logo

الخصائص النفسية للداعية


بتاريخ : الجمعة ، 1 رجب ، 1437 الموافق 08 أبريل 2016
بقلم : تيار الاصلاح
الخصائص النفسية للداعية

عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية, فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة, فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته, ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك, فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء(1).

من المعلوم أن واجب تبليغ الدعوة لا يتم إلا بواسطة الدعاة، وهذا دليل على وجوب إعدادهم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما أن سؤال الله للناس في الآخرة يقتضي تبليغ دين الله إليهم، والدعوة لا تبلغ وحدها، فلزم وجود دعاة يحملونها ويبلغونها للعالمين، وهكذا وجب تبليغ الدعوة، ووجب إعداد الدعاة، ولئن كانت الحاجة إلى الدعاة الأكفاء ملحة دائمًا فإن هذه الحاجة الآن أشد؛ ليتعلم المسلمون ما جهلوا من دينهم، وحتى يمكن مواجهة خطر التيارات المادية، التي اتسع نشاطها بواسطة دعاة المذاهب البشرية، والنحل المحرفة الذين دربوا على الترويج لباطلهم في ذكاء واضح، وخطة مدروسة وهدف محدد.

وليس بجائز أبدًا أن يضعف صوت الحق أمام الهوى، وتذاع الشبهات الملحدة في الناس ولا تجد من يتصدى لها ويهدمها بالحجة والبيان، إن إعداد الدعاة واجب يلتزم به المسلمون، وعلى الأمة أن تقوم به أداءً لواجب الدعوة، ووفاءً للأمانة التي لزمتهم.

لقد قدَّم الرسول عليه الصلاة والسلام المنهج التربوي الملائم للإنسان؛ لتحقيق عبوره من ظلمات الشرك والوثنية إلى الإسلام، وإن معالم هذا المنهج لتتجلَّى في مزْج الإيمان بالأخلاق والسلوك، وتربية الضمير في النفس المؤمنة اللوَّامة، والتربية على الثبات أمام المطامع والشهوات، والربط بين الإيمان بالله والعزة بالنفس، والثقة في نصر الله، والاستهانة بالزخارف ومظاهر العظمة الجوفاء، والتربية على الشجاعة النادرة، والاستهانة بالحياة، والتدريب على اقتلاع جذور العصبية الجاهلية، والتربية على تحمُّل المسئولية: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيَّته»(2)، وعلى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والتربية على الحبِّ في الله والأخوة في الله.

ويرى الداعية الكبير الشيخ أبو الحسن الندوي أن على الداعية أن يحيا هذه المعاني المهجورة في باب الدعوة، عن طريق البرامج العملية، والوسائل التربوية، والنماذج السلوكية التي يجب أن يتصيَّدها من الماضي والحاضر، من سلوك الأفراد وسلوك الجماعات(3).

ضرورة تمتع الداعية الإسلامي ببعض الخصائص النفسية:

التربية النفسية والإيمانية للداعية لها أثر كبير وفعال لدفعه للقيام بأعمال البر والخير, وهي من شأنها أن تزيد من رصيده عند المدعوين؛ فتتمثل فيه صفات الداعي المتزن المؤمن بالله, المخلص له, الجريء على الحق, الصابر على الأذى, المتفائل صاحب القوة الإيجابية الفعالة؛ فالداعية هو أولى الناس بأن يتحلى بشخصية متوازنة شاملة؛ لأنه حجر الزاوية في حياة الكثيرين.

والداعية بحاجة إلى الاستقرار في صحته النفسية، فلا بد أن يكون ميزان الصحة النفسية لدى الداعية عاليًا جدًا؛ وذلك بتطبيقه لتعاليم الدين الإسلامي بشكل صحيح.

فالداعية يجب ألًا يفتقد للاتزان النفسي؛ وعليه أن يتحلى بأخلاقيات المسلمين؛ مثل: الصبر، واللين، وتقبل الآخرين بكل ما فيهم من عيوب، كذلك عليه افتراض حسن النية للآخرين والتماس الأعذار لهم, فكل هذه المفاهيم تصنع منه داعية متميزًا يكون قدوة لغيره, كما تمكنه من التأثير على الأفراد وجذبهم لدعوته, ولزيادة قوة التأثير لدى الداعية وجب أن تطابق أقواله أفعاله, وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الآخرين؛ لأنه هو الملجأ لكثير من الناس لحل مشاكلهم، ومساعدتهم في تخطي صعوبات الحياة، فعليه أن يقف بجانب نفسه حتى يتمكن من الوقوف بجانب الآخرين.

والرحمة تهون على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر إليهم من مستوى عال رفيع، أوصله إليه إيمانه بربه وصلته به؛ ولذا فهو ينظر إليهم كصغار يعبثون, والشأن في الصغار العبث والجهل وعدم الإدراك لما ينفعهم؛ ولذلك لا يعجب الداعي من مقابلة نصحه لهم بالإعراض والصدود والأذى, ولكنه يعيد الكرة عليهم ومعهم، ويتحمل أذاهم ويدعو لهم بالهداية.

على الداعي إلى الله سبحانه أن يعفو، وأن يغفر وأن يسامح، وأن يتصف بالحكمة في المعاملة مع الناس، ومع المجتمع الذي هو فيه, وأن يقيس المصلحة والمفسدة في كل عمل يعمله، حتى وإن كان عمل خير أو أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر.

عن ميمون بن مهران أنه قال: «سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره, وإن كان نظيري تفضلت عليه, وإن كان دوني لم أحفل به, هذه سيرتي في نفسي, فمن رغب عنها فأرض الله واسعة»(4).

والدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة, وتظهر الحكمة في معرفة المناسب لكل مجتمع من أساليب الدعوة مما يتلاءم مع عاداته وصفاته وأحواله, وكذلك المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس, والداعية الحكيم لا يقول كل ما يعرف لكل من يعرف, وهو يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها.

وقـد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: «اللهم علمه الحكمة»(5), وقد فهم ابن عباس رضي الله عنهما قول الله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فقال: «كونوا حكماء فقهاء», وقال الحافظ: «والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره».

يلعب الداعية دورًا كبيرًا في التأثير على نفسية المدعوين؛ فالداعية إذا تحلى بالاتزان والتوافق مع المجتمع كان إنسانًا متزنًا في تصرفاته وعلاقاته مع الآخرين، ذلك كله سينعكس إيجابيًا على نفسية وسلوك الناس.

من هنا نقول أن الثقة التي يزرعها الداعية بالناس، من خلال تعامله معهم ومراعاته لاحتياجاتهم، سيكون محط ثقة لكثير من الناس, كذلك حرصه على استخدام الأسلوب الأفضل في التأثير على الناس سيقربه منهم، ويصبح لديه تأثير قوي على من حوله، كما على الداعية إذا أراد أن يستمر في التأثير على الناس لا بد أن يتحلى بالصبر والقدرة على الاستماع للآخرين، والمسارعة في حل مشاكلهم, بذلك يكون باستطاعته تغيير كثير من المعتقدات والمفاهيم الخاطئة.

أهم الخصائص النفسية التي يجب أن تتوافر لدى الداعية الإسلامي:

أن يتمتع الداعية المسلم بالاستقرار، والثبات، والتوازن، والمرونة النفسية، والقبول، والقدوة الحسنة، والحلم، والصبر، واللين، والتواضع, والصدق، والإخلاص، والدعوة إلى الله على بصيرة، والحلم، والرفق، واللين، والصبر، والرحمة، والعفو، والصفح، والتواضع، والوفاء، والإيثار، والشجاعة، والذكاء، والأمانة، والحياء المحمود، والكرم، والتقوى، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والتفاؤل، والنظام والدقة والمحافظة على الوقت، والاعتزاز بالإسلام، والعمل بما يدعو إليه؛ ليكون قدوةً صالحةً، والزهد، والورع، والاستقامة، وإدراك الداعية لما حوله، والقصد والاعتدال، والشعور بمعية الله، والثقة بالله تعالى، والتدرج في الدعوة، والبدء بالأهم فالمهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بذلك معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن.

كما ينبغي للداعية أن يبتعد عن كل ما يضاد هذه الأخلاق من الأخلاق القبيحة.

ومن الأمور المهمة، التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، معرفة القواعد والضوابط التي يجب مراعاتها والسير على ضوئها؛ حتى يكون الداعية مسددًا في دعوته، ومن ذلك قول سفيان الثوري: «لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به، عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به، عالم بما ينهى عنه»(6).

وقال الإمام محمد المقدسي: «قال بعض السلف: لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه»(7).

وهذه الخصائص النفسية كلها متجمعة لازمة لنجاح الداعية؛ فالدعاة في حياتهم وعبر التاريخ وجدوا من العناء الكثير، وصبروا على الدعوة؛ لذا إذا لم تكن هذه الخصائص متواجدة في شخصية الداعية لن يستطيع أن يستمر, وعليه أن يتدارس القرآن؛ لأنه كتاب شامل لكل زمان ومكان.

من أهم الخصائص التي يجب أن يتمتع بها الدعاة هي:

أ- الإيمان العميق:

الإيمان هو الركيزة الأساسية للداعية، وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه كله، والواجب أن تكون صلته بالله أوثق، ومعرفته به أوضح، وشعوره بجلاله أقوى، وارتباطه بمنهجه أشد.

إن هذا الإيمان يعني التسليم التام لله؛ لأنه النافع الضار، المعز المذل، وأنه لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، كما ينبغي التيقن بأن دين الله حق كله، لا يحتاج لجدل، ولا يقبل شكًا ومراجعة، ومن ثم يثبت هذا الإيمان عنده ولا يتزعزع مهما كانت الشدائد، ومهما قوي الأعداء، وكثر الخصوم.

ويجب أن يكون إيمان الداعية إيمانًا تفصيليًا على الأدلة والحجة، وأقرب طريق لتأكيد هذا الإيمان مداومة النظر في القرآن الكريم، والعكوف على تلاوته وحفظه وتدبر معانيه وتنفيذ تعاليمه، وتبيين أحكامه من خلال دراسته للسنة المطهرة.

ونتائج هذا الإيمان تفيد الداعية وتعينه على الدعوة؛ لأنه به يحب الله، ويصير محبوبًا من مولاه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة:165]، وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وحب المؤمن لله عبارة عن استغراق مطلق في الطاعة، وتسليم تام بكل ما يجد ويحدث، وحب الله للمؤمن يكسبه إعانته وهدايته، والأخذ بيده نحو الحق والخير، وهذا الحب يستتبع الثقة بالضرورة؛ لأن الداعية ما دام اعتقد الحق وآمن به، والتزم في كل حياته أوامر الله ونواهيه فإنه يثق حينئذ أن كل ما يحدث له ومعه جزء من الحكمة الإلهية الشاملة.

والإيمان يعين على الدعوة أيضًا؛ حيث يندفع الداعية نحو الإخلاص والعمل ودعوة الناس بلا انتظار أجر مالي، أو الحصول على كسب دنيوي، وكل القصد هو طاعة الله وكسب رضاه بالدعوة؛ لأنه يؤمن بأن أحسن الأقوال وأفضل الأعمال ما كان للدعوة وفي سبيلها.

وإن حدث وَجُوبِه الداعية بمعوقات، تقف بينه وبين النجاح في الدعوة، فإن الإيمان يمده بطاقة من التحمل والصبر تجعله يستصغر كثرة الخبيث، ويستهين بقوة الأعداء، ولا يخشى في الله لومة لائم، أو جور ظالم، ويرفع في الناس شعاره، وهو قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام:164]، هكذا الإيمان الصادق يوجد الحب والثقة، ويحقق الإخلاص والتحمل، وعلى الداعية أن يتصف به.

ب- العلم الدقيق:

دور الداعية يحتاج إلى العلم الوافر والأفق الواسع؛ لأنه يوضح الدين، ويبين للناس سمو مبادئه ونظمه، ويرد الشبهات التي تثار أمامه، ومن هنا كانت حاجته إلى التحصيل الدائم، والمعرفة الشاملة.

وطبيعة الإسلام تتطلب من الدعاة أن يكونوا علماء فاقهين؛ لأنه دين يؤخذ من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكلاهما يحتاج إلى القراءة المستمرة، والتدبر الواعي، والفهم السليم، كما أن تبليغ الإسلام يحتاج إلى معرفة الناس، ومعرفة أمثل الطرق لتوجه إليهم وإقناعهم، وأهم جوانب علم الداعية ما يلي:

1- العلم بالدعوة: عمل الداعية نشر الدعوة؛ ولذا كان العلم بها من أساسيات علم الداعية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والدعوة بكافة جوانبها تعرف بمعرفة القرآن الكريم والسنة النبوية، وعلى الدعاة أن يتخذوها زادًا لهما، فيعيشون مع القرآن تلاوة وحفظًا وفهمًا، ومع السنة قراءة وتدبرًا وحفظًا، ومع سائر العلوم الإسلامية التي قدم فيها سلفنا الصالح الدراسات العديدة؛ كعلوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة، وبذلك يفهمون الدعوة، ويتمكنون من تبليغها للناس.

2- العلم بالمدعوين: يتنوع المدعوون تنوعًا واضحًا بسبب ما بينهم من اختلاف، ومخاطبة كل نوع يحتاج لطريقة معينة؛ لأن ما يؤثر في جماعة لا يؤثر في غيرها؛ ولذا وجب على الداعية أن يعلم خصائص من سيدعوهم من ناحية العادات والتقاليد والمذاهب والاتجاهات السائدة فيهم.

ويعتبر العلم بالمدعوين من أهم جوانب علم الداعية في العصر الحديث؛ لكثرة المذاهب الوضعية وانتشارها ونشاط دعاتها، وتطاولهم على الواقع وادعاءاتهم الكاذبة في أنهم يمثلون الحق والمستقبل السعيد للناس، ولأن الداعية بهذا العلم يمكنه من مجابهته الباطل ودحضه، ورد مفترياته بما في دعوته من حق ووضوح، ويساعد الداعية في هذا الجانب بعض العلوم الحديثة؛ كعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، وعلم مقارنة الأديان، وعلم الجغرافية البشرية، وتاريخ العمران والحضارة، إلخ.

3- العلم بوسائل الخطاب: وسائل تبليغ الدعوة عديدة، ولكل منها منهج، ولا بد للداعية من معرفة هذه الوسائل، وعليه أن يتقن الطريقة المثلى لتطبيق كل وسيلة مع المخاطبين بعد إعدادها وتنظيمها.

إن وسائل الدعوة عديدة، وقد أضاف العلم الحديث إليها العديد من الوسائل، حتى عدت المسرحية الهادفة، والتمثيلية المعبرة، والراديو والصحف وسائل يمكن بواسطتها تبليغ الدعوة إلى الناس.

وبهذا العلم، المحتوي على معرفة الدعوة، ومعرفة المدعوين، ومعرفة وسائل الخطاب يكتمل للداعية الجانب المعرفي الذي يحتاج إليه لأداء الواجب.

جـ- الخلق المتين:

الداعية أخ للمدعوين، استظهر عليهم بالنصح والتوجيه، وحاجته إلى تقديرهم له وثقتهم فيه واضحة، ولا يمكنه ذلك إلا بالخلق الكريم البادي من احترامه للناس، وتقديرهم، والصدق معهم، والكرم في معاملتهم، والأمانة الشاملة في سائر ما يكون معهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»(8).

إن الأخلاق فوق أنها كمال ذاتي للداعية فهي مدعاة لتبوئه قيادة الناس وتوجيههم، وللدعاة في ذلك أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد تمتع بالخلق، واشتهر في الناس بالصدق والأمانة، والحلم والعفو والكرم وحب الخير للناس، وصدق الله تعالى وهو يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وهكذا يجب أن يكون الدعاة(9).

د- الثقة بالنفس والاعتداد بقدراتها:

عدم الثقة بالنفس نوع من العجز لا يرتضيه الإسلام، فإن المسلم مطالب بالإقدام وبذل الأسباب، ثم تفويض الأمور إلى الله تعالى والتوكل عليه، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»(10).

وإذا كان عدم الثقة بالنفس خلقًا ذميمًا، فهو ليس مرادفًا للتواضع ولا مظهرًا من مظاهره؛ لأن التواضع خلق محمود، وهو لا ينافي الثقة بالنفس، ويكفي دلالة على ذلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان متواضعًا مع شجاعة وإقدام وتوكل على الله في كل ما هو من أمور الخير.

ولنذكر هنا عبارة نافعة ذكرها ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل حيث قال: «إذا ثبت التواضع في القلب ثبت فيه جميع الخير، من الرأفة، والرقة، والرحمة، والاستكانة، والقنوع، والرضى، والتوكل، وحسن الظن، وشدة الحياء، وحسن الخلق، ونفي الطمع، وجهاد النفس، وبذل المعروف، وسلامة الصدر، والتشاغل عن النفس، والمبادرة في العمل بالخير، والبطاء عن الشر»(11).

هــ- قوة العزيمة ومضاء الإرادة وحب المغامرة:

والمراد به: بذل الجهد في تصديق القول بالفعل في امتثال أمر الله، وترك نهيه، وترك التكاسل عن طاعته عز وجل، ولا يكون هذا إلا إذا كان هناك إيمان؛ ذلك أن الصدق في الفعل ثمرة التصديق في القلب.

قال ابن القيم رحمه الله: «ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربَّه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه، وفي فعله، قال تعالى: {فإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْرًا لَهُم} [محمد:21]، فسعادته في صدق العزيمة، وصدق الفعل، فصدق العزيمة: جمعها، وجزمها، وعدم التردد فيها؛ بل تكون عزيمة، لا يشوبها تردد، ولا تلوُّم، فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل، وهو استفراغ الوسع، وبذل الجهد فيه، وألا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور، ومَن صدَق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره، وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص، وصدق التوكل، فأصدَقُ الناس مَن صح إخلاصُه وتوكله.

رب ذو إرادة أمر عبدًا ذا إرادة، فإن وفقه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به، وإن خذله وخلاه وإرادته ونفسه، وهو من هذه الحثيثة لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعه، فهو من حيث هو إنسان لا يريد إلا ذلك؛ ولذلك ذمه الله في كتابه من هذه الحثيثة ولم يمدحه إلا بأمر زائد على تلك الحثيثة، وهو كونه مسلمًا ومؤمنًا وصابرًا ومحسنًا وشكورًا وتقيًا وبرًا ونحو ذلك، وهذا أمر زائد على مجرد كونه إنسانًا وإرادته صالحة، ولكن لا يكفي مجرد صلاحيتها، إن لم تؤيد بقدر زائد على ذلك، وهو التوفيق، كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك، إن لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها»(12).

و- القدرة العالية على تحمل المسئوليات:

الإنسان مخلوق مسئول، وما منحه الله تعالى إياه من نعم ومظاهر التكريم إنما هو مقتضى من مقتضيات المسئولية ومناطها، وليست ممنوحة لذاتها، والإنسان محور هذا الكون، ومسئول عن تنمية الحياة على الأرض، ولأنه مخلوق حباه الله تعالى من الهبات ومظاهر التكريم؛ لكي تتحرك همته نحو مسئوليته في عمارة الأرض، والقيام بمهام الخلافة والعبادة والأمانة، وأن يكون ما كرمه الله تعالى عونًا له عليها.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان المجتمع، فالمجتمع الذي لا يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهدد بالمخاطر، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة:78-79].

كما أن أهل العلم بصفة خاصة تقع على عاتقهم هذه المسئولية العظيمة، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].

وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159-160].

وعلى أئمة المساجد وخطباء المنابر تقع مسئولية عظيمة، فإن خطبة الجمعة أداة فاعلة في توجيه المجتمع وتحريكه، فمتى ما كان الخطيب موفقًا في اختيار الموضوع، متفاعلًا معه، مؤمنًا بقضيته، ويهمه أن يحرك لها الناس، كان قائمًا بالمسئولية، ومتى جعل من خطبة الجمعة وظيفة يؤديها، وهو غير مكترث لها، كان مضيعًا للمسئولية(13).

ز- معرفة الخصائص النفسية للمتربين:

النفوس تختلف وتتباين، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين؛ إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات، ولهذا شاهد من السيرة النبوية؛ فعن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالًا وترك رجالًا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فوالله، إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب»، قال عمرو بن تغلب: «فوالله، ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم»(14).

فتأمل نفاذ نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في معرفة خصائص أتباعه، وتربية كل منهم بما يناسب فطرته وميوله ودوافعه الخاصة به، وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب؛ حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم.

***

_________________

(1) أخرجه البخاري (3149).

(2) أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).

(3) التكوين النفسي والتربوي للداعية، شبكة الألوكة.

(4) حلية الأولياء (4/85).

(5) أخرجه البخاري (3756).

(6) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص50.

(7) مختصر منهاج القاصدين، ص129.

(8) انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2661).

(9) كيفية إعداد الداعية، للدكتور أحمد أحمد غلوش، شبكة أنا المسلم.

(10) أخرجه مسلم (2664).

(11) المدخل (3/71).

(12) الفوائد، ص186-187.

(13) المسئولية، موقع: الألوكة.

(14) أخرجه البخاري (923).