نعمة التوفيق للطاعة
نعمة من النعم العظيمة التي لا تنال بالمال مهما كثر، ولا تنال بالذكاء مهما زاد، ولا تنال بالعلم مهما اتسع، ولكنها محض فضل من الله يمتن بها على من يشاء من عباده، إنها نعمة التوفيق، التوفيق لطاعة الله عز وجل والاستقامة على شرعه؛ فمن وفقه الله تعالى لتزكية نفسه؛ فقد أفلح وفاز، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
وأعلي مراتب توفيق الله تعالى لعبده أن يحبب إليه الإيمان والطاعة، ويكره إليه الكفر والمعصية، وهي المرتبة التي نالها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وامتن الله تعالى بها عليهم في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأمر لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]، أي: لولا توفيقي لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان، فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولكني حببته إليكم وزينته في قلوبكم وكرهت إليكم ضده الكفر والفسوق، وتوفيق الله عز وجل للعبد لا غني للعبد عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال ربنا سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} [الأنعام: 125]، أي: ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، فهذه علامة على الخير، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22].
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمر بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].
والعبد متقلب في كل لحظة بين التوفيق والخذلان؛ فإن وفقه الله تعالى لعمل صالح؛ فبفضل الله تعالى ورحمته، وإن خذل العبد ولم يوفق؛ فبعدل الله عز وجل، ولهذا أُمر العبد أن يسأل الله تعالى الهداية في كل ركعة يصليها، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]؛ يسأله الهداية بجميع أنواعها، ومنها هداية التوفيق والطاعة، العبيد متقلبون بين توفيق الله تعالى وخذلانه؛ فمثل الموفق منهم بفضل الله ورحمته والمخذول بعدل الله وحكمته، وهو المحمود علي هذا وهذا له أتم حمد وأكمله لم يمنع عبدًا شيئًا هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يقعه وأين يجعله؛ فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه علم شده ضرورته وحاجته للتوفيق في كل نفس وفي كل لحظة، ولهذا كان من دعاء أولي الألباب الذي ذكره الله تعالى عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» (1)، وكان يقول: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله» (2).
قال الإمام ابن القيم: وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك، فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه، ويذكره ويشكره بتوفيقه له ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له، فهو دائر بين توفيقه وخذلانه، فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود على هذا وهذا، له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئًا هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله؟
فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه، علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس وكل لحظة وطرفة عين، وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى، لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرش توحيده، ولخرت سماء إيمانه على الأرض، وأن الممسك له هو من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فهجيرى قلبه ودأب لسانه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك، ودعواه: يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.
ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويلقي نفسه بين يديه، طريحًا ببابه مستسلمًا له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلًا مستكينًا، لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ونشورًا (3).
وتوفيق الله تعالى لعباده يكون علي أحوال كثيرة؛ فمن أعظم وأعلى درجات هذا التوفيق أن الله تعالى يحبب إليه طريق الإيمان، ويحبب إليه طريق الخير والصلاح، ويحبب إليه أمور التعبد لله سبحانه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وهذه من أعلى درجات التوفيق.
ومنها أن يعرض الخير علي أناس فيردونه حتى ييسر الله تعالى له من أراد به الخير من عباده؛ فقد مكت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشر سنين يعرض نفسه على قبائل العرب لينصروه لم يستجيبوا له، حتى وفق الله تعالى الأنصار لذلك؛ فنالوا الشرف العظيم في الدنيا والآخرة، وهو محض توفيق من الله عز وجل لهم.
ومنها أن يوفق الله تعالى العبد في آخر حياته بعمل صالح يموت عليه؛ فيختم الله تعالى به أعماله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرًا عسله قبل موته» قيل: وما عسله قبل موته؟، قال: «يفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه» (4).
وعن أنس، أن غلامًا، من اليهود كان مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه، وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم فأسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» (5).
فانظر كيف أن الله تعالى وفق هذا الغلام لكي يسلم قبل قبض روحه، هذا من توفيق الله عز وجل.
ومن دروب التوفيق أن يوفق الله العبد لعمل قليل أجره عند الله تعالى كثير، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد؛ فقال: يا رسول الله أقاتل أو أُسلم؟ قال: «أَسلم ثم قاتل» فأسلم ثم قاتل فقتل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمل قليلًا وأُجر كثيرًا» (6)؛ فمن اتقى الله تعالى وملأ الإخلاص قلبه وعلم الله تعالى صدق نيته وأكثر من الدعاء بالتوفيق؛ فقد أخذ بمجامع الأسباب الموصلة للتوفيق.
قال ابن القيم رحمه الله: ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرة وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين؛ فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلًا مثل ما نريد أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون له حاجة التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام (7).
إن التوفيق إلى الاستقامة من أعظم النعم التي ينعم الله تعالى بها علي العبد، وإلا فإن هناك خلق كثير أوتوا عقولًا عظيمة وأوتوا ذكاء حادًا، لكنهم لم يوفقوا، فضلوا، ولهذا غالب فرقة المعتزلة وهي إحدى الفرق التي انحرفت في مسار الاعتقاد غالب هذه الفرقة كانوا من الأذكياء ذكاء حادًا لكنهم لم يوفقوا للحق ولم يوفقوا للهداية، يقول عنهم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاء وما أوتوا ذكاء، وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] (8).
نعم لقد أعطي الله هؤلاء ذكاء حادًا وأعطاهم عقليات كبيرة جدًا، إذا قرأت كلامهم وما سطروه وما قعدوه تعجب كيف يخفي عليهم الحق، يذكر الواحد منهم عشرات الأقوال في المسألة الواحدة؛ ثم يخفى عليه الحق منها، نعم إنهم حرموا هذه النعمة حرموا نعمة التوفيق؛ فقد أوتوا الذكاء والعقل لكن لم يؤتوا الذكاء والتوفيق.
وقد ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبنائهم، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقره: 146]؛ فهم يعرفون الحق ويعرفون صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده، هل يشك أحد في معرفة ابنه إذا رآه من بين الناس؟ ولهذا قال عمر: لعبد الله بن سلام وكان يهوديًا؛ فأسلم، قال له عمر: أكنت تعرف محمدًا كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء علي الأمين في الأرض بنعته فعرفته (9).
ومع هذه المعرفة اليقينية لم يهتدوا لأنهم حرموا نعمة التوفيق بسبب جحودهم واستكبارهم وحسدهم، إلا من كان منهم صادقًا في طلب الحق من غير جحود ولا استكبار، كعبد الله ابن سلام؛ فمنّ الله تعالى عليه بنعمة التوفيق فوفق للحق.
أسباب التوفيق:
وإذا نظرنا إلى واقعنا نجد أن من الناس من يعرف أن الخير والفلاح في الدنيا والآخرة إنما هو في الاستقامة على طاعة الله، يعرف هذا معرفة يقينية، لكنه لم يوفق لهذا الخير، لأنه حُرم من نعمة التوفيق حرم من نعمة الهداية، وبهذا نعرف عظيم شأن هذا الدعاء الذي أمرنا أن ندعو به في كل ركعة، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
1- الدعاء:
إن من أعظم أسباب توفيق الله تعالى للعبد الدعاء وسؤال الله تعالى نعمة التوفيق والهداية، والافتقار والتضرع بين يدي الله عز وجل؛ وهو أعظم ما يستجلب به التوفيق؛ بل هو لب العبودية لله سبحانه، فإن حقيقة العبودية كمال الحب مع كمال الذل لله عز وجل.
فاحرص على ألا يمر عليك يوم إلا وقد سألت الله تعالى أن يهديك، وأن يوفقك لما يحب ويرضي.
2- المجاهدة:
واعلم أنه لا بد مع ذلك كله من الاجتهاد، والمثابرة، والصبر، فمن اجتهد وكابد ذاق لذة العبادة، قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
قال محمد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين عامًا حتى استقامت لي.
وقال ثابت البناني: كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة (10).
إن من أسباب حرمان نعمة التوفيق الإهمال وإبقاء النفس على ما خلقت عليه من الجهل والظلم، فإن الإنسان خلق ظلومًا جهولًا؛ فمن أهمل إصلاح نفسه أردته المهالك وحرم نعمة التوفيق، وأما من يريد أن ينال نعمة التوفيق؛ فعليه أن يجاهد نفسه على استقامتها على طاعة الله؛ فإذا جاهد نفسه على ذلك رُزق نعمة التوفيق والهداية.
فانظر كيف أن الله تعالى جعل الهداية ثمرة للمجاهدة، بعض الناس عندما يؤمر بخير يقول: ادع الله أن يهديني، فمن أراد أن يرُزق الهداية فليجاهد نفسه على الطاعة وعلى الاستقامة على طريق الخير والصلاح؛ فإن الله عز وجل بمنه وفضله يرُزقه نعمة التوفيق والهداية.
3- التواضع وترك التكبر:
فإن من أسباب الخذلان وحرمان نعمة التوفيق ما ذكره الله تعالى في قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَق} [الأعراف: 146]؛ فمن كان عنده كبر حُرم نعمة الهداية وحُرم نعمة التوفيق؛ فعلى المسلم إذا عرف الحق أن يلتزمه وأن يقبله وألا يُعرض عنه وألا يتكبر على الحق وعلى الخلق؛ فإن من تكبر على الحق وعلى الخلق يحرم من نعمة التوفيق ويحرم من نعمة الهداية، وحينئذ فمهما حصل من أمور الدنيا؛ فإنها لا تنفعه وقد حرم من نعمة التوفيق (11).
4- الفرح والأنس بعبادته سبحانه:
نظر العبد في نعم الله عليه في نفسه وأهله وماله، فذلك يثمر المحبة، ويدعو للشكر، ويخفف العبادة ويسهلها على النفس.
وكلما زادت محبة العبد لربه، شعر بلذة العبادة.
قال ابن القيم: المحب يتلذذ بخدمة محبوبه، وتصرفه في طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى، كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان، ولينظر هل هو ملتذ بخدمته، كالتذاذ المحب بخدمة محبوبه، أو متكرِّه لها، يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محك إيمان العبد، ومحبته لله (12).
قال بعض السلف: إني أدخل الصلاة فأحمل هم خروجي منها، ويضيق صدري إذا عرفت أني خارج منها (13).
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت قرة عيني في الصلاة»، ومن كانت قرة عينه في شيء؛ فإنه يود ألا يفارقه، ولا يخرج منه؛ فإن قرة عين العبد: نعيمه، وطيب حياته به.
وقال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلَذُّ به عيشي، وتقر به عيني، من مناجاة من أُحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع، لما اشتغل به بالنهار عن ذلك.
فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته.
وقال بعضهم: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة.
وهذه اللذة، والتنعم بالخدمة؛ إنما تحصل بالمصابرة، على التكرُّهِ والتعب، أولًا، فإذا صبر عليه، وصدق في صبره: أفضى به إلى هذه اللذة.
قال أبو يزيد: سقت نفسي إلى الله، وهي تبكي، فما زلت أسوقها، حتى انساقت إليه وهي تضحك.
ولا يزال السالك عرضة للآفات، والفتور والانتكاس، حتى يصل إلى هذه الحالة، فحينئذ؛ يصير نعيمه في سيره، ولذتُه في اجتهاده، وعذابه في فتوره ووقوفه، فترى أشد الأشياء عليه، ضياع شيء من وقته، ووقوفه عن سيره، ولا سبيل إلى هذا؛ إلا بالحب المزعج (14).
5- اتباع الحق والفطرة السليمة:
إن نعمة اتباع الحق، وفعل المعروف وعمل الصالحات من علامات الإيمان، ودلائل الصلاح وكمال الأنفس الزكية، والفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها، يقول الله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، ويقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، أي ذلك الدين القويم والدين المستقيم؛ الذي من أصابه وحافظ عليه واستمر في دربه فهو الصالح التقي المرضي عند الله، لذلك وعد الله هؤلاء بقوله: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] .
جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، وإن قل»، قال: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته (15).
إن من يتبع منهج الله تعالى، ويسير في دروب الإيمان فهو السعيد الهاني البال، المرتاح النفس، تلزمه الطمأنينة والسكينة؛ لأنه لزم ذكر الله {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وانظر إلى نفسك أخي حينما تتلو شيئًا من آيات الله تحس بقربك من الله، وعندما تكثر من ذكر الله تحس بأنك من الله عز وجل، وعندما تتقرب إلى الفقراء والمساكين بفعل المعروف والإحسان إليهم، وتبرُّ والديك وإخوانك وأهلك وأرحامك وجيرانك تجدهم يحبونك، تتقرب إليهم ويتقربون إليك، ذلك أن هذه المحبة أساسها محبة الله ورضاه عنك .
6- الثبات على الاستقامة:
إن الثبات على الاستقامة، والاستمرار في طريقها من أعظم النعم، والأمور بخواتيمها، فلا يغترن أحد بعمله، فالعبد ربما يقضي عمره يعبد الله عز وجل، ولا يترك بابًا من المعروف إلا فعله، حتى إذا كان بينه وبين الموت لحظات عصى الله فسخط الله عليه، فقبض روحه مع أصحاب النار والعياذ بالله، هذا من الخذلان وعدم التوفيق.
إن الثبات على التقوى والإيمان والعمل الصالح من أهم الأشياء، أن تثبت على الطاعة، وأن تستمر عليها إلى آخر لحظة من لحظات حياتك، لا تعبد الله في شهر؛ بل طوال الدهر إلى أن تلاقي الله بحسن الخاتمة، وإن الخطر العظيم أن يصبح العبد ويمسي، يتقلب في دروب الحياة، كم تغويه الدنيا وتبعده عن طاعة الله؛ يصبح طائعًا ويمسي عاصيًا، أو يمسي طائعًا ويصبح عاصيًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، ومن منا على ثقة من نفسه وإيمانه؟
عن أنس رضي الله عنه قَال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» (16).
فالعبد لا يأمن مكر الله، فلا تقل: بأني طائع وإني من الصالحين، قد رضي الله عني، فلا تدري ربما تؤخذ على حين غفلة، فلا ترجع إلى الهداية مرة أخرى، وكان الصالحون يخافون على حسناتهم وأعمالهم الصالحة أن تذهب في حالة غفلة يعصي الله، ويستمرئ المعصية فلا يزال مقيمًا عليها حتى تذهب حسناته كلها، ولو كانت كجبل أحد، فالثبات الثبات على الطاعات حتى الممات (17)
7- الاستغفار وتجديد العهد مع الله:
تجديد العهد مع الله يكون بالاستغفار والإنابة والتوبة، سئل سهل عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال: أول الاستغفار الاستجابة، ثم الإنابة، ثم التوبة، فالاستجابة أعمال الجوارح، والإنابة أعمال القلوب، والتوبة إقباله على مولاه، بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي هو فيه (18).
وتجديد العهد مع الله لا يكون بعد فعل الذنب فقط، بل يكون أيضًا بعد فعل الطاعة، وهناك نصوص من القرآن الكريم والسنة المطهرة تدل على ذلك، منها قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19]، وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199].
وعن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا (19).
الدعاء روح العبادة وملاذ العباد، وهو مطلوب في كل وقت وآكد عند الانتهاء من الطاعة، فإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا عند رفع قواعد البيت -ورفع قواعد البيت من أجل الطاعات- يدعوان الله أن يتقبل منهما، كما حكى القرآن الكريم: {وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [البقرة: 127 - 129].
واتباعًا لسنة إبراهيم عليه السلام كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الدعاء بعد الطاعة والعمل الصالح، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد معاذ فقال: «يا معاذ والله إني لأحبك» فقال معاذ: بأبي أنت وأمي والله إني لأحبك فقال: «يا معاذ أوصيك ألا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».
قال: وأوصى بذلك معاذ الصنابحي وأوصى بذلك الصنابحي أبا عبد الرحمن وأوصى بذلك أبو عبد الرحمن عقبة ابن مسلم (20).
9- الاستعانة بالله:
لا يستطيع العبد المداومة على طاعة الله إلا بالاستعانة، ولا الوصول إلى الهداية إلا بتوفيق منه سبحانه: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: ٥- ٦]، وقال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
10- الشكر والثناء على من أنعم عليك بطاعته:
كان صلى الله عليه وسلم بعدما يفعل الطاعة يحمد الله ويثني عليه أن وفقه لها، فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
فكل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا تحتاج إلى شكر، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر؛ وهكذا فالعبد لا يقدر على القيام التام بشكر النعم؛ لأن الله هيأ له الزمان والأحوال والإعانة، فالفضل كله منه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم: «والله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا» (21).
الشكر الحقيقي: قال ابن القيم: الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعةً (22).
ومن شكر الطاعة أن تداوم عليها وإن قلت لكي تكون دائمًا موصلًا بالله، فخير الأعمال ما دام وإن قل.
11- الفرح بالطاعة دون منّ ومفاخرة:
ما من إنسان إلا ومرت عليه ساعة فرح، فمنا من فرح بنجاحه، أو بزواجه، ومولوده، ووظيفته، ومنا من فرح لرواج ماله وعظم سلطانه، إلى غير ذلك من أسباب الفرح، لكن الفرح الأكبر عند المؤمن هو فرحه بطاعته لربه وزيادة حسناته، يفرح بفضل الله وبرحمتــه وبقربــه منــه سبحانــه، قــال تعالــى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 57- 58].
والفرح بالطاعة منهج نبوي قال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» (23)، كما أن هذا الفرح بالطاعة مسلك الصحابة رضي الله عنهم، فعن أنس بن مالك قال رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحوا بشيء لم أرهم فرحوا بشيء أشد منه قال رجل يا رسول الله الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» (24).
وكما أن المسلم يفرح بطاعته فإنه يفرح بطاعة غيره، فقد كان صلى الله عليه وسلم يفرح بإسلام الناس ونجاتهم من النار، فحين مرض غلام يهودي وأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقعد عند رأسه وقال: «أسلم» وأبوه بجواره فقال له: «أطع أبا القاسم فأسلم فخرج النبي وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار» (25).
إن فرح العبد بطاعة الله لا بد ألا يجعل العبد يرى لنفسه منة، فكل ما نوفق إليه من الطاعات محض فضل من الله، كما يجب عليه ألا يتفاخر على أحد بطاعته فرب حسنة أدخلت صاحبها النار، ورب سيئة أدخلت صاحبها الجنة (26).
قال بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه مشفقًا وجلًا باكيًا نادمًا مستحيًا من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه، فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيرًا ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه (27).
____________
(1) أخرجه الترمذي (2140).
(2) أخرجه الترمذي (3524).
(3) مدارج السالكين (1/ 415).
(4) أخرجه ابن حبان (342).
(5) أخرجه أبو داود (3095).
(6) أخرجه البخاري (2808).
(7) مدارج السالكين (1/ 33).
(8) مجموع الفتاوى (5/ 119).
(9) تفسير ابن كثير (1/ 462).
(10) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 147).
(11) نعمة التوفيق للطاعة/ ملتقى الخطباء.
(12) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 321).
(13) المصدر السابق.
(14) طريق الهجرتين (321).
(15) أخرجه مسلم (783).
(16) أخرجه الترمذي (2140).
(17) التوفيق للطاعة والثبات عليها/ القبس.
(18) إحياء علوم الدين (4/ 48).
(19) أخرجه البزار (4177).
(20) أخرجه أبو داود (1522).
(21) أخرجه البخاري (6620).
(22) مدارج السالكين (2/ 234).
(23) أخرجه النسائي (3939).
(24) أخرجه البخاري (6168).
(25) أخرجه البخاري (1356).
(26) فقه النهايات في التعامل مع الطاعات/ مجلة البيان (العدد: 386).
(27) الوابل الصيب (ص: 11).