logo

مقاصد الخطاب الدعوي


بتاريخ : السبت ، 9 جمادى الأول ، 1444 الموافق 03 ديسمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
مقاصد الخطاب الدعوي

من أهم مقاصد الخطاب الدعوي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة.

والحديث عن المقاصد وعلاقتها بالخطاب الدعوي، حديث عن المنهج الدعوي الأنسب لكل فترة زمنية ولحظة تاريخية، ولكل مكان وبقعة جغرافية، ذلك أن المقاصد روح هذه الشريعة، وقلبها النابض، والمعايير التي يقاس عليها صلاح الأعمال وفسادها، وكذا سداد المناهج وانحرافها، وسلامة الخطاب من خطأه، وقوته من ضعفه.

وحديث عن منهج يمكِّن من امتلاك القدرات والمهارات والأدوات المعرفية والمنهجية التي تعصم من الزلل والوقوع في الخطأ، والتي تمكن من التعامل بسلامة تحليلية وسلوكية مع المواقف والآراء والاتجاهات، والتي تزودنا بشبكة ذهنية تساعد على تحليل المعطيات، وغربلة الروايات والأخبار، ورد الشبهات والادعاءات، وفهم المواقف والتصرفات.

مفهوم المقاصد وأنواعها:

يراد بمقاصد الشريعة: الحِكَم التي مِنْ أجل تحقيقها ولإبرازها في الوجود خَلَقَ اللّٰه تعالى الخَلْق، وبعث الرسل، وأنزل الشرائع وكلّف العُقلاء بالعمل أو التَرْك، كما يُراد بها: مصالحُ المكلّفين العاجلة والآجلة الّتي شُرعت الأحكام مِن أجلِ تحقيقها.

وعرف الإمام الطاهر بن عاشور المقاصد بالمعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، وتختلف بحسب الاعتبارات:

باعتبار تعلقها بعموم الأمة وخصوصها؛ وتنقسم إلى عامة كحفظ النظام وعمارة الأرض، وخاصة ترتبط بأبواب ومجالات محددة في العبادات والمعاملات، وجزئية ترتبط بكل حكم على حدة.

وباعتبار الحاجة إليها؛ تنقسم إلى مقاصد ضرورية لا غنى عنها ولا تستمر وتستقر الحياة بدونها، كالضروريات الخمس والعدل والأمن وغيرها من المقاصد الحافظة لاستقرار الأمة واستمرارها، ومقاصد حاجية، يعيش الإنسان في حرج بغيابها، ثم مقاصد تحسينية لا يتعب الإنسان بدونها لكنها مما يكمل الحياة ويحسنها في مختلف جوانبها.

ثم باعتبار القطع والظن؛ وتنقسم إلى مقاصد قطعية لا خلاف في حصولها، كالجهاد لحماية الدين، والقصاص لصيانة العقول والأعراض والأموال، ومقاصد ظنية يختلف الناس حول تحققها لاختلاف وجهات النظر، واختلاف التقديرات للمصالح المترتبة عنها..، ثم مقاصد وهمية تزينها الأنفس بغرض استباحة المحضور، والتحايل على المشروع.

وهي أنواع مفصلة في كتب المقاصد وأبوابها، غير أن ما يهمنا في الحديث عن المقاصد، ليس جانب التشريع الفقهي، أو استصدار الأحكام في الحلال والحرام وغيرها، بل الحديث عنها كثقافة ومنهج يعصم الفاعل في مختلف مجالات الفعل من الوقوع في الزلل، والانحراف، أي الحديث عنها كمنهج يسدد النظر والفعل والخطاب.

فالمقاصد إلى عهد الإمام الشاطبي لم يهتم بها كثقافة ومنهج؛ بل كانت علم مدرج ضمن أبواب أصول الفقه، وبعد الإمام الشاطبي استقل علم المقاصد، وتميز عن أصول الفقه، ليظهر الاهتمام به في مختلف أبواب المعرفة كمنهج وثقافة، فما الحديث عن الأهداف والاستراتيجيات والغايات في مجال التربية والسياسة والاقتصاد والحروب إلا حديث عن المقاصد في هذه المجالات.

فأصبحت المقاصد بذلك منهج لفهم القرآن الكريم، وإدراك معانيه وحقائقه، وتفصيل مجمله وتخصيص عامه، ورد جزئياته إلى كلياته، ومتشابهه إلى محكمه، ومطلقه إلى مقيده، والمساعدة على إدراك منظومة قيمه، ومنهج لتنزيل أحكام الشرع على الواقع الحي والمتحرك، بل أصبحت خطوة لا مناص منها لسلامة تنزيل الحكم الشرعي على الواقع، ومنهج لا غنى عنه لحسن التخطيط في مختلف المجالات، ومرجعًا لا محيد عنه للتقييم والتقويم.

فالمقاصد الشرعية التي كتب فيها فقهاء الإسلام بدءًا من الجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي تختلف اختلافًا تامًا عن هذه المقاصد التي يُشِيع كثير من الناس الحديث فيها؛ فالمقاصد عند فقهاء الإسلام قواعد كلية مستخرَجة من استقراء كلي لكافة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصح أن يُردَّ بها أيُّ حكم أو نص جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترِجم المقاصدَ التي تريدها (نفوسهم) وتميل إليها (اختياراتهم) ويسعون من خلالها لرد جملة من النصوص والأحكام غير المرغوب فيها.

من هنا تتجلى أهمية المقاصد ليس كعلم شرعي يساعد على استنباط الأحكام الشرعية للنوازل والحوادث المستجدة فحسب؛ بل كعقلية وثقافة تساعد على تفادي التخبط في الأحداث، والظلال والزيغ في المناهج والخطابات والأعمال، إذ لا يمكن تصور فعل أو خطاب لا يستحضر المقاصد كأهداف، والمقاصد كمنهج وتصور في عملية التفاعل أو تنزيل الخطابات، فالمقاصد كعقلية ومنهج وسلوك وثقافة، ينعكس أثارها وثمارها على مختلف مناشط حياة الإنسان الدينية والدنيوية، إذ لا تترك مجال إلا وتصله وتشمله (1).

والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع اللبنة الأولى للمقاصد الإسلامية من خلال سيرته العطرة، وهذا ما نجده ملموسًا في أقوله وأفعاله، وهذه بعض الأحاديث الدالة على ذلك:

عن سعد رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: «لا» قلت: فالشطر؟ قال: «لا» قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، ومهما أنفقت فهو لك صدقة، حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك، ولعل الله يرفعك، ينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون» (2).

قال ابن بطال: فدل هذا أن ترك المال للورثة خير من الصدقة به، وأن النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة (3).

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» (4)، قال ابن حجر: خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي من تركها بترك اتباعه (5).

ومن ذلك عدم قتاله للمنافقين، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا في غزاة - قال سفيان: مرة في جيش- فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة» فسمع بذلك عبد الله بن أبي، فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (6).

فكان بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين ينكرون عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «كيف ترى؟» (7).

سياسة عظيمة وحزم وافر، لأن الناس يرون الظاهر، والظاهر أن عبد الله بن أبي كان من المسلمين ومن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو عوقب من يظن خلاف ما يظهر لم يعلم الناس ذلك الباطن، فينفرون عمن يفعل هذا بأصحابه.

وخلاصة الأمر أن النبي قد استعمل المقاصد وراعاها وهذا من مقتضى الرسالة.

الخطاب الدعوي:

من أهم حقول المعرفة التي يرتبط بها الدرس المقاصدي حقل الدعوة إلى الله، والذي يطغى فيه الخطاب، باعتباره الأداة المركزية في التواصل بين الفاعلين في هذا الحقل، دعاة ومستهدفين، والحديث عن الخطاب الدعوي يقتضي مراعاة جانبين كما هو معلوم في هذا المجال:

جانب المصدر الشرعي والمتمثل في النص القرآني والحديثي ومختلف المصادر الأصلية والتبعية من إجماع وقياس، واستحسان، واستصحاب، ومصالح مرسلة.

والجانب الثاني يرتبط بالفعل البشري، أي فعل المجتهد، أو الداعية تجاه المصدر الشرعي والواقع الاجتماعي بمختلف تحدياته، وتجلياته، وتفاعلاته، ومتغيراته.

ويتعلق الفقه المقاصدي بالعنصر الثاني من الخطاب الدعوي، لأن الداعية يتعامل مع نص ثابت، وواقع متغير يختلف باختلاف أحوال الناس وبيئتهم، وأزمانهم، وثقافاتهم، ومستوياتهم المعرفية والاجتماعية.

ولا بد أن نعلم أن الشريعة جاءت رحمة للناس في الدنيا والآخرة، إذ الشريعة كما قال الإمام بن قيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين: مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها (8)، وهو أمر أكده شيخ المقاصدين الإمام الشاطبي بعده في قوله: إن وضع الشريعة إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا، والمقصود بالمصلحة جلب المنفعة ودفع المضرة، وهي اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها (9).

ولا بد من الإشارة أن ليست هناك مصلحة خالصة، وهو أمر أكد عليه الإمام القرافي في قوله: استقراء الشريعة يقتضي أن ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلت على بعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة وإن قلت على بعد، وقد قال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]، كما أن المصلحة ليست مطلقة وغير مقيدة بشروط، بل تندرج ضمن الأصول الكلية والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ولا تتعارض مع نص قطعي، ولا تعتبر إلا إذا كانت حققيه غير وهمية، وعامة ليست خاصة (10).

فالمصلحة مراعاة في مختلف الأحكام الشرعية، بل شرعت الأحكام لحفظها وحمايتها، وداوم استمرارها في الدنيا والآخرة، لذلك وجب مراعاتها كذلك في الفعل البشري، وخاصة في الخطاب الدعوي، أو الفعل الدعوي عامة، وهذا لن يتحقق في غياب الفقه والثقافة المقاصدية، وهو أمر يستدعي توفر مجموعة من القواعد المقاصدية الضابطة والموجهة للفعل والخطاب.

علاقة الخطاب الدعوي بفقه المقاصد:

من المصالح المرجوة في الخطاب الدعوي هداية الخلق والأخذ بأيديهم إلى رحمة الله، وطريق الله، وسعادة الدنيا والآخرة، وهي مصالح نصت عليها النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ودلت عليها السيرة النبوية، إذ ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، وهي مصالح تستدعي جهد جهيد، وعمل رشيد، وعطاء سديد، وهي أهداف تحتاج للتحقق إلى ثقافة مقاصدية، ومنهج مقاصدي، وهو الذي يتطلب مراعاة الضوابط المقاصدية التالية:

مراعاة أحوال الناس وأعرافهم:

إن الداعية رسول للناس، ويخاطب الناس، ولا يخاطب نفسه، فكان لزامًا عليه أن يراعي أحوالهم ومستوياتهم الفكرية والمعرفية، وكذا الاجتماعية والبيئية، فلسانه لسان حالهم، وخطابه ينبغي أن يلامس جراحهم، ويعالج همومهم، وينخرط في حل مشاكلهم باللغة التي يفهمونها، والتعابير التي يتقنونها، ولنا في المصطفى عليه السلام خير مثال، فإجاباته عليه الصلاة والسلام اختلفت للسائلين سؤالًا واحدًا، فهذا يحثه على الصلاة، والأخر يأمره ببر الوالدين، والثالث بالجهاد.. كل حسب حاجته..

وهو نهج صحابته، فقد جاء أن عبد الله بن عباس سئل في مجلس واحد من شخصين مختلفين: هل للقاتل توبة، فأجاب إجابتين مختلفتين، إنها النظرة الفاحصة لأحوال الناس، والتي تساعد على إعطاء الحكم المناسب للحالة المناسبة، والخطاب السليم للوضع المناسب، فكثير من الخطابات تزل الطريق لجهلها بأحوال الناس، وتنحرف عن السداد لعدم مراعاتها لأعراف الناس واختلاف عاداتهم باختلاف بيئاتهم العامة أو الخاصة، فخطاب أهل المغرب ليس الخطاب المناسب لأهل المشرق لاختلاف العادات والأعراف والتحديات، بل خطاب الشباب الجامعي ليس الخطاب المناسب لمحترفي النجارة أو الحدادة أو غيرها من فئات المجتمع، ولعل هذا ما جعل علماء الإسلام يضعوا ضمن أصولهم في استنباط الأحكام، أعراف الناس وعاداتهم التي لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا، فكانوا أكثر ارتباطًا بواقعهم وبيئتهم، يقدمون الإجابات الشرعية، المناسبة للنوازل الحادثة، ولا يقتصرون على الأحكام النظرية المستمدة من ظواهر النصوص وألفاظها.

ويستمد العرف في الشريعة الإسلامية قوته وأساس إلزاميته من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في كتاب الله: قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

ومما يعتمد أساسًا في هذا الباب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي جناح أن أخذ من ماله سرًا؟ قال: «خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف» (11)، فأحالها على العرف فيما ليس فيه تحديد شرعي (12).

هذه الأصول تم اعتمادها في إثبات إلزامية وحجية العرف كمصدر من مصادر التشريع، وأصل من أصول الاستنباط يعتمد حيث لا يوجد نص شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فاتسع مجاله لحركية الحياة وتعدد أحداثها، ولمرونة الشريعة وتماشيها مع مصالح الخلق في الحال والمآل، تجلى ذلك في نتاجات المذاهب الفقهية التي قعدت قواعد في هذه المسألة ففي المذهب الحنفي يقول السرخسي: الثابت بالعرف كالثابت بالنص (13).

والقاعدة الفقهية العادة محكمة، وقاعدة استعمال الناس حجة يجب العمل بها، وقاعدة المعروف عرفًا كالمشرط شرطًا، وقاعدة المعروف بين التجار كالمشروط بينهم.

فهذه المجموعة من القواعد الفقهية المعروفة -بغض النظر عن الفروع والجزئيات المختلفة تحت كل منها- فإنه يمكن أن نضعها جميعًا تحت عنوان نظرية العرف، فإن العرف هو الطابع العام الغالب على جميع هذه القواعد المذكورة (14).

وفي المذهب المالكي جاء عن ابن العربي في شأن أهمية العرف: إن ما جرى به العرف فهو كالشرط حسبما بيناه في أصول الفقه؛ من أن العرف والعادة أصل من أصول الشريعة يقضي به في الأحكام.

هذا شريطة أن يكون العرف طبعًا مستقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، ولا يخالف نصًا شرعيًا صريحًا.

إن مراعاة أعراف الناس وعاداتهم وأحوالهم في الخطاب الدعوي مرتكز مهم لسلامة الخطاب، ومنطلق أساس لسداده، ومرجع لا غنى عنه لتعديله وتقويمه بما يتناسب والمتغيرات الاجتماعية والبيئية حتى يكون قادر على الوصول للفئة التي يستهدفها، وعلى تعديل سلوكها أو أفكارها ونظرتها للقضايا التي تحيط بها، وإغفالها -الأعراف والأحوال والعادات- عنصر فساد الخطاب وبعده عن الواقع وتجنبه للسداد والنجاح في الوصول للناس وتقويم أفعالهم أو تصوراتهم.

مراعاة مآلات الأمور:

النظر في مآلات الأعمال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ.

هكذا يفتتح الشيخ الشاطبي الحديث في مراعاة مآلات الأفعال، مستشهدًا بمجموعة من النصوص، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (15)، وقوله: «لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه في الأرض» (16).

وحديث النهي عن التشدد في العبادة، وغيرها حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعًا لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، ويندرج في هذا الأصل قاعدة سد الذرائع، التي حكمها كما يقول الشاطبي الإمام مالك في أكثر أبواب الفقه.

إذا كان أصل النظر لمآلات الأمور مرجعًا يعتمد في التشريع والتقعيد للأحكام، فإنه في ملازمته للخطاب الدعوي أوكد وألزم لما له من دور في تقويم الفعل الدعوي، وحمايته من الزيغ المنهجي الذي قد يقع فيه الكثير من الدعاة، فيضعون الأمور في غير نصابها، ويفسدون من حث يظنون أنهم يصلحون، ولقد كان في سلف الأمة ودعاتها النموذج والقدوة في مراعاة مآلات الأفعال والأعمال قبل الفعل والعمل، فهذا ابن تيمية يتراجع عن النهي عن المنكر لما مر بجند التتار يتناولون الخمر معللًا فعله بأن الخمر تنهى عن ذكر الله، وهؤلاء الخمر تنهاهم عن سفك دماء المسلمين، فقدم درأ المفسدة على جلب المصلحة لما للمفسدة الناتجة عن النهي من مآلات خطيرة وعظيمة.

فما أحوج الدعاة في مختلف العصور والبيئات إلى مراعاة هذه القواعد في فعلهم الدعوي، واستحضارها في خطاباتهم في مختلف المجالات والحقول المرتبطة بمجال اشتغالهم، لما لها من دور في تسديد الخطاب والفعل، وحماية العمل من الضلال المنهجي، وتجنيب السلوك من التخبط والعشوائية، إذ لا يمكن تصور خطاب سليم وهو بعيد عن هموم وانشغالات الواقع، أو متجاهل لمتغيراته وتحدياته، كما لا يمكن لخطاب أن يصيب إذا أغفل الهدف وغيب المآل، بل قد يفسد ويعمق الجراح، ويعود بالنقض على بنيانه، فيكون {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} [النحل: 92] (17).

التطبيق العملي لمقاصد الخطاب الدعوي:

- الخطاب الدعوي للإيمان بالله وحده لا شريك له؛ في أسمائه وصفاته، وألوهيته وربوبيته، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، البقرة وقرر فيه أركان الإيمان فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا} [النساء: 136].

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل عند ما سأل عن الإيمان قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: صدقت (18).

- الخطاب الدعوي للقيام بأركان الإسلام: ففي حديث جبريل السابق: وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلًا»، قال: صدقت (19).

- الخطاب الدعوي للتخلق بالأخلاق الكريمة، والتأدب بالآداب السامية: قال سبحانه واصفا نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، عن عروة بن الزبير، أن عائشة، رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلًا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد قلت: وعليكم» (20).

- الخطاب الدعوي لإصلاح المعاملة بين الناس وتقويمها: عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى» (21).

عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (22).

- الخطاب الدعوي لإحياء السنن وإماتة البدع: عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبحكم ومساكم»، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (23).

------------

(1) علم المقاصد وأثره في ترشيد الخطاب الدعوي/ حركة التوحيد والإصلاح.

(2) أخرجه البخاري (5354).

(3) شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 144).

(4) أخرجه البخاري (1129)، ومسلم (761).

(5) فتح الباري لابن حجر (3/ 13).

(6) أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584).

(7) فتح الباري لابن حجر (8/ 650).

(8) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11).

(9) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 11).

(10) شرح تنقيح الفصول (ص: 87).

(11) أخرجه البخاري (2211).

(12) فتح الباري لابن حجر (4/ 407).

(13) المبسوط للسرخسي (19/ 41).

(14) المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية (ص: 336).

(15) سبق تخريجه.

(16) أخرجه البخاري (7243).

(17) علم المقاصد وأثره في ترشيد الخطاب الدعوي/ حركة التوحيد والإصلاح.

(18) أخرجه مسلم (8).

(19) تقدم تخريجه.

(20) أخرجه البخاري (6024).

(21) أخرجه ابن ماجه (2203).

(22) أخرجه الترمذي (1987).

(23) أخرجه مسلم (867).