logo

من ‌عادى لي ‌وليًا فقد آذنته بالحرب


بتاريخ : الثلاثاء ، 25 ربيع الأول ، 1445 الموافق 10 أكتوبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
من ‌عادى لي ‌وليًا فقد آذنته بالحرب

حديثنا عن قوم اصطفاهم الله بمحبته، وآثرهم بفضله ورحمته، أولئك الذين اعتصموا بأسباب السعادة والنجاح، واجتهدت نفوسهم في نيل الرضا والفلاح، ولم تمل أبدانهم قط من طول العبادة، فأفاض الله عليهم من أنواره، وجعل لهم مكانة لم يجعلها لغيرهم، وتولاهم بنصرته وتأييده، أولئك هم أولياء الله. 

إنهم قوم عصمهم الله من مزالق الهوى والضلال، فبشروا بالأمن والسعادة في الدنيا والآخرة: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62- 63]، وأنَّى لهم أن يخافوا وقد آمنوا بالله وتوكلوا عليه؟، وأنَّى لهم أن يحزنوا وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه؟، فأثمر إيمانهم عملًا صالحًا، وسكينة في النفس، ويقينًا في القلب.

فوصفهم سبحانه بهذين الوصفين الإيمان والتقوى، وهما ركنا الولاية الشرعية، فكل مؤمن تقي فهو لله ولي، وهذا يعني أن الباب مفتوح أمام من يريد أن يبلغ هذه المنزلة العلية والرتبة السنية، وذلك بالمواظبة على طاعة الله في كل حال، وإخلاص العمل له، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الدقيق والجليل.

يقول الشوكاني: المعيار الذي تعرف به صحة الولاية، هو أن يكون عاملًا بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مؤثرًا لهما على كل شيء، مقدمًا لهما في إصداره وإيراده، وفي كل شؤونه، فإذا زاغ عنهما زاغت عنه ولايته (1).

وبذلك نعلم أن طريق الولاية الشرعي ليس سوى محبة الله وطاعته واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن كل من ادعي ولاية الله ومحبته بغير هذا الطريق، فهو كاذب في دعواه.

ولقد بلغ من علو شأنهم، وسمو قدرهم، أن أعلن رب العزة الحرب على كل من أراد بهم سوءًا، أو ألحق بهم أذى، كما جاء عن البخاري في صحيحه من حديث ‌أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: ‌من ‌عادى لي ‌وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ‌ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته» (2).

فانظر أيها القارئ الكريم كيف يدافع الله عن أوليائه وأحبائه، وكيف يمدهم بالنصرة والتأييد، ثم انظر كيف يتوعد من عاداهم بالحرب؛ حينها تعلم أن الله تعالى لا يتخلى عن أوليائه أو يتركهم فريسة لأعدائهم -ولو تأخر هذا النصر وطالت مدته-؛ فهذه النصرة وهذا التأييد إنما هو مرتبط بسنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، وسنة الله اقتضتْ أن يمهل الظالمين دون إهمالٍ لهم، فإن تابوا وأنابوا وزالت عداوتهم للصالحين؛ تاب الله عليهم، وإن أصروا على باطلهم، وتمادوا في غيهم، فإن الله يملي لهم استدراجًا، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وبذلك ينتصر الله لأوليائه ويجعل العاقبة لهم، والغلبة على من عاداهم.

قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].

وإن هذا منه لهم متكرر متجدد؛ ذلك لأنهم بإيمانهم حافظوا على أمانة الله عندهم، وعهده لديهم، واعترفوا بنعمه وشكروها، فأحبهم الله ورضي عنهم، فأيدهم ونصرهم، ودافع عنهم، ولأن أعداءهم ضيعوا أمانة الله عندهم، بارتكاب المنهيات، وترك المأمورات، وجحدوا وحدانيته أو نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم أو ما جاءهم به من شرعه، فأبغضهم ورد كيدهم مغلوبين مدحورين (3).

وإن بلوغ هذه المكانة شرف عظيم، ونعمة كبرى يختص الله بها من يشاء من عباده، وحق لنا أن نتساءل: ما الطريق الذي يعيننا على نيل هذه المرتبة العظيمة؟

لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أول طريق الولاية حين قال: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه»، فهذه المنزلة لا تنال حتى يرفع العبد شعار العبودية لله، فيتقرب إليه أولًا بما فرضه عليه من الأوامر، وما يلزمه ذلك من مجانبة المعاصي والمحرمات.

ثم ينتقل المؤمن إلى رتبة هي أعلى من ذلك وأسمى، وهي التودد إلى الله تعالى بالنوافل، والاجتهاد في الطاعات، فيُقبل على ربه مرتادًا لميادين الخير، يشرب من معينها، ويأكل من ثمارها، حتى يصل إلى مرتبة الإحسان، والتي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (4).

ويؤكد هذه الحقيقة سيدنا عمر رضي الله عنه حينما عين سيدنا سعد بن أبي وقاص قائدًا في معركة القادسية قال: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيئ بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين (5).

وحال المؤمن عند هذه الدرجة عجيب، إذ يمتلئ قلبه محبة لربه وشوقًا للقائه، وخوفًا من غضبه وعقابه، ومهابة وإجلالًا لعظمته، فما بالك بعبد يقف بين يدي ربه وكأنه يراه رأي العين، فلا تعجب من اليقين الذي يبلغه، والسمو الإيماني الذي يصل إليه.

قال الخطابي: أي: يسرت عليه أفعاله المنسوبة إلى هذه الآلات، ووفقته فيها، حتى كأني نفس هذه الآلات، وقيل: أي: يجعل الله حواسه وآلاته وسائل إلى رضائه فلا يسمع إلا ما يحبه الله ويرضاه، فكأنه يسمع به إلخ، وقيل: أي: يجعل الله سلطان حبه غالبًا عليه حتى لا يرى إلا ما يحبه الله، ولا يسمع إلا ما يحبه، ولا يفعل إلا ما يحبه، ويكون الله سبحانه في ذلك له يدًا وعونًا ووكيلًا يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه.

وقيل: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وبصره في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي، ويمكن أن يكون المعنى إذا تقرب إليه بما افترض عليه، وزاد في التقرب بالنوافل المكملات للفرائض، ومن جملتها دوام الذكر الموصل إلى حضور الوصول، وسرور الحصول، ومقام الفناء عن نفسه، والبقاء بربه، ظهر له آثار محبته الأزلية وانكشف له أنوار قربته الأبدية، فرأى أن ما به من الكمال من السمع والبصر وقوة القوى إنما هو من آثار سمعه وبصره وقدرته وقوته، وأما هو فعدم محض فلا يرى في الدار غيره ديار.

وقال ابن حجر: فلا يسمع شيئًا ولا يبصر ولا يبطش ولا يمشي، إلا وشهد أني الموجد لذلك والمقدر له، فيصرف جميع ما أنعمت به عليه إلى ما خلق لأجله من طاعتي، فلا يستعمل سمعه وغيره من مشاعره إلا فيما يرضيني ويقربه مني، فلا يتوجه لشيء إلا وأنا منه بمرأى ومسمع، فأنا له عين ويد ورجل وعون ووكيل وحافظ ونصير، كما هو جلي عند أئمة العرفان دون غيرهم، إذ لا يؤمن عليهم لضيق العبادة عما يوهم لغير ذوي الإشارة من الأغاليط التي هي الحلول والاتحاد والانحلال عن رابطة الشرع الملجئة إلى مضايق الضلال (6).

درجات الولاية:

وبعد أن ذكر سبحانه وجوب موالاة أولياء الله وتحريم معاداتهم وعقوبة ذلك، ذكر طرق تحصيل هذه الولاية، فبيَّنَ أن أولياء الله على درجتين:

الدرجة الأولى: درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين يتقربون إلى ربهم بأداء ما افترض عليهم، وهو يشمل فعل الواجبات وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده، فذكر سبحانه أن التقرب إليه بأداء الفرائض هو من أفضل الأعمال والقربات كما قال عمر رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله تعالى، وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادات أداء الفرائض واجتناب المحارم (7).

وأما الدرجة الثانية: فهي درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض، فاجتهدوا في نوافل العبادات من صلاة وصيام وحج وعمرة وقراءة قرآن وغير ذلك، واجتنبوا دقائق المكروهات، فاستوجبوا محبة الله لهم، وظهرت آثار هذه المحبة على أقوالهم وأفعالهم وجوارحهم.

آثار محبة الله لأوليائه:

إذا استوجب العبد محبة الله ظهرت آثار المحبة عليه، وهذه الآثار بينها سبحانه في قوله: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»، والمقصود أن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض ثم بالنوافل، قَرَّبه الله إليه ورَقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله كأنه يراه، فلا تنبعث جوارحه إلا بما يحبه مولاه، فإن نطق لم ينطق إلا بما يرضي الله، وإن سمع لم يسمع ما يسخط الله، وإن نظر لم ينظر إلى ما حرم الله، وإن بطش لم يبطش إلا لله، وهكذا، ولهذا جاء في بعض روايات الحديث في غير الصحيح: «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» (8).

ومن علامة أولئك أنه يخرجهم من بطون أمهاتهم أحرارًا من رق النفوس، قد طبع نفوسهم على أخلاق الكرام من السخاوة والشجاعة والسماحة والحلم والتأني والنزاهة والصيانة، فهذا حر من رق النفس، ومن كان ضد هذه الأشياء مثل البخل والضيق والمكر والعجلة وحدة الشهوة والحرص والجبن فهو عبد نفسه، فإن رزق تقوى احتاج إلى أن يجاهد نفسه حتى لا يستعجل أركانه بما يصير به عاصيًا، فهو وإن جاهد فهذه الأخلاق باطنه..

فالعبيد الأتقياء هؤلاء الذين فيهم هذه الأخلاق، فهم أتقياء يتقون الله أن يعصوه بجارحة وتتردد فيهم هذه الأخلاق، فإن عملوا بطاعة عملوها بكزازة نفس وجهد والأحرار الكرماء قد عوفوا من هذه الأخلاق طبعًا، فإن انتهوا عما نهى الله تعالى عنه لم يحتاجوا إلى أن يحاربوا ويجاهدوا نفوسهم، وإن عملوا بطاعة عملوها تكرمًا وسماحة، فقلبه لين منقاد ليس فيه كزازة حيث ما قاده مولاه في أموره انقاد من غير تلجلج (9).

قال الغزالي: من أخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله؛ فقد استهان بنظر الله، فمن قارف معصية وهو يعلم أن الله يراه فما أجرأه وما أجسره، وما ظن أن الله لا يراه، فما أكفره وما أكفره، ولذا قيل: إذا عصيت مولاك فاعص في موضع لا يراك، والمراد من هذا المقال تعليق بالمحال، ومن ألطاف الله بعباده أن الله يحفظ سمعهم وبصرهم، وإليه الإشارة بقوله: كنت له سمعًا وبصرًا فبي يسمع وبي يبصر (10).

صور التوظيف البدعي لحديث الولي:

ظهر التوظيف البدعي لحديث الولي في عدة صور، منها:

(1) توظيف صفة أولياء الله المتقين في حديث الولي في الترويج لأولياء الصوفية:

فأول الخلط ومُفتتح التلبيس إلباسُ الحال والواقع الصوفي ثوبَ الدين الصحيح الذي ارتضاه، ومن ذلك ترويج صورة الولي وحاله الوارد صفتها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -ومنها حديث الولي- على أنها هي المتحقِّقة عيانًا في حال المتصوفة قديمًا وحديثًا، ونراه في طيات كراماتهم المزعومة في كتبهم وطبقاتهم! وخلاصة ذلك كله: الإيهام أن صفة أولياء الله في الوحي هي المتحقِّقة في الواقع البدعي.

فقد أدخل على معنى الولي والأولياء معانٍ شيعية الأصل صوفية الاحتضان، تحولت بها عن المعنى القرآني العربي الواضح بأن الولي القريب والمتقرب إلى الله بالإيمان والتقى وبالفرائض والنوافل، إلى وليٍّ مُعيَّن يتوارث الولاية من آبائه أو أقاربه، مجافٍ للشريعة معظم لطقوس، ومتأولٍ لنصوصها بطريقة باطنية إشارية، تحركه أوهام المنامات، ينطلق من أصول بلا أصول.

وكذلك انتقل معنى الولاية من معنى النصرة إلى نصرة معينة وتحزب معين لطريقة بعينها تُعقَد لها ألوية الولاء والبراء، على شيخهم، وأبنائه، ومريديه، وطريقته، وأذكاره، وأوراده.

وتسرَّب كذلك معنى الولي المحفوظ على غرار النبي المعصوم (11)، كما قال القشيري: ومن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصومًا، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدع (12).

ولم ننتصب هنا للحديث عن مصادر التصوف والنشأة الصوفية، لها موضعها، لكننا هنا ننبه إلى الانحراف بأدنى إشارة إلى امتزاج بعض الأفكار الشيعية بالفكر الصوفي.

وما يعنينا هنا بالأصالة: أنك تجد كل طريقة من طرق الصوفية وكل فرقة وشيخ منهم قد جعل له حصانة، وأنزل حديث الولي تصريحًا أو تلميحًا حمى يحميه، حتى وإن لم ينطق بألفاظ الحديث، فإن بعض المعاني التي يريدون توظيفها تبلغ التواتر، وتدور في مصنفاتهم وعباراتهم، ويُرى من حالهم البئيس إذا جالسوا المتشرعة، فينزلون هذه المعاني السامية الخاصة بأولياء الله المتقين أهل الصلاح والعلم والعمل على مجاذيب الصوفية، ويجعلون الولاء والبراء والمحبة والبغض لهذا في شخص هذا الولي المزعوم، بل ويضمون إلى مهامه وتصرفاته ضمان الجنة بغير حساب ولا عقاب لأتباعه وذويهم وأوليائه ومناصريه؛ ولو عملوا من الذنوب والمعاصي ما عملوا، بل وشهد بعضهم بالجنة لمن رأى هذا الصوفي بعينه.

نماذج من نصوص التوظيف والتلبيس بإسقاط معنى موالاة أولياء الله ومعاداتهم على أولياء الطرق البدعية:

قال بعضهم: قال الشيخ رضي الله عنه: قال لي -أعني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم-: أنت من الآمنين، وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان، ثم قال بعده: من رآك يوم الجمعة أو يوم الاثنين دخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، ولا يدخل النار ولا يراها، سواء كان مطيعًا أو عاصيًا، ومن كراماته الكبرى رضي الله عنه أن كل من أحبه وكل من أحسن إليه بخدمة أو غيرها، وكل من أطعمه، كلهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب، ويكونون معه في عليين في جواز النبي، ويكونون آمنين من عذاب الله من الممات إلى دخول الجنة، قلت: وهذا كله بشرط عدم معاداته رضي الله عنه (13).

وقال علي حرازم: اطلعت على ما رسمه وخطه ونصه.. أسأل من فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمن دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى ابن مريم من جميع الذكور والإناث، وكل من أحسن إليّ بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر.. فكل من لم يعاديني من جميع هؤلاء.

أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخًا أو أخذ عني ذكرًا، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة.. وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم.. يضمن لي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع هؤلاء أن يموت كل حي منهم على الإيمان والإسلام.. ثم قال: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبدًا، إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين، وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضمانًا لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام.. ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا منامًا (14).

وتطاول أحد هؤلاء الأولياء المزعومين على مقام أنبياء الله ورسله -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- ونصب نفسه على درجة الربوبية والألوهية المطلقة حيث قال: وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي (15).

وقال بعضهم: وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عني وردًا أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضمنت لك هذا ضمانًا لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين (16).

وقال غيره: وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الاثنين والجمعة، فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان، وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، بإخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه: بعزة ربي، يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون -يعني الأملاك السبعة- اسمه في رقعة من ذهب، ويكتبونه من أهل الجنة، وأنا شاهد على ذلك (17).

وقال أيضًا: ورأيت في كلام بعض من كان مشارًا إليه بالفتح من الأصحاب ما يشير إلى أن المختص برؤيته في اليومين هو السعادة التي لا شقاوة بعدها، يعني أنه لا يراه في هذين اليومين إلا من سبق في علم الله تعالى أن يكون سعيدًا، فيدخل الكفار في هذا الخطاب، وينسحب عليهم الحكم في هذا المقام بفضل الملك الوهاب، فيقال: لا يراه في هذين اليومين إلا من يسبق في علم الله تعالى أنه يختم له بالسعادة كائنًا من كان، فإذا رآه الكافر في أحد هذين اليومين ختم له بالإيمان، وعليه فتخصص الرؤية المطلقة في كل يوم بمن كان مسلمًا، سواء كان من الأصحاب أو لا، حسبما هو مصرح به في الجواهر، وهذه المقيدة باليومين بما يشمل كل من رآه ولو كان كافرًا (18).

قلب هذا التوظيف:

لاحظ بؤس هذه المعاني السيئة، وقارنها بحديث الولي، وبحال أولياء الله وعبادتهم وتواضعهم، وقارن ذلك أيضًا بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «والله، إني رسول الله، ‌وما ‌أدري ‌ما ‌يفعل ‌بي» (19)، والذي يقول الله تبارك وتعالى له: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21- 22].

قال محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله -وقد كان تجانيًّا قبل أن يعود إلى عقيدة أهل السنة والجماعة- معلقًا على بعض هذه الأقوال: لا يستطيع أحد أن يعتقد هذا الخبر إلا إذا تجرد من العقل والدين والمروءة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، ورؤية الشيخ ليست من العمل في شيء، ولم يثبت هذا للنبي صلى الله عليه وسلم بقرآن ولا حديث صحيح أو ضعيف؛ فإن الكفار والمنافقين كانوا يرونه كل يوم ولم ينفعهم ذلك، فلا أنجاهم من عذاب الله؛ ولا جعلهم من أهل الجنة؛ بل دعاؤه لهم أخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم، قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80].

وصدق رحمه الله، فهذه الدعاوى لم يرد مثلها ولا أقلّ منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم.

والملاحظ عليهم أنهم يحاولون تصدير صورة متخيلة عن أولياء الله تنطبق على الواقع البدعي، والتي تنطوي على تعظيم -بل وتأليه- وصناعة طاغوت يزعم التصرف في الكون، وكل هذا يناط بهذا الحديث الشريف حديث الولي وغيره من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.

لذا فإن هذا التلبيس ينمحي وينجلي ظلامه بالإسفار عن معنى أولياء الله المذكورين في حديث الولي، الذين هم أولياء الله على الحقيقة، وبإيضاح صفتهم التي ذكرها السلف، لا أولياء البدعة والخرافات المنسوجة حول الولي وطريقته وإمكاناته وتصرفاته، وطقوس تعظيمه والولاء والبراء عليه.

قال ابن جرير الطبري: الولي -أعني ولي الله- ‌هو ‌من ‌كان ‌بالصفة ‌التي ‌وصفه ‌الله ‌بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الذين صدقوا الله ورسوله، وما جاء به من عند الله، وكانوا يتقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه (20).

وأصل الولاية: القرب، فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه ‌بأعمالهم ‌المقتضية ‌لطردهم وإبعادهم منه، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم أولياءه المقربين إلى قسمين:

أحدهما: من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.

والثاني: من تقرَّب إليه بعد الفرائض بالنوافل.

فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى وولايته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن ادعى ولاية الله والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وكما حكى عن اليهود والنصارى أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، مع إصرارهم على تكذيب رسله وارتكاب نواهيه وترك فرائضه (21).

والجاري على قواعد السلف أن يقال في تمييز أولياء الله كما قال ابن حجر: المراد بولي الله: العالم بالله، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته (22).

قال الشوكاني عن تعريف ابن حجر وما شمله من قيود ومحترزات: وهذا التفسير للولي هو المناسب لمعنى الولي المضاف إلى الرب سبحانه، ويدل على ذلك ما في الآيات القرآنية كقوله سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62- 63] (23).

فهذه القيود التي ذكرها ابن حجر ضوابط يحترز بها عن أضدادها؛ أصحاب الولاية البدعية:

- فالولي عالم بالله: غير جاهل به، وبما يستحقه الله، وما يجب له، وما يتنزه عنه، ومن ذلك تعظيمه وألا تصرف العبادات لغيره سبحانه وتعالى.

- والولي مواظب على الطاعة: غير مطَّرح للتكاليف الشرعية، كحال كثير ممن يدّعون الوصول لليقين، فيطرحون العبادات، ويتخلون بالخلوات تاركين للصلاة والجمعات والأمر والنهي وأمور المعاش وحقوق العباد وصلة الأرحام، وخلافًا للتقريرات الصوفية؛ فالولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون سبب، وبغير حكمة، ويجعلون الولاية الكسبية هي ولاية العوام والمتنسكين، والولاية الحقيقية عندهم هي الولاية الوهبية.

- والولي مخلص لله غير مراءٍ ولا متصنِّع: فلا يتصنع الفضل والعزة، ولا يحب الظهور بمقام الكرامة على الله، بل ولا يظهر التحدي بما وهبه الله به من كرامة يزعمها، وإلا فإن دون ذلك تلبيس شيطاني ومادة سحرية، يُلبِّس بها بعض طواغيتهم، وما حال الرفاعية عن ذلك ببعيد.

قال شمس الدين الذهبي عن الرفاعية أصحاب أحمد الرفاعي: ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق؛ من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات (24)، وقال ابن خلكان: ولأتباعه أحوال عجيبة؛ من أكل الحيات وهي حية، والنزول إلى التنانير وهي تضطرم من النار فيطفئوها (25).

فأولياء الله أهل إيمان وهدى، ومشتغلون بالعبادة ساعون لخلاص أنفسهم، ويسألون الله ويفتقرون إلى فضله، ويدعونه ويرجون استجابة دعائهم، فالكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، ولا يتحدَّون بها أحدًا، ولا ينتصرون بها أو يرون أنهم أعلى من غيرهم، فضلًا عما رأيناه هنا من كونهم يملكون الجنة والنار، ويدخلون من شاءوا من محبيهم وأتباعهم.

وأولياء الله تعالى على الحقيقة هم من أهل التواضع، ولعل هذا أحد أسباب وضع الإمام البخاري هذا الحديث في باب التواضع؛ فإن أولى الناس بأن يتواضعوا للخلق هم أولياء الله تعالى، ويحتمل كذلك أن الإمام البخاري وضعه في باب التواضع لأن أولياء الله تعالى شديدو التواضع، حتى إن منهم من قد لا يأبه له أحد من الخلق لظهور سِيمَا التواضع عليه في المأكل والملبس.(2) توظيف «كنت سمعه.. وبصره..» في معنى الكشف والاطلاع على الغيب:

فعلى اختلاف مشارب الصوفية واختلاف درجاتهم قربًا وبعدًا إلا أن الكشف الصوفي والاطلاع على الغيب وانكشاف الحجب تحتل في قلوب أكثرهم -إن لم يكن كلهم- المحل الأوفى.

فعبر هذا المعتقد مُرِّرت دعاوى بدعية، ومُرِّرت معاني مخالفة، وتهشَّمت عقائد الإيمان بالغيب في قلوب كثير منهم، حتى إن المطالع إذ يتمعن كلامهم ويتمحص لوازمه ويقارنها بمعاني الوحي الصافية ليطيش عقله ويذهل من فجاجة الدعاوى؛ دعاوى أن الله أطلعهم على الغيب، وأعلمهم ما في الأرحام، وأراهم كتابًا فيه أسماء أهل الجنة والنار، وجلس معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة، وأملى عليهم أمالي من الغيب، كل هذا تحت مسمى الكشف.

وعليه فإن الكشف الصوفي: وهو يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم ما في السماوات جميعًا، وما في الأرض جميعًا، فلا تسقط ورقة إلا بنظره، ولا تقع قطرة ماء من السماء إلا بعلمه، ولا يولد مولود أو يعقد معقود أو يتحرك ساكن أو يسكن متحرك إلا بعلم الصوفي... كتب القوم كلها تنص على أن الصوفي لا يقف أمامه حجاب، ولا يوصد أمامه باب، ولا يعجزه علم شيء في الأرض ولا في السماء. فهو يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة، بل هو يعلم بأي لغة وأي قلم كتب اللوح المحفوظ، وماذا في أم الكتاب، وماذا كان منذ الأزل، وماذا سيكون إلى الأبد، لا أقول: قد ساوى الصوفية أنفسهم بالأنبياء بالغيب، أو ساووا أنفسهم بالخضر الذي يزعمون النقل عنه، لا والله، بل جعلوا كل واحد منهم ممن لا وزن له في خُلُق ولا علم، جعلوا هؤلاء هم الله علما بكل شيء، وإحاطة بما في السماوات والأرض (26).

فهم جعلوا الأولياء متصرفين في كون الله بما شاءوا، وهذا من أقبح المعتقدات؛ أن يظن أن الله تعالى قد فوَّض هؤلاء الدراويش بالـمُلك والتدبير والإحياء والإماتة، وأنهم قد آل أمر الخلق إليهم، كذبات يروّج لها كذابون، ويدعمها سحرة وشياطين، مع تلبيس على الناس في غيبة العلم والنصح، وفي غفلة عنهم يروج أمرهم، وإذا ما وجدت رائحة استدلال فإنهم ينفخون فيها نيران البدعة، وينوطون بها كذبتهم وخرافتهم.

فقد روجوا أن الولي يعلم الغيب ويتصرف في كون الله، وأنهم يقولون للشيء: كن، فيكون! أو أنهم أهل للعبادة -عياذًا بالله من هذا الزيغ-؛ فالمتصوفة يعتقدون في أوليائهم أوصافًا إلهية ونعوتًا ربانية.

وقد نقل ابن عطاء السكندري مقولة أبي العباس تلميذ أبي الحسن الشاذلي وخليفته في شيخه: لو كُشف عن حقيقة الولي لَعُبِدَ؛ لأن أوصافه من أوصافه، ونعوته من نعوته (27).

وقال ابن مغيزل الشاذلي في وصف المرسي أبي العباس: وبالجملة فهذا الشيخ أبو العباس المرسي هو ممن أطلعه الله على حقائق الغيوب المطلقة والمقيدة، فصار يغترف من فيض البحر الإلهي والمداد الرباني (28).

ومن تأمل معاني الوحي وجد أن من القضايا الكبرى التي أوعبها الوحي واستفاض في تقريرها قضية الغيب؛ لقطع الطرق على كل مُبطل مُلبس وشيطان مُخبث.

فالغيب لا يعلمه إلا الله وحده سبحانه وتعالى، وهو سبحانه يُطْلِع على ما شاء من الغيب مَنْ شاء من أنبيائه ورسله فقط، والأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه، كما قال سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]، وقال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} [الجن: 26- 28].

وأمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه ليس ملَكًا، ولا يملك خزائن الله، ولا يعلم الغيب، قال تعالى: {قُل لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].

وهذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما قاله نوح قبل ذلك: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» (29).

وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].

- وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»

فإنه محمول على أن تصبح عبادته لله على وصف الحضور ومراقبة الله كأنه يراه، أي: على درجة الإحسان، كما قال ابن رجب رحمه الله: إن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه، ورقّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدًا له بعين البصيرة… -إلى أن قال:- فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، فهذا هو المراد بقوله: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»، ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول أو الاتحاد، والله ورسوله بريئان منه (30)، (31).

-----------

(1) ولاية الله والطريق إليها (ص: 262).

(2) أخرجه البخاري (6502).

(3) تفسير ابن باديس (ص: 351).

(4) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8).

(5) البداية والنهاية (7/ 35).

(6) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1545).

(7) جامع العلوم والحكم (2/ 336).

(8) فتح الباري لابن حجر (11/ 344).

(9) نوادر الأصول في أحاديث الرسول (1/ 382).

(10) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1570).

(11) التصوف الثورة الروحية في الإسلام (ص: 252).

(12) الرسالة القشيرية (2/ 416).

(13) روض المحب الفاني فيما تلقيناه من سيدي أبي العباس التجاني (ص: 204).

(14) جواهر المعاني (1/130-131).

(15) رماح حزب الرحيم (2/ 143).

(16) الجيش الكفيل بأخذ الثأر (ص: 214- 215).

(17) بغية المستفيد (ص: 216).

(18) بغية المستفيد (ص: 275).

(19) أخرجه أحمد (2127).

(20) جامع البيان (12/ 212- 213).

(21) جامع العلوم والحكم (2/ 335- 336).

(22) فتح الباري (11/ 342).

(23) قطر الولي (ص: 99).

(24) العبر (3/ 75).

(25) وفيات الأعيان (1/ 172).

(26) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (ص: 146).

(27) لطائف المنن (ص: 95).

(28) الكواكب الزاهرة في اجتماع الأولياء يقظة بسيد الدنيا والآخرة (ص: 147).

(29) أخرجه البخاري (7379).

(30) جامع العلوم والحكم (2/ 345- 346).

(31) التوظيف البدعي لحديث الولي/ سلف للبحوث والدراسات.