقبالًا، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها، وفي صحف إبراهيم عليه السلام وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون له على سائر الساعات.
وقال عمر بن عبد العزيز: تحدثوا بكتاب الله وتجالسوا، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال حسن جميل، وقال أيضًا لابنه عبد الملك: يا بني إن نفسي مطيتي وإن حملت عليها فوق الجهد قطعتها (17).
إن المواعظ تحيي القلوب، وتردها إلى بارئها، خاصة مع كثرة المشاغل، وضجيج الحياة المزعج، وتزيُّن الدنيا لأهلها، وجزع النفوس وهلعها، تدخل فئات الناس إلى بيت ربها تريد السكينة والوقار.
إن للموعظة أثر كبير في القرب من الله، والامتثال بأمره، والانتهاء لنهيه، ولقد اهتم السلف الصالح بالموعظة، وتذكر الموت والقبر والآخرة وما في ذلك من الأهوال والخطوب الجسام.
والمواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته وضعفه، فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر، وقد كان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا عليهم السكينة والوقار.
ولا بد أن يكون الفقه عند الإمام فهم أحوال المخاطبين، وهنا لفتة لطيفة يحسن الإشارة إليها وهي أن الإمام يعظ الناس بأفعاله وسلوكه، ويعظهم بالموعظة التي جاءت من عند ربهم، يعظهم بالكتاب الكريم؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، فاقرأ في صلاتك ما تلين به قلوبهم، وتقشعر به جلودهم.
إن التخول بالموعظة أدعى للاشتياق، وأحرى لقبول الموعظة والانتفاع بها؛ فجدير بالواعظ ألا يكثر من وعظ أناس بأعيانهم، أو يتابع عليهم الوعظ مرارًا قريبًا بعضها من بعض؛ فإن النفس شرود، وإن كثرة الوعظ تفقده أثره (18).
ومما يؤخذ على بعض الدعاة أنهم لا يحسنون اختيار وقت الموعظة؛ فكلما وجدوا عندهم قدرة على الكلام تكلموا، وكلما أتيح لهم الوقت وعظوا، دون مراعاة لأحوال المخاطبين وما يناسبهم، وهم في هذا غافلون عن الهدي النبوي في هذا المجال، وهؤلاء معرضون لأن يدخلوا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن منكم منفرين؛ فمن صلى بالناس فليوجز، فَإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة» (19)؛ فكما أن عدم مراعاة الناس في العبادة يعد تنفيرًا، فكذلك الأمر في الدعوة.
عن ابن عباس قال: قرئ عند النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وأنشد شعر، فقيل: يا رسول الله، أقرآن وشعر في مجلسك؟ قال: «نعم» (20).
وعن الزهري أنه كان يقول لأصحابه: هاتوا من أشعاركم، هاتوا من حديثكم; فإن الأذن مجاجة، والقلب حمض.
وعن كثير بن أفلح قال: آخر مجلس جالسنا فيه زيد بن ثابت تناشدنا فيه الشعر.
وعن حماد بن زيد أنه حدث بأحاديث، ثم قال لنا: خذوا في أبزار الجنة، فحدثنا بالحكايات.
وعن مالك بن دينار قال: الحكايات تحف أهل الجنة.
وساق غيره عن ابن مسعود قال: القلوب تمل كما تمل الأبدان، فاطلبوا لها طرائف الحكمة.
وعن ابن عباس أنه كان إذا أفاض في القرآن والسنن قال لمن عنده: أحمضوا بنا، أي: خوضوا في الشعر والأخبار (21).
فوائد التخول بالموعظة:
مما سبق من الهدي النبوي يتضح أن لمراعاة أحوال الناس وتخولهم بالموعظة فوائد ودروسًا دعوية عديدة، منها:
- دفع السآمة والملل على الناس؛ فكثرة ترديد الكلام قد يصيب بالملل والضجر، وهذا خطير إذا تعلق بدين الله تعالى.
- التخول معناه التعهد مرة بعد مرة؛ ففيه إعطاء النفس فرصة للتفكر والتدبر فيما سمعت حتى تقبل عليه بعد ذلك بوعي وإدراك.
- كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا؛ فيفضل ترك فرصة للناس لتذكر ما سمعوه وحفظه.
- تحديد أوقات معينة للموعظة يعطي الداعية فرصة للاستعداد الجيد والتحضير المناسب للدرس حتى يؤديه بصورة مناسبة.
- تحديد أوقات متفق عليها مسبقًا ومعروفة بصورة دورية يجعل الناس يقبلون عليها وقد استعدوا لها وتهيئوا، فيتلقونها بذهن خال من الشواغل وقلب مستعد للتفاعل.
- التخول بالموعظة يعطي الداعية فرصة لأن يختار الموضوع المناسب في الوقت المناسب؛ فليس كل ما يعلم يقال.
- تحديد أوقات معينة للوعظ والدعوة العامة يخلي أوقاتًا للعبادات الفردية وتلاوة القرآن وأداء الأذكار (22).
__________________
(1) تفسير المنار (2/ 321).
(2) أخرجه ابن ماجه (42).
(3) أخرجه البخاري (6411)، ومسلم (2821) واللفظ له.
(4) شرح النووي على مسلم (17/ 164).
(5) في ظلال القرآن (1/ 480).
(6) جامع العلوم والحكم (2/ 111).
(7) فتح الباري لابن حجر (11/ 139).
(8) الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 99).
(9) المصدر السابق.
(10) شعب الإيمان (10/ 454).
(11) الآداب للبيهقي (ص: 130).
(12) الأدب النبوي (ص: 250- 251).
(13) في ظلال القرآن (3/ 1385).
(14) في ظلال القرآن (2/ 900).
(15) المجالسة وجواهر العلم (5/ 55).
(16) بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 20).
(17) بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 20).
(18) أدب الموعظة (ص: 37).
(19) أخرجه البخاري (704).
(20) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 130).
(21) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (3/ 270).
(22) التخول بالموعظة هدي نبوي/ مهارات الدعوة.