logo

الدعاة بين العزلة المخالطة


بتاريخ : الثلاثاء ، 2 رجب ، 1436 الموافق 21 أبريل 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة بين العزلة المخالطة

الدعوة إلى الله هي في جملتها حزمة من قوانين ومعارف وأخلاق وسلوكيات، يحملها الداعية ليغير بها المدعو، فهي ليست كلمات تقال، ولكنها كالبذرة توضع في الأرض، لو تركها الزارع وشأنها لضاعت، وتغلبت عليها حشرات الأرض، لكنه إذا تناولها بالعناية والرعاية والتعهد أثمرت، ونفع الله بها الزارع وغيره من الناس.

 

فالأصل هو المخالطة، والمجالسة، والاجتماع؛ اجتماع أهل الإسلام واختلاطهم وتلاقيهم في المجالس والمجامع والمساجد والطرقات، يبذلون السلام، ويحسنون الكلام، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويدلون على الخير، ويتناصحون ويزيلون الأذى عن الطريق، وينفعون، ويأمرون، ويصلحون بين المتخاصمين.

 

ولهذا قال ابن الوزير الصنعاني رحمه الله: «العزلة عبادة الضعفاء وصيد الشياطين؛ لأن الأصل عدمها، فالضعيف الذي يعتزل يكون صيدًا للشياطين ما لم يُحصَّن بعلمٍ، ويكون اعتزاله لسبب».

 

قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105].

 

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرًا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم»(1).

 

فالمخالطة فيها اكتساب الفوائد، وشهود شعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى.

 

ومخالطة الناس لا بد أن يكون فيها بعض من الشقاء والعناء، ولا بد أن يكون فيها بعض من النكد والضيق، ولكن على المؤمن عمومًا، والداعية على وجه الخصوص، أن يصبر على مخالطة الناس، وعلى ما يصدر منهم من أذى، وأن يحتسب الأجر في ذلك، وأن ينظر دائمًا إلى الناس بعين الرأفة والرحمة؛ فإن الناس محتاجون إلى الداعية؛ فهم أشد حاجة للدعاة من الأكل والشرب، فبالداعية يحفظ الله تعالى الأمة من المؤثرات الخارجية، والعوامل الداخلية، وقد كثُرت كل من تلك المؤثرات وهذه العوامل في مجتمعات المسلمين، وستبقى تزداد كلما ابتعدنا عن عصر النبوة.

قال سعيد بن جبير رحمه الله: «الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه منه، واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع الإنسان وهو متجلِّد لا يُرى منه إلا الصبر»(2).

 

ولا حق للداعية أن يترك الناس ويهجرهم انتصارًا لنفسه، ولا أن يتبرم من حالهم أو يترك الإخلاص في النصح لهم، فإن تلك الأفعال مجانبة للحكمة والهدى، ولا يتصور الداعية في يوم من الأيام أن الأمور ستصفى له الصفاء الكامل؛ بل عليه أن يوطن نفسه على أن الأمور فيها من التعقيد والكبد ما فيها، وإن أحب الخلق إلى الله تعالى هم الرسل والأنبياء، ومع ذلك فقد عانوا من أممهم الأمَرَّيْن، ولاقوا في سبيل الدعوة إلى الله تعالى ما لا يوصف، من الأذى القولي والفعلي، والطرد والإهانة والقتل، ومع ذلك فلا يزال الأنبياء على دعوتهم والصبر عليهم.

 

والنبي صلى الله عليه وسلم خالط الناس في دعوته، بالاحتساب والصبر والحلم والأناة، ولم يخالطهم بالفظاظة والغلظة والقسوة والغضب، وصدق الله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، ومقابلة السيئة بالحسنة من أبدع الأخلاق وأحبها إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43]، وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13]، وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199](3).

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر له بعطاء(4).

 

فليست العزلة عن الناس تخلصًا من أذاهم هي الحل؛ بل الحل هو المخالطة لهم مع كمال الصبر عليهم، واحتساب الأجر في ذلك، ولا ينبغي ترك الساحة لأهل الأهواء والشهوات يلعبون في دين الناس والدعاة بمعزل عن واقع الحياة؛ بل لا بد من المزاحمة ونشر النور، ودعوة الناس إلى الحق مهما بلغت الحال من السوء وغلظ الحال، فالعاقبة للمتقين، فأنت أيها الداعية المبارك كالطبيب المعالج، الذي يتعامل مع طبائع وشخصيات متفاوتة متباينة، فإن لم يكن لديه الصبر الكافي، سئم وترك مريضه عرضة للهلاك، وعلاجك للواقع أيها الداعية ليس يومًا وينتهي؛ بل فترة من الزمن غير قصيرة، تجتث فيها خبائث الصفات، وتربي فضائل الأخلاق، ولا نبقى في دائرة اتهام المجتمع بالفساد والانحلال، ونحن في معزل عن السعي في إصلاحه ونشر الحق فيه.

 

فالاحتساب في معايشة الناس ومعرفة واقعهم أمر مهم جدًا للداعية؛ إذ إن من عوامل نجاح الداعية، الذي ينشد إصلاح الناس، أن يكون عالمًا بأحوالهم، مدركًا لمشكلاتهم(5).

 

ومن الأمور المتقررة عند أهل المعرفة أنه لا يستطيع العمل على تغيير واقع الناس، وانتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنَّة، بصورة صحيحة مؤثرة، إلا من عاشرهم، ودَاخَلهم، وعرف أحوالهم؛ ولذا، على الداعية وطالب العلم أن يستشعر الخيرية، التي جاءت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(6).

 

ومذهب جماهير السلف تفضيل الاختلاط بالناس، في الأحوال الطبيعية التي لا يلحق المسلم فيها ضرر في دينه، على اعتزالهم والابتعاد عنهم، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم، ودينكم لا تَكْلِمُونه»، وقال عمر رضي الله عنه: «خالطوا الناس بما يحبون، وزايلوهم بأعمالكم، وجِدُّوا مع العامة»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم؛ فإن لامرئ ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب».

 

وفي هذه الآثار المذكورات، عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، بيان للمنهج الشرعي في هذه القضية، وهو مخالطة الناس مع مزايلتهم ومخالفتهم، وليس بين الأمرين تعارض؛ إذ الأمر كما توضحه هذه الآثار والآثار الأخرى، يراد به مخالطتهم بالأجسام، ومزايلتهم بالأعمال، مع المحافظة التامة على الدين أن يصاب بضرر بسبب هذه المخالطة.

 

ويحسن التنبيه هنا إلى أن أهل العلم لا يقصدون بذلك أن يختلط العالِم والداعية بالناس اختلاطًا طاغيًا على شئونه وأموره الأخرى؛ بل هم مجتمعون على أن القدر الذي يطالب به من الخلطة لا بد أن يكون معتدلًا في الجملة، ثم هو يتفاوت بعد ذلك بحسب المصلحة.

 

كيف للداعية أن يُلقي كلماته ثم يمضي لا يشارك الناس أحزانهم وأفراحهم، إنما المطلوب أن يخالطهم وينفذ إلى قلوبهم بحسن الكلام، والبشاشة، والنجدة لكل ملهوف، فذلك يقبل بقلوبهم إليه، فيمكن تغيير أحوالهم.

 

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، وذكر أن العبد لا بد له من انفراد بنفسه؛ في دعائه، وذكره، وصلاة النافلة، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، ومما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره(7).

 

فينبغي للداعية أن يراعي هذه الضوابط، ويعمل بالأصلح المشروع.

 

فإن قلت: وكيف نجمع بين حديث الأمر بمخالطة الناس، وأن مخالطتهم مع الصبر على أذاهم خير من عدمها مع الحديث أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: «رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره»(8).

 

فأقول: هذا عند أهل العلم محمول على وقت الفتن ووقت الحروب، أما مع الأمن فالمؤمن مع المؤمنين أفضل، مع التعاون على البر والتقوى والحذر من الفتن، قال الإمام النووي رحمه الله: «وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وجماهير الصحابة والتابعين، والعلماء والزهاد؛ مختلطين فيحصِّلون منافع الاختلاط؛ كشهود الجمعة، والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وحلق الذكر، وغير ذلك»(9).

 

فينبغي للداعية أن يراعي هذه الضوابط، ويعمل بالأصلح المشروع، فإذا كان لا بد من العزلة؛ لأجل الفتن المضلة اعتزل الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر, يفرّ بدينه من الفتن»(10)،وإذا كان الأمر ليس كذلك، فمخالطة الناس ودعوتهم إلى الخير خير وأفضل وأعظم من العزلة، والله المستعان(11).

 

قال الشيخ عبد الكريم في أصول الدعوة: «الدعوة إلى الله من وجائب الإسلام، ومن وسائلها مخالطة الناس؛ فتكون المخالطة واجبة؛ لأن ما لا يُؤدَّى الواجب إلا به فهو واجب، والواقع أن طبيعة الإسلام تقتضي المخالطة، فالإسلام ليس معنًى خاصًا بالفرد؛ بل هو أيضًا عمل المسلم خارج نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن أكرمه الله بالنبوة وأمره بالتبليغ عاش مع الناس وخالطهم وغشي مجالسهم؛ يدعوهم إلى الله، ويحذرهم مما هم فيه، وكذلك فعل أصحابه الكرام؛ خالطوا الناس، وبثوا فيهم ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم والدين.

 

وما روي عن بعض التابعين من استحباب العزلة وكراهية المخالطة؛ فهو أمر يتعلق بأحوال طارئة وظروف استثنائية، فليس ما ذكروه هو القاعدة التي يستهدي بها المسلمون من بعدهم؛ لأن وجوب الدعوة إلى الله أمر ثابت في الشرع، والمخالطة هي المقدمة إلى الدعوة، فلا يمكن التخلي عنها؛ بل إن هذا الوجوب أصبح أشد في زماننا من أي زمان مضى؛ لما غشي البشر من غاشية رهيبة قاسية من المادية الصماء السوداء، التي حجبت عنهم أنوار الحق، وقطعت صلاتهم بالله عز وجل؛ مما جعل لزامًا على كل مسلم أن يسهم في الدعوة إلى الله بقدر طاقته، وبأي نوع من أنواع القدرة يستطيعه، وهذا يستلزم مخالطة الناس ليدعوهم إلى الله.

 

والمخالطة الواجبة هي ما كانت ضرورية لأعمال الدعوة إلى الله تعالى، أو أداء فروض الإسلام الأخرى، فإذا خلت من هذا المقصود زالت عنها صفة الوجوب، وصارت مباحة أو مكروهة أو حرامًا، فالمباحة كالمخالطة لغرض تحصيل مباح دنيوي، والمكروهة إذا فوتت على الداعي فائدة أخروية، والمحرمة إذا حمّلته إثمًا.

 

وعلى هذا، فإن المأمول من الداعي أن تكون مخالطته كلها بدافع من الدعوة إلى الله، فإذا زار شخصًا، أو تعارف معه، أو صادقه، أو رافقه، أو آخاه، أو غشي مجلسًا، أو تكلم في جمع فإنه يصدر عن رغبة في الدعوة إلى الله، أو بالإعداد والتهيئة لها(12).

 

أنواع الناس في المخالطة:

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: «الناس على أربعة أقسام:

1- من مخالطته كالغذاء؛ لا يُستغنى عنه، وهذا أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأوامره، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه.

2-من مخالطته كالدواء، يُحتاج إليه عند المرض فقط، وهم من لا يُستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش.

3- من مخالطته كالداء، وهم من في مخالطته ضرر ديني أو دنيوي.

4- من في مخالطته الهلاك كله، وما أكثر هذا الضرب في الناس، وهم أهل البدع والضلالة»(13).

فوائد المخالطة:

 

ذكر الغزالي رحمه الله هذه الفوائد فقال: «اعلم أن المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالآخرين؛ ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة، فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة، وفواته من آفات العزلة، فانظر إلى فوائد المخالطة والدواعي إليها، وهي ست، نذكرها بإيجاز:

 

أولًا: التعليم والتعلم؛ وهما أعظم العبادات في الدنيا، ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة، إلا أن العلوم كثيرة، وعن بعضها مندوحة، وبعضها ضروري في الدنيا، فالمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه عاص بالعزلة، وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الاشتغال بالعبادة فليعتزل، وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع والعقل فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران.

 

ولهذا قال النخاعي وغيره: «تفقه ثم اعتزل»، فمن اعتزل قبل التعلم فهو في الأكثر مضيع أوقاته بنوم أو فكر في هوس، فالعلم هو أصل الدين؛ فلا خير في عزلة العوام والجهال، أعني من لا يحسن العبادة في الخلوة، ولا يعرف جميع ما يلزم فيها، فمثال النفس مثال مريض يحتاج إلى طبيب متلطف يعالجه، فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب تضاعف لا محالة مرضه، فلا تليق العزلة إلا بالعالم، وأما التعليم ففيه ثواب عظيم مهما صحت نية المعلم والمتعلم، ومهما كان القصد إقامة الجاه والاستكثار بالأصحاب والأتباع فهو هلاك الدين.

 

ثانيًا: النفع والانتفاع؛ أما الانتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة، وذلك لا يتأتى إلا بالمخالطة، والمحتاج إليه مضطر إلى ترك العزلة؛ فيقع في جهاد من المخالطة، إن طلب موافقة الشرع فيه، فإن كان معه مال لو اكتفى به قانعًا لأقنعه؛ فالعزلة أفضل له إذا انسدت طرق المكاسب في الأكثر إلا من المعاصي، إلا أن يكون غرضه الكسب للصدقة، فإذا اكتسب من وجهه، وتصدق به فهو أفضل من العزلة للاشتغال بالنافلة.

 

وأما النفع فهو أن ينفع الناس، إما بماله أو ببدنه؛ فيقوم بحاجاتهم في سبيل الله، ففي النهوض بقضاء حوائج المسلمين ثواب؛ وذلك لا ينال إلا بالمخالطة، ومن قدر عليها مع القيام بحدود الشرع فهي أفضل له من العزلة؛ إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات والأعمال البدنية.

 

ثالثًا: التأديب والتأدب؛ ونعني به الارتياض بمقاساة الناس، والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرًا للنفس وقهرًا للشهوات، وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة، وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه، ولم تذعن لحدود الشرع شهواته، وكان هذا هو المبدأ كسرًا لرعونة النفس، وأما التأديب فإنما نعني به أن يروض غيره، فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم.

 

رابعًا: الاستئناس والإيناس؛ وقد يستحب ذلك الأمر في الدين، وذلك فيمن تستأنس بمشاهدة أحواله وأقواله في الدين؛ كالأنس بالملازمين لسمت التقوى، وقد يتعلق بحظ النفس، ويستحب إذا كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج دواعي النشاط في العبادة، فإن القلوب إذا أكرهت عميت، ومهما كان في الوحدة وحشة، وفي المجالسة أنس يروح القلب فهي أولى، فلا يستغني المعتزل إذًا عن رفيق يستأنس بمشاهدته ومحادثته في اليوم والليلة ساعة، فليجتهد في طلب من لا يفسد عليه في ساعته تلك سائر ساعاته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(14)، فهذا النوع من الاستئناس في بعض أوقات النهار ربما يكون أفضل من العزلة في حق بعض الأشخاص، فليتفقد فيه أحوال القلب وأحوال الجليس أولًا ثم ليجالس.

 

خامسًا: في نيل الثواب وإنالته؛ أما النيل فبحضور الجنائز، وعيادة المريض، وحضور العيدين، وأما حضور الجمعة فلا بد منه، وحضور الجماعة في سائر الصلوات أيضًا لا رخصة في تركه، إلا لخوف ضرر ظاهر، يقاوم ما يفوت من فضيلة الجماعة ويزيد عليه، وذلك لا يتفق إلا نادرًا، وكذلك في حضور الدعوات ثواب من حيث إنه إدخال سرور على قلب مسلم.

 

وأما إنالته فهو أن يفتح الباب لتعوده الناس، أو ليعزوه في المصائب، أو يهنوه على النعم، فإنهم ينالون بذلك ثوابًا، وكذلك إذا كان من العلماء وأذن لهم في الزيارة نالوا ثواب الزيارة.

 

سادسًا: من فوائد المخالطة التواضع، فإنه من أفضل المقامات، ولا يقدر عليه في الوحدة، وقد يكون الكبر سببًا في اختيار العزلة، فكم من معتزل في بيته وباعثه الكبر، ومانعه عن المحافل أن لا يوقر أو لا يقدم، أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأتقى لطراوة ذكره بين الناس.

 

الفائدة السابعة: التجارب مع الخلق، ومعرفة مجارى أحوالهم، فإنها يستفاد من المخالطة للخلق ومجارى أحوالهم، والعقل الغريزي ليس كافيًا في تفهم مصالح الدين والدنيا؛ وإنما تفيدها التجربة والممارسة، ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب، فالصبي إذا اعتزل بقى غمرًا جاهلًا؛ بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم، ويحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب ويكفيه ذلك، ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال، ولا يحتاج إلى المخالطة، ومن أهم التجارب أن يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه، وذلك لا يقدر عليه في الخلوة»(15).

 

الضابط النافع في أمر المخالطة:

 

يقول ابن القيم: «إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهى في القلب لا تزول، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة»(16).

 

وقال بعض العلماء: «إن حكم العزلة والمخالطة تختلف باختلاف الأشخاص، فمن الناس من يتحتم عليه الأمرين، ومنهم من يترجح لديه أحدهما دون الآخر، والصحيح هو ترك الفضول لما فيه من شغل البال وتضييع الوقت؛ بشرط عدم تضييع الجمعة والجماعات».

 

يقول ابن الجوزي:«ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة‏،‏ ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل»‏(17).

 

وذكر ابن القيم رحمه الله الضابط في أمر الخلطة وأوقاتها فقال: «أن يخالط الناس في الخير؛ كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم والجهاد والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم، فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم، وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له، ومقت وذم منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين.

 

فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة وأحمد مآلًا، وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه، ويشجع نفسه ويقوي قلبه، ولا يلتفت إلى الوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك بأن هذا رياء، ومحبة لإظهار علمك وحالك، ونحو ذلك، فليحاربه، وليستعن بالله، ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه.

 

فإن أعجزته المقادير عن ذلك، فلْيَسُلَّ قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضرًا غائبًا، قريبًا بعيدًا، نائمًا يقظانًا، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم، ورقى به إلى الملأ الأعلى، يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية، وما أصعب هذا وأشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى، ويديم اللجأ إليه، ويلقي نفسه على بابه طريحًا ذليلًا، ولا يعين على هذا إلا محبة صادقة، والذكر الدائم بالقلب واللسان، وتجنب المفسدات الأربع الباقية؛ وهي: التمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام.

 

ولا ينال هذا إلا بعدة صالحة، ومادة قوة من الله عز وجل، وعزيمة صادقة، وفراغ من التعلق بغير الله تعالى، والله أعلم(18).

 

مخالطة الداعي:

 

الدعوة إلى الله من وجائب الإسلام، ومن وسائلها مخالطة الناس؛ فتكون المخالطة واجبة، لأن ما لا يؤدى الواجب إلا به فهو واجب، والواقع أن طبيعة الإسلام تقتضي المخالطة، فالإسلام ليس معنى خاصًا بالفرد؛ بل هو أيضًا عمل المسلم خارج نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن أكرمه الله بالنبوة، وأمره بالتبليغ عاش مع الناس وخالطهم، وغشي مجالسهم يدعوهم إلى الله، ويحذرهم مما هم فيه، وكذلك فعل أصحابه الكرام؛ خالطوا الناس، وبثوا فيهم ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم والدين.

 

وما روي عن بعض التابعين من استحباب العزلة، وكراهية المخالطة، فهو أمر يتعلق بأحوال طارئة، وظروف استثنائية، فليس ما ذكروه هو القاعدة التي يستهدي بها المسلمون من بعدهم؛ لأن وجوب الدعوة إلى الله أمر ثابت في الشرع، والمخالطة هي المقدمة إلى الدعوة، فلا يمكن التخلي عنها؛ بل هذا الوجوب أصبح أشد في زماننا من أي زمان مضى؛ لما غشي البشر من غاشية رهيبة قاسية من المادية الصماء السوداء، التي حجبت عنهم أنوار الحق، وقطعت صلاتهم بالله عز وجل؛ مما جعل لزامًا على كل مسلم أن يسهم في الدعوة إلى الله بقدر طاقته، وبأي نوع من أنواع القدرة يستطيعه، وهذا يستلزم مخالطة الناس ليدعوهم إلى الله.

 

وحدود المخالطة الواجبة هي ما كانت ضرورية لأعمال الدعوة إلى الله تعالى، أو أداء فروض الإسلام الأخرى، فإذا خلت من هذا المقصود زالت عنها صفة الوجوب، وصارت مباحة أو مكروهة أو حرامًا؛ فالمباحة كالمخالطة لغرض تحصيل مباح دنيوي، والمكروهة إذا فوتت على الداعي فائدة أخروية، والمحرمة إذا حملته إثمًا.

 

وعلى هذا فان المأمول من الداعي أن تكون مخالطته كلها بدافع من الدعوة إلى الله، فإذا زار شخصًا، أو تعارف معه، أو صادقه، أو رافقه، أو آخاه، أو غشي مجلسًا، أو تكلم في جمع فإنه يصدر عن رغبة في الدعوة إلى الله، أو بالإعداد والتهيئة لها(19).

 

حكم اعتزال الداعي:

 

إذا كانت المخالطة من مقدمات الدعوة إلى الله تعالى، وأن الداعي لا يستغني عنها؛ فإنه مع ذلك يحتاج إلى شيء من العزلة والوحدة والانفراد بنفسه؛ لأنه لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه، في دعائه، وذكره، وصلاته، وتفكره، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه.

 

قال الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان: «ويلاحظ في هذه العزلة شيئان:

 

الأول: أن تكون في الأوقات التي ندب الشرع فيه إلى نوع معين من العبادة؛ كالاعتكاف في رمضان، وقيام الليل، والصلاة فيه، والجلوس في المساجد انتظارًا للصلاة، فإن في هذه الأوقات والقيام فيها بعبادة الله، بالصلاة، والذكر، والدعاء نوعًا ممتازًا من العزلة والخلوة المشروعة، وهي على قصرها ذات أثر بليغ جدًا.

 

الثاني: إذا احتاج الداعي إلى عزلة أكثر مما ورد في النوع الأول؛ كأن يخلو في بيته أيامًا؛ لما يحسه من حاجة إلى هذه الخلوة للراحة، والاستجمام، ومراجعة الحساب مع نفسه، وتدارك ما فاته، فلا بأس في ذلك، بشرط أن يكون قصده من ذلك إعداد نفسه، وتهيئتها إلى المزيد من الدعوة إلى الله، فيكون مثله في هذا الحالة مثل المجاهد الذي يتحول عن ميدان القتال ليشحذ سيفه، أو يعلف فرسه، أو يصلح رمحه، أو يداوي جرحه وقلبه معلق بالجهاد، ونيته الرجوع إليه من قريب، فهو في جهاد في الحالتين، والأعمال بالنيات(20).

_____________________

(1) رواه أحمد (5022).

(2)الصبر والثواب عليه، لابن أبي الدنيا، ص85.

(3) الحسبة بين مطرقة الصبر وسندان المجتمع، مجلة البيان، العدد: 300.

(4) رواه البخاري (5809)، ومسلم (1057).

(5) المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (7/96).

(6) تقدم تخريجه.

(7) مجموع فتاوى ابن تيمية (10/425–426).

(8) رواه البخاري (6494).

(9) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي (13/34).

(10) رواه البخاري (6495).

(11) مخالطة الناس والصبر على أذاهم، ملتقى أهل الحديث.

(12) أصول الدعوة، عبد الكريم زيدان (365-366).

(13) الفوائد، لابن القيم (1/519).

(14) رواه أحمد (8028).

(15) إحياء علوم الدين (2/238-241).

(16) تفسير القرآن الكريم، لابن القيم، ص693.

(17) صيد الخاطر، ص23.

(18) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم، ص:453.

(19) أصول الدعوة، ص415.

(20) المصدر السابق، ص417-418.