logo

الهجرة بين التخطيط البشري والتأييد الإلهي


بتاريخ : الأربعاء ، 7 محرّم ، 1442 الموافق 26 أغسطس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الهجرة بين التخطيط البشري والتأييد الإلهي

إن حادث الهجرة المباركة غير مسيرة التاريخ، وتجلت فيه قوة العزيمة، وكمال الشجاعة، وصدق الإيمان، ونهاية التضحية، وحب الإيثار، لقد كانت الهجرة ميلاد لأمة الإسلام وبعث حضاري جديد.

لم تكن الهجرة فرارًا من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني؛ وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، وتحويل مجرى التاريخ، ووضع أسس البناء الإسلامي الشامخ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعًا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، وترتبت عليها.

وتعتبر حادثة الهجرة فيصلًا بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وكان لها آثار جليلة على المسلمين ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، وشملت الإنسانية كذلك، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية قدمت ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنتظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان بغض النظر عن مكانه وزمانه أو معتقداته.

فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان؛ وخاصة إنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة، قيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان، ما دام حال المسلمين مشابهًا للحالة التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.

كان حادث الهجرة معجزة ربانية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة، واتفقوا على قتله، وانتدبوا من كل قبيلة شابًا وسيطًا جلدًا قويًا ليقتلوه بضربة رجل واحد، ليتفرق دمه على القبائل، فلا يستطيع قومه بنو هاشم محاربة القبائل كلها.

فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض.

فلما أصبحوا خرج عليهم علي، فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فد فات ونجا (1).

ومع ذلك لم يمنعه تأييد الله له أنْ يأخذ بأسباب النجاة، فخالف الطريق؛ لأن كفار مكة كانوا يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع الأنصار؛ لذلك ترصدوا له على طريقها، وأرسلوا العيون للبحث عنه، وجعلوا جعلًا لمن يأتيهم به صلى الله عليه وسلم.

والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف، كأن الله تعالى يريد أنْ يُعلِّمنا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نهمل الأسباب، وألا نتصادم مع الواقع ما دُمْنا قادرين على ذلك (2).

إن الهجرة يتجلى فيها التعامل مع الأسباب؛ لأن ذلك من الدين، إذ الأسباب ما هي إلا أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل، إن من تأمل الهجرة، ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أن التخطيط جزء من السنة النبوية، بل هو جزءٌ من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، ولا بد أن نعلم أن هذه العبقرية في التخطيط، ما كان بها وحدها يكون النجاح، لولا التوفيق الإلهي، والإمداد الرباني، فالهجرة جرى فيها القدر الإلهي من خلال الأخذ بالأسباب البشرية.

لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم الخطوات الأساسية للرحلة، وهي كما يلي:

الخطوة الأولى: وضوح الرؤية:

وضوح الرؤية لدي النبي صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم في الرسالة أنه مبعوث للعالمين، وأن التحديات له من أول يوم، وأنه سيتحول من بلد إلى بلد، وسيكون البلد الجديد مأوى جديد للدعوة، وذلك من خلال حديثه مع ورقة ابن نوفل، لما رجع صلى الله عليه وسلم من غار حراء، وبعد حوار طويل تقول له زوجته خديجة بعد أن أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم»، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا (3).

وإدراكه أن حالة الاستضعاف التي هم فيها لن تدوم؛ فتهيأ صلى الله عليه وسلم لتلك المرحلة، فربي أصحابه تربية صلبة قوية، تربية رجل الدولة فكرًا وعقلًا وممارسة، فكان يبعث فيهم الأمل والنظرة المستقبلية، يتضح من حديثه مع خباب رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في الكعبة، فقلنا له ألا تستنصر لنا؟ ألا تدع الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» (4).

الخطوة الثانية: تحديد الأهداف:

1- إقامة دين الله ولا شيء أغلى عند المسلم من دينه، ولا شيء أسمى من رسالة التوحيد، فهي التي عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله، ولذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلها، وضحي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعًا من أجلها، فعلى سبيل المثال: يقول أهل السير: كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.

وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته.

ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية.

وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدري ما يقول، وترك ماله وأرضه وداره وهاجر إلى الله ورسوله، ونزل فيه قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].

وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، ويلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع.

وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد، أحد، ويقول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها.

ومر به أبو بكر يومًا وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه.

وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون -وعلى رأسهم أبو جهل- يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها.

ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: «صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة» (5)، مات ياسر في العذاب وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها -وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة وهو الذي عهد إليه بتعذيبها- فعذبها عذابًا شديدًا رجاء أن تفتن في دينها فلم تجبه لما يسأل، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت رضي الله عنها وكانت عجوزًا كبيرة، وكان أبو جهل يقول لها مع ذلك: ما آمنت بمحمد إلا أنك عشقته لجماله، يؤذيها بالقول كما يؤذيها بالفعل، وكان يلبس عمارًا درعًا من الحديد في اليوم الصائف يعذبه بحره (6).

وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].

والأمثلة كثيرة والسيرة مليئة بالقدوات الرائعة في البذل والعطاء من أجل إقامة الدين.

2- حماية الفئة التي آمنت بدين الله عز وجل، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من بطش المشركين الكافرين؛ حتى تتمكن من إقامة هذا الدين.

3- نشر دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين الكافرين السفلى، وصدق الله العظيم القائل: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

4- تأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كلِّ نواحي الحياة؛ من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب.

فالدولة إحدى ضرورات إقامة الدين في الأرض؛ فهي حارسة له حامية لمبادئه، كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: الدين والسلطان توأمان الدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وملا حارس له فضائع.

ولقد قرر علماء السياسة الشرعية أن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية أن تقوم دار الإسلام أو دولة الإسلام التي تتبنى رسالة الإسلام عقيدة وشريعة عبادة وأخلاقًا، هذه الدولة ضرورة إسلامية، وهي أيضًا ضرورة إنسانية، دولة توحد الأمة تحت راية واحدة، وتنطلق بالإسلام إلى العالمية، هذه الدولة جزء من نظام الإسلام، وإذا كانت الأفكار والمعتقدات والمبادئ تحتاج إلى كيان قوي لحمايتها؛ فهذا الكيان هو الدولة التي سعى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم.

5- الانطلاق بالإسلام إلى العالم لتكون له الأستاذية باعتباره الدين التام والشامل، وأن رسوله قد أُرسل إلى الناس كافة، مصداقًا لقول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].

ومن ثم كان يبحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، ولقد سبق الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، القول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس وجاهة وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية ما يعصمهم من الأذى، ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين (7).

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف العامة كانت الهجرة التي أُذِنَ للرسول بها، وهذا أمر مهم واستراتيجي وعظيم يجب أن توضع له السياسات ويخطط له بحكمة، وينفذ بنظم وبرامج وبأساليب رشيدة على النحو الذي سوف نوضحه في الفقرات التالية.

الخطوة الثالثة: الوسائل والأساليب:

رغم ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بحماية ربه له فهذا لم يمنعه من أن يأخذ الاحتياط البشري الذي يملكه، وما أحوجنا إلى أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير على الله تعالي، لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا على القدر، ونتوجع على عدم نصر الله تعالى لنا، ونحن المسؤولون عن ذلك.

لذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الوسائل للهجرة المباركة على النحو التالي:

1- التهيئة للهجرة واختيار المكان المناسب:

البحث عن مراكز داعمة للحركة نحو الدولة، وذلك من خلال ترتيب الهجرة إلى الحبشة قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، قال ابن كثير رحمه الله: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حتى يمكن إقامة الدين... إلى أن قال: ولهذا ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة، رحمه الله تعالى آواهم وأيدهم بنصره، وجعلهم شيومًا ببلاده. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة (8).

قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجًا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام (9).

ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من خلال خبرته للواقع أن الحبشة لا تصلح لأن تكون مقرًا للدولة الإسلامية لأنها كانت في منفي واعتماد الدولة على الملك العادل الذي إن مات ماتت الدعوة هناك، ولكن ظل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل والأسواق، حتي قابل أولئك النفر من يثرب حتي كانت بيعتي العقبة الأولى والثانية، ولقد سجَّل القرآن ذلك، يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

وكان من استراتيجيات الرسول صلى الله عليه وسلم من تلك البيعتين هو تأسيس وطن جديد لاستقبال هذه الدعوة والانطلاق بها وحماية الفئة المؤمنة، وتلي ذلك هجرة المسلمين إلى المدينة، كما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراء يسبقونه، ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ للتمهيد لاستقباله ومن آمنوا معه.

2- التوقيت المناسب للهجرة:

لقد أَوْحَى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وأخبره بمؤامرة قريش، وَأَذِنَ له في الخروج، وحدَّد له وقت الظهيرة، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه في ذلك الوقت، في ساعة لا يظن أحد أن يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَكَثَ في الغار ثلاثة أيام حتى تهدأ الأمور ويأمن الطريق، لقد اختار الله عزَّ وجلَّ لنبيه التوقيت المناسب في إطار خطة محكمة وترتيب دقيق.

3- اختيار الطريق المناسب:

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار نحو الجنوب إلى اليمن، ثم اتجه غربًا إلى الساحل حتى سارًا في طريق لم يألفه الناس إلا نادرًا بهدف تجنب شر الأعداء.

4- كتمان الأمر:

سياسة كتم الأسرار، حتى لا يعلم المشركين والكفار أي معلومات عن الهجرة، حتى وأنه قد أخفاها لمرحلة معينة عن صاحبه المخلص الأمين أبو بكر الصديق، وعن الذين سوف يكلفون بمهام خاصة فيها، تقول كتب السيرة: لقد استعد أبو بكر للهجرة إلى المدينة؛ ليلحق بمن هاجر من قبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي»، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم»، فحبس أبو بكر نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم لصحبته (10)، ولكن لم يُعْلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بميعاد الهجرة.

والنموذج الثاني من كتمان أسرار الهجرة؛ عندما ذهب النبي صلى الله علية وسلم إلى أبي بكر؛ ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلّا أمر؛ قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج مَنْ عِنْدك»، فقال أبو بكر: إنما هم أَهْلُكْ، بأبي أنت يا رسول الله، قال: «فإني قد أُذِنَ لي في الخروج»، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» (11)، ويستنبط من ذلك الموقف كتمان ميعاد الهجرة عن أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر حتى ساعة التنفيذ، وهذه سياسة رشيدة عند التعامل مع الأعداء.

5- توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات:

إن سياسة تحديد وتوزيع الاختصاصات والمسئوليات من الأشياء المهمة في أي خطة، فلم تكن الهجرة عملًا عشوائيًّا، بل كانت خطة محكمة جدًّا وتنظيمًا دقيقًا، وُزِّعَت فيها الاختصاصات وحُدِّدَت المسئوليات على هذا النحو:

رفيق الرحلة: فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول صلى الله عليه وسلم ويعاونه ويساعده ويشتري راحلتين.

رد الودائع والأمانات والتعمية على الكفار: يقوم به على رضي الله عنه، ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم للتمويه ويرد الأمانات والودائع لأصحابها.

رجل المخابرات العامة ونقل المعلومات: يقوم به عبد الله بن أبي بكر.

فلا يكفي أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم في الغار مدة معينة ثم ينطلق إلى المدينة حسب تقديره وظنه، فلا بد من التعرف مباشرة على كل أسرار العدو مخططاته وتوقعاته بحيث تصل أول بأول إليه صلى الله عليه وسلم، فيكون متابعة تنفيذ الخطة قائمًا على خبرة الواقع لا على الظن يخطئ ويصيب، فكان عبد الله يسمع أخبار مكة نهارًا ويقضي النهار معهم، ثم يأتي بالليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار يبيت معهم، وقبل الفجر يذهب إلى مكة، وكأنه نائم في مكة.، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها.

تأمين الزاد: تقوم به أسماء بنت أبي طالب رضي الله عنها، وكانت حامل في شهورها الأخيرة، وكانت تصعد في الجبل أوعر الشامخ ذو الأحجار الكثيرة.

إخفاء أثر الأقدام: يقوم به عامر ابن فهيرة، يقوم برعي الأغنام ليعفي أثر الأقدام، ونجحت هذه السياسة في إخفاء محاولة المشركين في العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه.

الاستعانة بالخبراء: لقد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم سياسة الاستعانة بالخبراء حتى ولو كانوا من غير المسلمين، لقد استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره من الخبراء في ذلك، تقول كتب السيرة: "لقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر عبد الله بن أريقط الليثي الكافر، وكان هاديًا ماهرًا بالطريق وَأَمِنَاهُ على ذلك، وسلما إليه الراحلتين، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وجاءهما عبد الله في المكان والميعاد المتفق عليه، ولقد استنبط فقهاء الإسلام أنه يجوز الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة متى كان خبيرًا وأمينًا.

فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف.

لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا حسب استطاعته وقدرته.. ومن ثم باتت عناية الله متوقعة (12).

6 -التمويه والسرية والكتمان:

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على كتمان الأمر وأخذ السرية التامة، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيتنا بمكة في حر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغطيًا رأسه في ساعة لم يأتينا فيها، وقد أوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعانة بالسرية، فقال صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود» (13).

لقد مَوَّه رسول صلى الله عليه وسلم خروجه من البيت، ثم غادر هو وأبو بكر من بيت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من باب خلفي، وسلك طريقًا غير طريق المدينة المعتاد، وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير على أطراف قدميه كي يخفي الآثار، وظل في الغار مدة ثلاثة أيام حسب التخطيط، وهنا تبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة، وليس على طريق المدينة حيث احتمالات الرصد، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا ستجد في الطلب، وإن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالًا، فقد سلك الطريق المعاكس تمامًا وهو الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أمثال حتي بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقي ذو أحجار كثيرة فخفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام النبي صلي عليه وسلم ثلاثة أيام؛ لأن الخروج إلى أي مكان في الأيام الأولي يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو، كما أن المدة الزمنية كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا في المعلومات المقدمة من عبد الله بن أبي بكر عن خفة الطلب عليهما كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبد الله كل يوم.

التأييد الرباني في الهجرة:  

بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإنه لم يرتكن إليها مطلقًا، وإنما كان كامل الثقة في الله تعالي، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]

ويظهر التأييد الإلهي في أكثر من موقف في الهجرة:

1- إخبار جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بمكيدة قريش لقتله، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة، قائلًا له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

وقد فسرها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بما قاله عبد الله بن عباس فيها، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال: بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فبات على على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليًا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًا رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا، قال: لا أدري.

2- خروجه صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم ويضع على رؤوسهم التراب، فألقى الله عليهم النعاس فسقطت من أيديهم السيوف وما قاموا إلا عندما طلعت الشمس كل يحتحت التراب من على رأسه، وهو يتلوا قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9].

3- حماية الله وحفظه لنبيه صلى الله عليه وسلم في الغار، عندما خرجوا مغضبين لما رأوا عليًا في فراشه صلى الله عليه وسلم فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خُلِّط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال (14).

أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين، ساعتها طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه بمعية الله تعالى لهما، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟» (15)، وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

إنها إذًا معية الله، وأي معية تلك؟ إنها المعية الخاصة التي تكون بالتأييد والتوفيق، والحِفظ والمَعونة والنَّصْر، إنما جعلَها الله تعالى لأوليائِه المتَّقين المحسِنين، الذين بذلوا حق الله عليهم في توحِيده وإفراده بالعبادة وترك الإشراكِ به، ثم بامتثال أوامرِه والانتهاء عما نهاهم عنه، والمعية تأتي بمعنى العلم؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]؛ أي: عالِم بكم حيث كنتم، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء، عالِم بالأماكن كلها، حتى إذا سكَن الطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه قليلًا، خرجَا مِن الغار بعد ثلاث ليال مُتَّجهين إلى المدينة؛ فلما مضت لبقائهما في الغار ثلاثة أيام، أتاهما عبدُالله بن أريقط براحلتيهما، وأتتهما أسماء بسفرتهما، وكانت قد شقت نطاقها فربطت بنصفه السفرة، وانتطقَت النصف الآخر، ومِن هنا سُمِّيت ذات النطاقين، فركبا الراحلتين، وأردف أبو بكر عامر بن فُهَيرة، وحمَل أبو بكر مع نفسه جميعَ ماله؛ وذلك نحو ستَّة آلاف دِرهم، فمرُّوا في مسيرهم بناحية موضِع سراقة بن مالك بن جعثم، فنظر إليهم فعَلِم أنهم الذين جعلت فيهم قريش ما جعلت لمَن أتى بهم، فركِب فرسه وتبعهم ليردهم بزعمه، فلمَّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليه، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم استقلَّ فأتبع يديه دُخَان، فعلم أنَّها آيةٌ فناداهم: قِفُوا علي وأنتم آمنون، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحِق بهم، ثم هم به فساخت يدَا فرسه في الأرض، فقال له: ادعُ الله لي، فلن ترى مني ما تَكْرَه، فدعا له فاستقلَّتْ فرسه، ورغب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبَ له كتابًا، فأمر أبا بكر فكتَب له (16).

ويلاحظ أنها جاءت بعد أن أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بكافة الأسباب المتاحة، وهذا شأن المؤمن مع الأسباب، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل بعد ذلك على الله؛ لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله، فالنبي صلى الله عليه وسلم خطط ودبر للهجرة وأخذ بكل أسبابها الممكنة للبشر، كل ذلك مع توكله المطلق على ربه ومولاه الذي كان يجرى له الخوارق بعد استفراغ غاية الجهد؛ ولذلك قال لصاحبه: «لا تحزن إن الله معنا» ولم يقل: لا تحزن إن خطتنا محكمة، وهي بالفعل محكمة، لكن الأمر كله لله من قبل ومن بعد.

4 -مشهد آخر من مشاهد ذلك التأييد الرباني، والحفظ الإلهي تجلى واضحًا، في خبر سراقة بن مالك، وهو يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه وهو طامع في المائة ناقة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًا أو ميتًا، فحينما اقترب منهما، ورآه أبو بكر وقع في نفسه الخوف والحزن، فأخبر الرسول بذلك، لندع الصديق يقص علينا طرفًا من خبره ذاك، يقول أبو بكر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: واتبعنا سراقة بن مالك، قال: ونحن في جلد من الأرض (صلبة)، فقلت: يا رسول الله أُتينا، فقال: «لا تحزن إن الله معنا»، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما على فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدًا إلا قال: قد كفيتكم ما ههنا فلا يلقى أحدًا إلا رده، قال: ووفى لنا (17).

وإذا العناية لاحظتك عيونها       نم فالمخاوف كلهن أمان

وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]، في هذا المعلم من معالم هجرته صلى الله عليه وسلم، يقترن المادي بالغيبي، ويتزاوج الإعداد البشري بالتأييد الإلهي، وفي ذلك عبرة ودرس للمسلمين من بعد، بأنهم مكلفون بأن يتخذوا من الأسباب ما يستطيعونه ويقدرون عليه، دون تقصير أو تكاسل، أما الركون إلى ما عند الله من أسباب النصرة الغيبية، دون إتعاب النفوس، وإنفاق الأموال في نصرة الدين، فهو من إفرازات التفكير الخوارقي، الذي لا يقدم ولا يؤخر ولا يسمن ولا يغني.

إن حال المسلمين في العالم حري بالاستفادة من معاني الهجرة النبوية المباركة، بفهم أمر الدين، فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بالأمور التي صلح بها السلف الصالح من العلم والمعرفة الصحيحة لدِين الله، والتحذير مِن المضللين أصحاب الفتاوى السيئة التي جلبت الويلات للمسلمين، وبالخلق الكريم، والصِّدْق مع الله، والتوكل عليه، والصبر على المكاره، وإحسان العبادة، على وَفقِ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (18).

المعنى الحقيقي للهِجرة:

إذا كانت الهجرة في وقت من الأوقات تعني النقلة المكانية من أرض الشرك إلى أرضِ الإسلام، من مكة إلى المدينة، فقدْ ألْغاها النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» (19)، ألغاها بالمعنى الجغرافي، لكنه أبقاها بالمعنى المعنوي، حيث قال: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (20).

إذًا فالمطلوب من كل منا أن يهاجر، كيف؟! يهاجِر من المعصية إلى الطاعة، مِن الفردية إلى الجَماعة، مِن الكسل إلى العمل، مِن القنوط إلى الأمل، مِن الضعف إلى القوة، ومِن التسفل إلى القمة، مِن الذلة إلى العِزَّة، من الحِصار إلى الانتشار، ومِن الانكسار إلى الانتصار، من الانكفاء على الذات إلى الاهتمامِ بشأن المسلمين، من التعصب للرأي إلى النزولِ على الشورى، مِن مصلحة الفرد إلى مصلحةِ المَجْموع، مِن حياة الهوان والحرمان إلى حياة الإيمان والإحسان.

وهكذا نجد أن الهجرة سلوك واجب ومستمر، علينا أن نباشره ونمارسه على كل المستويات، وفي جميع الأوقات، وأخلاق عالية، وقيم رفيعة يجب أن نحياها ونعيشها على طول الطريق رغم وعثائه وأشواكه (21).

_______________

(1) التفسير المنير للزحيلي (9/ 308).

(2) تفسير الشعراوي (18/ 11045).

(3) أخرجه البخاري (3).

(4) أخرجه البخاري (3612).

(5) أخرجه الحاكم (5646).

(6) تفسير المنار (2/ 252).

(7) في ظلال القرآن (1/ 29).

(8) تفسير ابن كثير (6/ 290).

(9) محاسن التأويل (4/ 229).

(10) أخرجه البخاري (5807).

(11) أخرجه البخاري (3905).

(12) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (1/ 387).

(13) صحيح الجامع (943).

(14) أخرجه أحمد (3251).

(15) أخرجه البخاري (3653).

(16) الدرر في اختصار المغازي والسِّير (1/ 88).

(17) أخرجه البخاري (3615)، ومسلم (2009).

(18) أخرجه الترمذي (1987).

(19) أخرجه البخاري (1834).

(20) أخرجه البخاري (10).

(21) الهجرة والمعنى الحقيقي للنصر/ شبكة الألوكة