logo

دور الدعاة في البناء الأسري


بتاريخ : الأربعاء ، 21 ذو القعدة ، 1440 الموافق 24 يوليو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
دور الدعاة في البناء الأسري

الداعية إلى الله شخصية مجتمعية، يخالط الناس ويتفقد أحوالهم، ويعود مرضاهم، ويشهد أفراحهم، ويشاركهم همومهم وأحزانهم.

وهناك فرق هائل ما بين المنعزل، الذي يكتفي بأن يخلو بنفسه منشغلًا بالذكر والتعبد، متصورًا أنه ينجو بنفسه ويعتزل فتن الدنيا، وبين ذلك الذي يتحرك بين الناس، ويجوب الآفاق ليدعو إلى سبيل ربه، بشتى الوسائل والأدوات لخدمة الإسلام والمسلمين.

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(1).

ولذلك كان دور الدعاة كبيرًا في تناول قضايا المجتمع عامة والأسرة خاصة، من بداية النشأة، وكيفية الاختيار، والتعرض لحقوق الأزواج والزوجات، وتناول المشكلات الأسرية، والتدخل لفض النزاعات الأسرية.

هم في المجتمع أطباء لعلاج كل مشكلة، وحل لكل معضلة.

إن واجب الداعية أن يحس بإحساس إخوانه المسلمين، من الشباب والفتيات، والأزواج والزوجات، والأسر والعائلات، ومن العامة والخاصة، والصغار والكبار، فليس من حقوق المسلم تجاه أخيه المسلم أن يغفل عن قضاياه؛ بل يجب عليه أن يعالجها وأن يناصحهم، وأن يحرص كل الحرص على أن يقدم لإخوانه المسلمين العلاج بقالب النصح والمودة، وقالب العمل والتطبيق، فلا يكفي، في مجال النصح، مجرد الكلمات، ومجرد الخطب والمواعظ والمحاضرات، ولكننا نحتاج إلى خطوات عملية؛ لذا وجب على الداعية عدة أمور لصلاح الأسرة، التي بصلاحها صلاح المجتمع وبفسادها فساد المجتمع، ومن هذه الواجبات:

الواجب الأول: الترغيب في الزواج، والحض على تيسير سبله، منطلقًا من قول ربنا جل وعلا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32].

إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة.

فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج؛ لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها، والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس، والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء، فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدًا غير مضطر.

لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تُعِين من يقف المالُ في طريقهم إلى النكاح الحلال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، وهو واجب، ووسيلة الواجب واجبة(2).

ولا يتعلل الأولياء بفقدان المال، فالله تبارك وتعالى وعد بإغناء الفقراء المتزوجين، طلبًا لرضا الله عنهم، واعتصامًا من معاصيه، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر، فإن في فضل الله ما يغنيهم، والله غني ذو سعة، لا تنفد خزائنه، ويبسط الرزق لعباده على وفق الحكمة والمصلحة، ويخص الأزواج بمزيد من العطاء، لاستمرار الحياة الزوجية، قال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى بالنكاح، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة، كلهم حق على الله عونه: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء»(3).

ثم أمر الله تعالى كلّ من يتعذر عليه الزواج، ولا يجده بأي وجه تعذّر، أن يستعفّ حتى يتيسر له الغنى، ويتفضل الله عليه بالإغناء، ولا يقنط من رحمة الله وفضله، فإن الله واسع الغنى، تام العلم بأحوال الناس، خلق الخلق وتكفل برزقهم، وإذا كان الإنسان محاطًا بعلم الله، ومزودًا بنعم الله، فلماذا يعصي ربه؟(4).

وقال عليه الصلاة والسلام: «النكاح سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام فإن الصوم له وجاء»(5).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من استطاع الباءة»، وهي لغةً: الجماعُ، والمراد بها هنا مئونة النكاح والقدرة عليه، «فليتزوج»؛ أي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمُرُ بالزواج كلَّ من كان قادرًا عليه جسميًا وماديًا؛ إحصانًا لنفسه ودينه؛ لأنه في حاجة إليه بمقتضى غريزته الجنسية التي أودعها الله فيه، فإنها إذا لم تجد لها مصرفًا شرعيًا صرفت قواها في الفواحش والموبقات، والزواج هو المصرف الشرعي لها، وهو الوقاية والحماية لها من الخبائث، كما قال صلى الله عليه وسلم: «فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج»؛ أي فإن النكاح أمنع للبصر والفرج من اقتراف الخطايا «ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»؛ أي: فإن الصوم يكسر الشهوة.

ودل هذا الحديث على الترغيب في الزواج لكل من يقدر عليه ماليًا ونفسيًا وجسميًا(6).

وقد رغب الإسلام في الزواج بصور متعددة الترغيب، فتارة يذكر أنه من سنن الأنبياء وهدى المرسلين، وأنهم القادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهداهم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].

وتارة يذكر في معرض الامتنان: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72] .

فهي الفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان، ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري، المنبثق من أصل التكوين الإنساني؛ بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون، على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله، ومن بينه هذا الإنسان.

والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة، وتفسر الحياة، وتتعامل مع الحياة(7).

وأحيانًا يتحدث عن كونه آية من آيات الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] .

والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين، وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة، ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكنًا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء.

والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطرية؛ نفسية وعقلية وجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد(8).

والمرأة خير كنز يضاف إلى رصيد الرجل، فقد روى الترمذي عن ثوبان رضي الله عنه قال لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بعَذابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34].

قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: «لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه»(9).

وروى الطبري بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من أعطيهن أعطي خير الدنيا والآخرة: قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا، وزوجة لا تبغيه خونًا في نفسها ولا ماله»(10).

وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»(11).

وقد يخيل للإنسان، في لحظة من لحظات يقظته الروحية، أن يتبتل وينقطع عن كل شأن من شئون الدنيا، فيقوم الليل، ويصوم النهار، ويعتزل النساء، ويسير في طريق الرهبانية المنافية لطبيعة الإنسان.

فيعلمه الإسلام أن ذلك مناف لفطرته، ومغاير لدينه، وأن سيد الأنبياء، وهو أخشى الناس لله وأتقاهم له، كان يصوم ويفطر، ويقوم وينام، ويتزوج النساء، وأن من حاول الخروج عن هديه فليس له شرف الانتساب إليه.

روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِروا كأنهم تقالوها، فقالوا: «وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».

قال أحدهم: «أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا»، وقال آخر: «أنا أصوم الدهر ولا أفطر»، وقال آخر: «أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا».

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما، والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(12).

والزوجة الصالحة فيض من السعادة، يغمر البيت ويملؤه سرورًا وبهجة وإشراقًا.

وقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة، تراها تعجبك، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة تلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، وثلاث من الشقاء: المرأة تراها فتسوءك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفًا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق»(13).

والزواج عبادة، يستكمل الإنسان بها نصف دينه، ويلقى بها ربه على أحسن حال من الطهر والنقاء.

فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي»(14)(15).

فوائد الزواج:

1- دفع غوائل الشهوة.

2- التنبيه باللذة الفانية على اللذة الدائمة؛ لأنه إذا ذاق هذه اللذة، وعلم أنه إذا عمل الخير وجد ما هو أعظم؛ سارع إلى الخيرات لما هو من جنس تلك اللذة، ولما هو أعظم وأتم وأبقى، وهو اللذة بالنظر إلى وجهه الكريم.

3- المسارعة إلى تنفيذ إرادة الله تعالى ببقاء الخلق إلى يوم القيامة، ولا يحصل ذلك إلّا بالنكاح.

4- تنفيذ إرادة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله: «تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة»(16).

الواجب الثاني: بيان أسس اختيار كل من الزوجين: نظرًا لأهمية عقد الزواج في حياة طرفيه ومستقبلهما، وما يتولَّدُ عنه من آثار، ندب الشارع الحكيم كل طرف منهما إلى حسن اختيار الطرف الآخر؛ بحيث تتوفر فيه مجموعة من الخصال الكريمة والصفات الحميدة، التي تحبب كل طرف في صاحبه؛ مما يجعله مألوفًا إليه قريبًا من قلبه؛ لتستمر العشرة، وتدوم المودة، وتتحقق الرحمة والسكينة التي أرادها الله تعالى للزوجين في كتابه، والتي أشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: «فإنه أحرى أن يؤدم بينكما»(17).

ومن أهم الأسس التي يجب على الدعاة تبيينها للناس:

أولًا: الدين, وذلك لما في صحيح البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها, ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»(18)؛ أي: استغنيت إن فعلت، أو المعنى: افتقرت إن خالفت، والمراد بالدين: الطاعات، والأعمال الصالحات، والعفة عن المحرمات(19).

وليس المراد بالصلاح في الرجل أو المرأة هو أداء الصلاة فقط أو الصيام فقط؛ بل هو مجموعة من الخصال الحميدة المكنونة في النفس, وما الصلاة والصيام وغيرهما إلّا قرائن، تشير إلى ما يتمتع به الإنسان من هذه الخصال, فليس هناك سعادة في الحياة تعدِلُ سعادة الزوج الذي رُزِقَ بزوجة صالحة؛ وذلك لأنها ستكون مصدرًا من مصادر الخير، فإن كان فقيرًا أغنته بزهدها وقناعتها، وإن كان غليظًا جافيًا ألانته بعطفها وحلمها، وإن كان عاصيًا كانت قدوة صالحة له بمسلكها مع ربها ومعه، وغير ذلك من الجوانب، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك.

ثانيًا: حسن الخلق، لعموم النصوص التي تحض على مكارم الأخلاق؛ ولأن النكاح يراد للعشرة, ولا تصلح العشرة مع الحمقاء ولا يطيب العيش معها، وربما تعدى ذلك إلى ولدها، وقد قيل: اجتنبوا الحمقاء, فإن ولدها ضياع, وصحبتها بلاء(20).

ثالثًا: البكارة، أي: لم يسبق لها الزواج، وقد حثَّ الإسلام على التزوج من البكر خاصة؛ لمجموعة من المزايا قلَّ أن تتوفر في المرأة الثيب، وهي التي سبق لها الزواج وخبرت الرجال؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت لو أنك نزلت واديًا فيه شجرة قد أُكِلَ منها, ووجدت شجرًا لم يُؤكَلْ منها, في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: «في الذي لم يرتع منها»، تعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها(21).

ودلالة هذا الحديث على أفضلية التزوج من البكر ظاهرة، تؤخذ من النتيجة التي سلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر مقدماتها من تلك الفصيحة البليغة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكذلك ما في الأبكار من قرب العهد بالصبا, وما يشتملن عليه من الميل إلى الفكاهة واللعب، والنظر إلى الحياة بأملٍ ورغبةٍ في الاستمتاع, وذلك واضح مما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, الذي أخرجه مسلم بروايات متعددة، كلها تدور حول المعنى السابق، ومنها رواية عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عبد الله؛ أي: والده، هلك وترك تسع بنات أو قال: سبعًا, فتزوجت امرأة ثيبًا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جابر, تزوجت؟» قال: قلت: نعم، قال: «فبكر أم ثيب؟» قال: بل ثيب يا رسول الله، قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك»، أو قال: «تضاحكها وتضاحكك», قال: قلت له: إن عبد الله هلك وترك تسع بنات أو سبعًا، وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن, فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن، قال: «فبارك الله لك»، أو قال لي خيرًا، وفي رواية أخرى لمسلم: امرأة تقوم عليهن وتمشطهن، قال: «أصبت»(22).

الحاجة قد تدعو للزواج بالثيب:

يجب علينا قبل أن نترك الكلام على هذه الصفة أن نشير إلى أن الحضَّ على تزوج البكر لا يقتضي كراهة تزوج الثيب؛ بل قد تكون للزوج أغراض لا تتحقق إلّا بزواجه من الثيب، ذات الخبرة الكبيرة بأسباب الحياة, ولا سيما إذا كان الزوج ذا عيلة، من إخوة صغار أو أطفال من زوجة سابقة، الأمر الذي لا تستطيع البكر، القليلة الخبرة في الحياة، أن تقوم به, ويشهد لذلك ما فعله جابر رضي الله عنه, الذي أوردنا حديثه آنفًا؛ إذ اختار الثيب زوجةً له ترعى أخواته بعد موت أبيه، وقد أقرَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل ودعا له بخير, وهذا على استحسان هذا التصرف من جابر ومن يحذو حذوه من المسلمين.

رابعًا: الولود، أي: تنجب الأولاد وليست عقيمًا؛ وذلك لتحقق الكثرة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمباهاة الأمم يوم القيامة بكثرة أمته, فعن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال, إلا أنها لا تلد, أفأتزوج بها؟ فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه الثانية فقال له مثل ذلك فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال له مثل ذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم»(23).

ولكن لا ينبغي أن يفهم من الحثِّ على التزوج بالولود والنهي عن التزوج بالعقيم أن ذلك عقوبة لها على وضعٍ لا اختيار لها فيه, إنما الأمر بالتزوج بالولود لأهداف شرعية، منها: تكثير الأمة، ومنها الحصول على ولد صالح، ومنها عمارة الدنيا تحقيقًا للخلافة في الأرض، وهكذا, غير أن بعض الرجال قد يكون في حاجة إلى زوجة لا تنجب لأسباب كثيرة؛ قد يكون منها أنه عقيم، أو كبير السن قد انقطع نسله، أو له مجموعة من الأولاد خلفتهم له زوجته المتوفاة، فيكون في حاجة إلى من يصلحهم ويقوم على شأنهم...، وغير ذلك من الأسباب.

خامسًا: تخفيف المهر، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يمن المرأة تسهيل أمرها، وقلة صداقها»(24), وقال عروة: «أول شؤم المرأة أن يكثر صداقها»(25).

هذه هي أهم الصفات التي تضافرت حولها النصوص الشرعية, لكن بعض الفقهاء أضاف صفات أخرى استفيدت من آثار ضعيفة، أو من بعض التجارب، أو من تأويل بعض النصوص.

سادسًا: طِيب الأصل, وذلك تأويلًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «ولحسبها»، وقد علَّلَ الحنابلة ذلك بقولهم: ليكون ولدها نجيبًا، فربما أشبه أهلها ونزع إليهم, وقالوا: «لا ينبغي تزوج بنت زنا أو لقيطة ومن لا يعرف أبوها»(26).

سابعًا: ألَّا تكون ذات قرابة قريبة, وذلك بأن تكون أجنبية, أو ذات قرابة بعيدة, ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «اغتربوا لا تُضْووا»؛ أي: تزوجوا في بعاد الأنساب لا يأتي النسل ضعيفًا.

ونقل عن الشافعي قوله: «يستحب له ألَّا يتزوج من عشيرته», قال صاحب المغني: «الأَولى حمل كلام الشافعي رضي الله عنه على عشيرته الأقربين, ولا يشكل على ذلك بتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها مع أنها بنت عمته؛ لأنه تزوجها بيانًا للجواز، ولا بتزوج علي فاطمة رضي الله عنها؛ لأنها بعيدة في الجملة؛ إذ هي بنت ابن عمه, وأيضًا بيانًا للجواز»(27).

ثامنًا: أن تكون على قدر مناسب من الجمال؛ لأنها أسكن للنفس، وأغض للبصر، وأكمل للمودة، وقد ورد في الحديث: قيل يا رسول الله، أيُّ النساء خير، قال: «التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره»(28).

قال الماوردي: «لكنهم كرهوا ذات الجمال البارع فإنها تزهو بجمالها»، وأن الإمام أحمد قال لبعض أصحابه: «ولا تغال في المليحة؛ فإنها قلَّ أن تسلم لك»(29).

تاسعًا: أن تكون عاقلة, قال الأسنوي: «ويتجه أن يراد بالعقل هنا العقل العرفي، وهو ما كان زيادة على مناط التكليف»(30).

عاشرًا: ألا يكون لها مُطَلِّق يرغب في نكاحها؛ لاحتمال تعلقها به, أو تعلقه بها؛ فيفسد ذلك عليه حياته الزوجية بسبب الصلة التي كانت بينها وبين مطلقها، واطّلاع كلٍّ منهما على أسرار الآخر وأخص خصوصياته(31).

الحادية عشرة: ما أشار إليه صاحب الدر المختار حيث قال: «ويندب كونها دونه سنًّا وحسبًا وعزًّا ومالًا، وفوقه خلقًا وأدبًا وورعًا وجمالًا».

أما دونه سنًّا، فحتى لا يسرع إليها العقم لو كانت أكبر منه، كما أن مظاهر الكبر تسرع إلى المرأة في سن يكون الرجل فيها قد بلغ أشده، وذلك في سن الأربعين, أما كونها دونه حسبًا وعزًّا ومالًا فذلك حتى تنقاد له ولا تحتقره؛ لأنها إن كانت فوقه في هذه الأمور ترفعت عليه، وهذا مشاهد في الواقع لا يحتاج إلى نصوص للاستشهاد عليه(32).

وهناك صفات أخرى تعرَّضَ لها بعض الفقهاء, لكني اكتفيت بهذا القدر من الصفات لصعوبة اجتماعها أو اجتماع أكثرها في زوجة واحدة.

ورحم الله العلامة الخطيب الشربيني إذ قال بعد أن عدَّدَ مجموعةً من الصفات المتقدمة: «وهذه الصفات كلها قلَّ أن يجدها الشخص في نساء الدنيا, وإنما توجد في نساء الجنان, فنسأل الله تعالى ألَّا يحرمنا منهن»(33).

ما يجب على الزوجة أو وليها مراعاته في اختيار الزوج:

هذه الصفات المتقدمة لا يختص بمراعاتها الزوج وحده في اختيار الزوجة حين يقدم على الزواج؛ بل تشترك في ذلك الزوجة حين يؤخذ رأيها فيمَنْ ترى أن يكون شريكَ حياتها، وكذلك ولي أمرها إن كانت قاصرًا لا تعرف حقائق الصفات المتقدمة, وقد نصَّ بعض الفقهاء على هذه المساواة، فعمَّمَ بعضهم وخصَّصَ آخرون:

فمن الأول: ما جاء في حاشية القليوبي على المحلي حيث قال بعد أن عدد كل ما طلب في حق المرأة: «كل ما طُلِب في حق المرأة للرجل يُطلَب في عكسه كذلك»(34).

ومن الثاني: ما جاء في حاشية العلامة عميرة؛ حيث قال تعليقًا على قول متن المنهاج: «كذلك يستحب للشخص ألّا يزوج ابنته إلّا من بكر؛ أي: لم يتزوج قبلها»(35).

وكذلك ما جاء في حاشية ابن عابدين: «والمرأة تختار الزوج الدَّيِّن الحسن الخلق الجواد الموسر, ولا تتزوج فاسقًا، ولا يزوج ابنته الشابة شيخًا كبيرًا, ولا رجلًا دميمًا, ويزوجها كفئًا»(36).

ويتأيد ذلك بما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أتى رضي الله عنه بامرأة شابة زوجوها شيخًا كبيرًا فقتلته، فقال: «يأيها الناس, اتقوا الله ولينكح الرجل لمته من النساء, ولتنكح المرأة لمتها من الرجال»؛ يعني: شبهها، واللمة: المثل في السن والترب(37).

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ولا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح, فإنهن يحببن ما تحبون»(38).

ثم بعد هذا كله أعطى الإسلام البنت حق الرضا بمن يتقدم إليها بكرًا أم ثيبًا، وجعل لكلٍّ علامة على الرضا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»، قالوا: يا رسول الله, وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت»(39).

ثم وصل الإسلام في تثبيته لهذا الحق أن الحاكم يعطي لها حقَّ رد النكاح إذا لم يكن عن رضًا منها, فعن نافع أن ابن عمر تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون, قال: فذهبت أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «إن ابنتي تكره ذلك»، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها, وقال: «لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن, فإذا سكتن فهو إذنهن» فتزوجها المغيرة بن شعبة(40).

كما أخرج البخاري بسنده عن خنساء بنت خذام الأنصارية, أن أباها زوَّجَها وهي ثيب فكرهت ذلك, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه(41).

الواجب الثالث: بيان الحقوق الزوجية:

إن بعض الناس يدخل في الزواج وليس عنده علم بالحقوق الشرعية لزوجته، وبعض النساء تدخل في الزواج وما عندها علم بالحقوق الشرعية لزوجها، فلا يعرف كل واحد منهما ما حق الآخر عليه؛ ولذلك يحصل الخصام والنكد والمشاجرات، التي لو كانت الحقوق الشرعية واضحة لما حصلت، وكذلك فإنه لو علمت الحقوق الشرعية لما حصل بين الزوج وزوجته كثير من المشكلات.

فرعاية تلك الحقوق تربِّي في النفس الإحساس بالمسئولية والشعور بالواجب، فيتناصح الزوجان: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، ويتعاونان معًا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ويتشاوران فيما يخالط الأسرة والحياة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].

وهذه الحقوق تغرس في النفس المودة والمحبة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].

وتربي حقوق الحياة الزوجية في النفس أيضًا الرعاية لحدود الله وأوامره، فينفقه الزوجان في الدين، ويقفان على حدود الحلال والحرام، ويحفظان أسرار الزوجية: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} [النساء:34]، ويتعامل معها الزوج بالرفق والمعروف: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] .

وهذه الحقوق الزوجية أيضًا تربي في النفس رعاية حقوق الأولاد لتأمين حق الرضاعة والحضانة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233](42).

الواجب الرابع: تفقد أحوال الزوجين والتدخل لحل المشكلات الأسرية:

عن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليًا في البيت فقال: «أين ابن عمك؟»، قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: «انظر أين هو»، فجاء فقال يا رسول الله: هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: «قم أبا تراب، قم أبا تراب»(43).

قوله: «أين ابن عمك؟» أراد به علي بن أبي طالب، وفي الحقيقة ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اختار هذه العبارة ولم يقل: أين زوجك؟، أو أين علي؟؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فهم أنه جرى بينهما شيء؛ فأراد استعطافها عليه بذكره القرابة النسبية التي بينهما.

وفيه جواز دخول الوالد في بيت ولده بغير إذن زوجها، وفيه استعطاف الشخص على غيره بذكر ما بينهما من القرابة، وفيه الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنية إذا كان ذلك لا يغضبه بل يؤنسه، وفيه مداراة الصهر وتسلية أمره في غيابه، وفيه جواز التكنية بغير الولد فإنه صلى الله عليه وسلم كناه أبا تراب، وفي البخاري في كتاب الاستئذان: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب، وإنه كان يفرح إذا دعي بها(44).

وعن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: «ما شأنك؟»، قالت: «أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا»، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: «كُلْ»، قال: «فإني صائم»، قال: «ما أنا بآكل حتى تأكل»، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: «نم»، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: «نم»، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: «قم الآن»، فصليا فقال له سلمان: «إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه»، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»(45).

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت عليَّ جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كَنّته حتى دخل عليها فقال لها: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال، [أو كخير البعولة] من رجل لم يفتش لنا كنفًا، ولم يقرب لنا فراشًا، فأقبل عليَّ فعذمني، وعضني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب، فعضلتها وفعلت، ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشاني، فأرسل إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته، فقال لي: «أتصوم النهار؟»، قلت: نعم، قال: «فتقوم الليل؟»، قلت: نعم، قال: «ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسُّ النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، ثم قال: «اقرأ القرآن في كل شهر»، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: «فاقرأه في كل عشرة أيام»، قلت: إنِّي أجدني أقوى من ذلك، قال: «فاقرأه في كل ثلاث»، ثم قال: «صُمْ في كل شهر ثلاثة أيام»، قلت: إني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني حتى قال: «صُمْ يومًا وأفطر يومًا؛ فإنه أفضل الصيام، وهو صيام أخي داود عليه السلام»(46).

قال مجاهد: وكان عبد الله بن عمرو حين ضعف وكبر يصوم الأيام كذلك، يصل بعضها إلى بعض ليتقوى بذلك، ثم يفطر بعد ذلك الأيام، قال: وكان يقرأ من أحزابه كذلك يزيد أحيانًا وينقص أحيانًا، غير أنه يوفي به العدّة، إما في سبع وإما في ثلاث، ثم كان يقول بعد ذلك: «لأن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي مما عدل به، أو عدل، لكنِّي فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره»(47).

أخرج ابن سعد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «تزوجني الزبير رضي الله عنه وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مئونته وأسوسه، وأدقُّ النوى لناضح وأعلفه، وأسقيه الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، فكان يخبز جارات لي من الأنصار؛ وكن نسوة صِدْق، قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي على ثلثي فرسخ، قالت: فجئت يومًا والنوى على رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من أصحابه، فدعاني ثم قال: «إخْ إخْ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، قالت: وكان من أغْيَر الناس، قالت: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت وعرفت غَيْرتك، فقال: والله، لحملك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه.

قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني»(48).

وعنده أيضًا عن عكرمة أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديدًا عليها، فأتت أباها فشكت ذلك إليه، فقال: «يا بنية، اصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها فلم تزوَّج بعده جمع بينهما في الجنة»(49).

وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب فقالت: «أشكو إليك خير أهل الدنيا إلا رجلًا سبقه بعمل أو عمل مثل عمله، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي»، ثم تجلّاها الحياء، فقالت: «أقِلْني يا أمير المؤمنين»، فقال: «جزاك الله خيرًا، فقد أحسنت الثناء، قد أقلتك»، فلما ولّت قال كعب بن سور: «يا أمير المؤمنين، لقد أبلغت إليك في الشكوى»، فقال: «ما اشتكت؟»، قال: «زوجَها»، قال: «عليَّ المرأة»، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: «اقضِ بينهما»، قال: «أقضي وأنت شاهد»، قال: «إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له»، قال: «فإن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} [النساء:3]، صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يومًا، وقم ثلاث ليالٍ وبتْ عندها ليلة».

فقال عمر: «لَهذا أعجب إليَّ من الأول»؛ فبعثه قاضيًا لأهل البصرة(50).

وأخرج عبد الرزاق عن ندبة مولاة ميمونة رضي الله عنها قالت: «دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما وأرسلتني ميمونة إليه، فإذا هو في بيته فراشان، فرجعت إلى ميمونة، فقلت: ما أرى ابن عباس إلا مهاجرًا لأهله، فأرسلت ميمونة بنت سرج الكِندي، امرأة ابن عباس، تسألها فقالت: ليس بيني وبينه هجر ولكني حائض، فأرسلت ميمونة إلى ابن عباس: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر المرأة من نسائه حائضًا، تكون عليها الخرقة إلى الركبة وإلى نصف الفخذ»، كذا في الكنز(51).

فينبغي أن يكون في كل حي وفي كل مسجد وفي كل مكان من يكون محتسبًا في قضايا الإصلاح للمشكلات الاجتماعية، وأن يكون مرجعًا في هذا؛ إما إمام المسجد، أو أحد الدعاة والعلماء المعروفين، وعليه أن يقوم بزيارة الجيران وتفقدهم.

حقيقة نحن نعاني من جفاء وانشغال عن مشاكل الناس، حتى بعض المنتسبين للهداية والإصلاح والدعوة ينبغي أن يعيدوا النظر في قضايا دعوتهم وإصلاحهم، فإن الدعوة لا تكون في أبراج عالية، أو بمجرد وسائل محدودة وضيقة، إنما الدعوة بالنزول إلى الميدان، وعرض كل طريق فيه إصلاح للناس، وأخذهم من طريق الشر إلى طريق الخير، فكتائب الإصلاح وقوافل الدعوة ينبغي أن تكون في كل حي.

***

______________

(1) أخرجه الترمذي (2507).

(2) في ظلال القرآن (4/ 2515).

(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (13456).

(4) التفسير الوسيط، للزحيلي (2/ 1749).

(5) صحيح الجامع (6807).

(6) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (3/ 208).

(7) في ظلال القرآن (1/ 235).

(8) المصدر السابق (5/ 2763).

(9) أخرجه الترمذي (3094).

(10) أخرجه الطبراني في الكبير (11275).

(11) أخرجه مسلم (1467).

(12) أخرجه البخاري (5063).

(13) صحيح الجامع الصغير (3056).

(14) الجامع الصغير (431).

(15) فقه السنة (2/ 11-12).

(16) شرح الخرشي على مختصر خليل (3/ 164).

(17) أخرجه الترمذي (1087).

(18) أخرجه البخاري (5090)، وأخرجه مسلم (1466).

(19) مغني المحتاج (3/ 126-127).

(20) المصدر السابق (3/ 127), وكشاف القناع (5/ 9).

(21) أخرجه البخاري (5077).

(22) أخرجه البخاري (6387)، ومسلم (715).

(23) أخرجه النسائي (3227).

(24) أخرجه ابن حبان (4095).

(25) مغني المحتاج (3/ 127).

(26) كشاف القناع (5/ 9).

(27) مغني المحتاج (3/ 127).

(28) أخرجه النسائي (3231).

(29) مغني المحتاج (3/ 127), وكشاف القناع (5/ 9).

(30) مغني المحتاج (3/ 127).

(31) المصدر السابق.

(32) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (3/ 8).

(33) مغني المحتاج (3/ 127).

(34) حاشية القليوبي على المحلي (3/ 207).

(35) حاشية عميرة على المحلي (3/ 207).

(36) حاشية ابن عابدين (3/ 9).

(37) سنن سعيد بن منصور (810).

(38) المصدر السابق (811).

(39) أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).

(40) أخرجه الحاكم (2703).

(41) فقه الأسرة، ص26.

(42) التصوير القرآني للقيم الخلقية، ص249.

(43) أخرجه البخاري (441).

(44) عمدة القاري (4/ 199).

(45) مختصر تاريخ دمشق (20/ 15).

(46) أخرجه أحمد (6478).

(47) حلية الأولياء (1/ 285).

(48) أخرجه البخاري (5224).

(49) الطبقات الكبرى (8/ 197).

(50) المصدر السابق (7/ 64).

(51) كنز العمال (27460).