logo

من دلالات صلاح السريرة


بتاريخ : الأربعاء ، 14 صفر ، 1445 الموافق 30 أغسطس 2023
بقلم : تيار الاصلاح
من دلالات صلاح السريرة

لكل إنسان باطن وظاهر، وسريرة وعلانية، فالباطن ما كتم وأسر، والظاهر ما أبدى وأظهر، والله سبحانه وتعالى يعلم السر والجهر، وما أخفى العبد وأظهر؛ فليس شيء في القلوب يخفى على علام الغيوب، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، ويقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19].

ويقول ابن تيمية: إن الظاهر لا بد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادعى باطنًا يخالف ظاهرًا فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، فكما أن الإنسان لا بد له من روح وبدن وهما متفقان فلا بد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان والظاهر للظاهر منه (1).

والأصل في المؤمن الصادق أن تستوي سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه، كما قال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النَصَف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور (2).

والإسلام حرص كل الحرص على صلاح الظاهر؛ ليبدو المجتمع مجتمعًا طاهرًا نقيًا نظيفًا طيبًا، ولكنه أيضًا اهتم أكثر بنقاء الباطن وجعل عليه المعول، فغالبًا ما يكون صفاء الباطن داعيًا ومؤديًا إلى صلاح الظاهر فالارتباط بينهما لازم.

يقول شيخ الإسلام: الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا (3).

وصلاح الظاهر يقوم على أمرين رئيسين:

حسن الخلق: وهو يشمل كل خلق حسن، وأثر محمود، في تعامله مع كل من حوله من الناس أو حتى من الحيوان.

صلاح العمل: وهو السعي في الأرض بالصلاح والإصلاح، وأداء الحق الظاهر لله ولعباده، والأمر بالمعروف وتكثيره، والنهي عن المنكر وتقليله.. فيدخل في ذلك جميع العبادات الظاهرة، والأعمال الصالحة، والتصرفات المشروعة، والأفعال المحمودة.

وصلاح الباطن: يكون بصفاء القلب ونقائه، ونظافته وطهارته من كل ما يعيب في النية أو الاعتقاد، أو فيما يبطنه الإنسان من سريرة، أو يكون في قلبه من مرض أو حسد أو ضغن.

عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان»، قالوا: صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد» (4).

إِنَّ الإسلام كما أنه حريص على صلاح ظاهر المسلم وخلقه وعمله، فكذلك هو حريص على أن يبقى قلب المسلم نقيًّا سليمًا من جميع الضغائن، وأن يكون صافيًا لكل المؤمنين السابقين والحاضرين واللاحقين.

ومن ثم جعل الشارع الكريم من علامات الإيمان دعاء المسلم واستغفاره للذين سبقوه والذين يلحقونه إلى يوم القيامة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

لذا كان لصلاح السريرة علامات ودلالات والتي منها ما يلي:

ترك ما لا يعني والانشغال بالنفس وإصلاحها:

وهذا من علامات صلاح الباطن، حيث إن صاحب السريرة الصالحة لا تراه إلا منشغلًا بنفسه وإصلاحها معرضًا عن عيوب الناس، فعنده من الإصلاحات لنفسه ما يشغله عن غيره، وتراه في إصلاح حاله مركزًا على قلبه وسريرته ساعيًا في إصلاح ما فسد منها باذلًا جهده في التخلص من الآفات التي تفسدها.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (5)، من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل واقتصاره على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه أنه يتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية شدة الاهتمام بالشيء (6).

والذي يعني المرء من الأمور ما تعلق بضرورة حياته في معاشه مما يشبعه ويرويه ويستر عورته ويعف فرجه، ونحوه مما يدفع الضرورة دون ما فيه تلذذ وتنعم وسلامته في معاده وهو الإسلام والإيمان والإحسان، وبذلك يسلم من سائر الآفات وجميع الشرور والمخاصمات، وذلك أن حسن إسلامه ورسوخ حقيقة تقواه ومجانبته هواه ومعاناة ما عداه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن أن يعوض فائته فيما لم يخلق لأجله، فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه كما مر.

 

وأخذ النووي من هذا الخبر أنه يكره أن يسأل الرجل فيما ضرب امرأته، قال بعضهم: ومما لا يعني العبد تعلمه ما لا يهم من العلوم وتركه أهم منه؛ كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه، واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره؛ كعلم الجدل، ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس، ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترأس على الأقران وتطاول عليهم؛ ونحوها من المهلكات (7).

وهذا من علامات توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن، ومن علامات الخذلان أن تجد العبد منشغلًا بعيوب الناس وآفاتهم ناسيًا نفسه وآفاتها.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يفصل في حكمة الله تعالى في قضائه وتخليته بين العبد والذنب:

ومنها: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيب نفسه، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس، هذا من علامة الشقاوة كما أن الأول من أمارات السعادة (8).

وقال في موطن آخر:

فمن عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه، أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص وعن نفسك بشهود المنة فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق (9).

وهذا لا يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإهمال دعوة الناس، وإنما المقصود ألا تنسيه دعوة الناس إصلاح نفسه والاهتمام بها ونسيان آفاتها الظاهرة والباطنة.

أصحاب السريرة الصالحة إذا رُءوا ذكر الله عز وجل:

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم بخياركم» قالوا بلى، قال: «الذين إذا رءوا ذكر الله، أفلا أخبركم بشراركم»، قالوا: بلى، قال: «المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب» (10).

فقوله صلى الله عليه وسلم: «الذين إذا رءوا ذكر الله» أي بسمتهم وهيئتهم لكون الواحد منهم حزينًا منكسرًا مطرقًا صامتًا تظهر أثر الخشية على هيئته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه، لا ينظر إليه ناظر إلا كان نظره مذكرًا بالله، وكانت صورته دليلًا على علمه، فأولئك يعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع (11).

وهؤلاء الذين تُذكر رؤيتُهم ذِكرَ الله عز وجل لا شك أنهم المؤمنون باطنًا وظاهرًا الذين صلحت سرائرهم، فألقى الله عز وجل النور والسمت الحسن على ظواهرهم ووجوههم، فأحبهم الناس، وهذا مصداق قول الله عز وجل في وصفه لأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع.

وقال السُدّي: الصلاة تحسّن وجوههم، وقال بعض السلف: من كثُرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقال بعضهم: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياء في الوجه وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس، وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.

والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، فالصحابة خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم (12).

قال غسان بن المفضل: كان بشر بن منصور من الذين إذا رءوا ذكر الله، وإذا رأيت وجهه ذكرت الآخرة، رجل منبسط ليس بمتماوت ذكي فقيه، وكان بشر رجلًا من العرب وعلم بنيه عمل الخوص (13).

وقال سيد قطب: واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم، ونضحها على سماتهم، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف، فهو أثر هذا الخشوع، أثره في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة، ويحل مكانها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلًا (14).

تعظيم الله عز وجل وتعظيم حرماته والخوف منه:

يقول الله عز وجل: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

عن محمد بن أبي موسى قال: في قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، قال: الوقوف بعرفة من شعائر الله، وجمع من شعائر الله، والبدن من شعائر الله، والحلق من شعائر الله، والرمي من شعائر الله، فمن يعظمها فإنها من تقوى القلوب (15).

فمن علامات تقوى القلب وصلاح السريرة تعظيم شعائر الله وحرماته، وذلك بتعظيم أوامره بفعلها ونواهيه باجتنابها، والمبادرة السريعة بالتوبة من الذنوب، والحياء من الله عز وجل، وهذا من علامة صحة المحبة لله تعالى؛ وضد ذلك الاستهانة بحرمات الله عز وجل، والجرأة عليها، وعدم الخوف والوجل عند تعديها، فإن هذا كله يدل على فساد في الباطن ومرض في القلب.             

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه، وربما اغتر المغتر، وقال: إنه يحملني على المعاصي حسن الرجا، وطمعي في عفوه، لا ضعف عظمته في قلبي، وهذا من مغالطة النفس، فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب المتجرئون على معاصيه ما قدَروا الله حقَّ قدره، وكيف يقدره حق قدره، أو يعظمه ويكبره، ويرجو وقاره ويجله من يهون عليه أمره ونهيه؟

هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل، وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه (16).

الغيرة على محارم الله:

ومن علامات تعظيم حرمات الله عز وجل الدالة على صلاح السريرة: الغيرة على محارم الله عز وجل إذا انتُهكت، والغضب لله تعالى حينما تتعدى حدوده؛ لأن هذا من شواهد محبته سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول ابن عقيل في الفنون:

فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلًا عن أن تتكلم ومخالفة الله سبحانه وتعالى واقعة من كل مُعاشر ومُجاور، فلا تزال معاصي الله عز وجل والكفر يزيد، وحريم الشرع ينتهك، فلا إنكار ولا منكر، ولا مفارقة المرتكب ذلك ولا هجران له، وهذا غاية برد القلب وسكون النفس، وما كان ذلك في قلب قط شيء من إيمان، لأن الغيرة أقل شواهد المحبة والاعتقاد (17).

ويجلّي الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه الحقيقة بقوله: ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس دينًا والله المستعان، وأيُّ دين وأيُّ خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟

وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتخزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.

وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل (18).

أقسام الناس في الغيرة على محارم الله:

عد ابن تيمية أقسام الناس في الغيرة على محارم الله بعد أن بين الغيرة التي يحبها الله والغيرة التي يبغضها الله، فقال: وهنا انقسم بنو آدم أربعة أقسام:

1 -قوم لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها؛ مثل الديوث والقواد وغير ذلك، ومثل أهل الإباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، ومنهم من يجعل ذلك سلوكًا وطريقًا {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28].

2 -وقوم يغارون على ما حرمه الله، وعلى ما أمر به، مما هو من نوع الحب والكره، يجعلون ذلك غيرة فيكره أحدهم من غيره أمورًا يحبها الله ورسوله، ومنهم من جعل ذلك طريقًا ودينًا، ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما أحبه الله ورسوله غيرة.

3 -وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه، فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها؛ بل يبغضون الصلوات والعبادات كما قال تعالى فيهم: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

4 -وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله هؤلاء هم أهل الإيمان (19).

التصديق بالخبر والإذعان للأمر:

وهذه العلامة يعرفها العبد من نفسه، فإذا وجدها فليحمد الله تعالى، لأن هذا هو وصف القلب السليم والسريرة الصالحة، وإن وجد ضد ذلك سواء من اعتراض على الخبر بشبهة، أو رد للأمر بشهوة فليبادر إلى إصلاح هذا الفساد وتصفية القلب قبل أن يتمكن من القلب فيهلكه ويحق الخسران على صاحبه والعياذ بالله.

والتصديق بالخبر يعني التسليم لأخبار الله لك، التي جاءت في كتابه سبحانه وتعالى، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأخبار الماضية أو المستقبلية أو الغيوب، التي حجبت العقول عن إدراكها، فيؤمن بها، ويصدق بها دون أدنى شبهة أو اعتراض.

أما التسليم والإذعان للحكم فهو نوعان:

الأول: التسليم لأحكام الله الشرعية والإذعان لها، واليقين بأنها الخير والمصلحة سواء علمت الحكمة منها أم لم تعلم، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة (20).

الثاني: التسليم لأحكام الله الكونية القدرية، واليقين بأن فيها الحكمة البالغة سواء ظهر ذلك للعقول أم لم يظهر، ولا يتعارض مع التسليم لأحكام الله القدرية، مدافعة ما أمكن مدافعته منها؛ بل إن الله عز وجل أمرنا بمدافعة أقداره بأقداره؛ كمدافعة المرض بالعلاج والجوع بالأكل، فإن لم يأذن الله عز وجل بدفعها لحكمة يعلمها فيجب حينئذ التسليم والرضا بقدَر الله عز وجل وقضائه، والحذر من أن يكون في القلب أدني شبهة، من شأنها إساءة الظن بالله عز وجل، أو الاعتراض على حُكمه فإن هذا من فساد السريرة.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذروة الإيمان: الصبر للحكم، والرضى بالقدر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للرب عز وجل (21).

سلامة القلب من الغش:

ومن لوازم الرضى والتسليم لأحكام الله عز وجل القدرية سلامة القلب من الغش والدغل والغل، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الرضى يفتح له باب السلامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًا من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم، كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى، وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم، فالخبث والدغل والغش: قرين السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضى، وكذلك الحسد: هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى (22).

قال تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وهي صورة الاستسلام الخالص، تتمثل في مجيئه لربه، وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه، والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم، ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة، والإخلاص والاستقامة، إلا أنه يبدو بسيطًا غير معقد، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات! وتلك إحدى بدائع التعبير القرآني الفريد (23).

القلب السليم سبب من أسباب النجاة يوم القيامة قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 87- 89]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والنفاق، ومن الغل والحقد والحسد.

ووصف أهل الجنة بسلامة القلب فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].

--------------

(1) مجموع الفتاوى (13/ 268).

(2) إحياء علوم الدين (4/ 391).

(3) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 92).

(4) أخرجه ابن ماجه (4216).

(5) أخرجه الترمذي (2317).

(6) تحفة الأحوذي (6/ 500).

(7) فيض القدير (6/ 13).

(8) مفتاح دار السعادة (1/ 310).)

(9) الفوائد (ص: 93).

(10) صحيح الأدب المفرد (246).

(11) فيض القدير (3/ 115).

(12) تفسير ابن كثير (7/ 342 – 343) باختصار.

(13) صفة الصفوة (2/ 222).

(14) في ظلال القرآن (6/ 3332).

(15) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 275).

(16) الجواب الكافي (ص: 99).

(17) الآداب الشرعية (1/ 95).

(18) إعلام الموقعين (2/ 164- 165).

(19) الاستقامة لابن تيمية (2/ 10).

(20) تفسير ابن كثير (2/ 349).

(21) حلية الأولياء (1/ 216).

(22) مدارج السالكين (2/ 201).

(23) في ظلال القرآن (5/ 2992).