الداعية القوي الأمين
إن الناس يختلفون في قدراتهم وإمكاناتهم الجسمية والبيولوجية والعقلية والنفسية، فكل ميسر لما خلق له، كما أن البشر يتفاوتون في الأخلاق والقيم والصفات المعنوية، ومن هنا يتفاضل الناس ويتمايزون في كسب المعيشة والرزق، وفي الفرص المتاحة لهم في الحياة، وقد أشار القرآن الكريم، في بعض آياته في سورة القصص، على لسان ابنة النبي شعيب عليه السلام لأبيها مشيرة إلى موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]، فهاتان صفتان إحداهما جسمية وهي القوة، والأخرى خلقية وهي الأمانة، كلتا الصفتين أهَّلت صاحبها، وهو موسى عليه السلام، أن يكون أفضل من غيره في العمل والكسب والاستخدام والتقبل الاجتماعي.
إن الدعوة إلى الله تعالى اليوم تناطح مذاهب فاسدة، وعقائد بالية، وهجمة نصرانية ماكرة، وتخطيطًا يهوديًا دقيقًا، فإن لم يتصد لذلك كله ثقات مأمونون، قد ربُوا تربية سليمة على منهج السلف الصالح؛ فإن مسيرة الدعوة قد تتعطل أو تختل، لكن يمكن أن يكون من لم يحُز تلك الشروط أو بعضها نصيرًا للإسلام، محبًا له، عاملًا على التمكين له تحت قيادة ونظر وبصر أولئك الثقات.
وينبغي أن يُعلم أن الضعف غالب في الناس اليوم، والثقات قلائل نسبيًا، وذلك كما هو في كل زمان ومكان؛ إذ الضعفاء والمتروكون هم الفئة الكبيرة، والثقات، وإن جلوا وعظموا وكثروا، هم الفئة الأقل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة»(1).
لكن هؤلاء الثقات الرواحل هم الذين عليهم حماية الدين، وقوة الإسلام اليوم، وإليهم يوجه الكلام، وعليهم يعتمد في المهمات والملمات، فإن عجزوا أو تراجعوا فمن يُرجَّى لنصرة الدين، ومن يُرغب إليه ويفزع في المهمات بعد الله عز وجل.
والناظر في أحداث التاريخ، منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، فإنه يجزم أن لا مكان فيه للعاجز القابع، وأن الثقات العاملين في سباق وتنافس للوصول إلى الغاية العليا وهي رضوان الله تبارك وتعالى.
وتختلف أنظار الناس في تقويم الرجال وتوثيقهم، والصواب في هذه المسألة أن من غلبت حسناته، وبرزت كمالاته، وغابت خطيئاته، ولم يعرف بأنه داعية إلى بدعة كبيرة، أو مذهب ضال، فهو الثقة، ومن اختلف فيه من الناس فينظر لحاله بمنظار الإنصاف لا منظار الغلو والتجريح والتشفي وغلبة الهوى، فإن كان له من الصفات والحسنات ما يؤهله للَّحاق بالثقات فهو حسن، وإلا فليصلح من حاله، وليتب إلى الله تعالى حتى يلتحق بهم(2).
دعونا نتعلم الدرس من هذه الفتاة التي تربت على العقل والاتزان، تعلمنا قواعد الاختيار من خلال حديثها لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، لقد رأت أن موسى عليه السلام اتصف بما يجب أن يكون في كل من يتحمل مسئولية، قوي أمين، قوي بكل معانى القوة، قوي العقل والمعرفة، قوي الرأي والتفكير، قوي الجسد والعقل، قوي القرار، يأخذ الأمر بقوة كما أمر ربنا نبيه يحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
ولا بد من الأمانة؛ أمانة يحافظ بها على الأموال والأعراض وبالطبع على الدين، أمانة تجعله مؤّرقًا ليل نهار لا يعرف النوم له طريق إلا نادرًا مغلوبًا على أمره، «إذا ما نمت بالليل ضيعت حق ربى، وإذا ما نمت بالنهار ضيعت حق الناس»، أمانة تجعله يبذل أقصى ما في وسعه ليؤدي ما في عنقه من واجبات، أمانة عاشها الأيوبي: كيف أضحك والقدس أسير، هذه هي الأمانة التي نريدها.
وفي سورة النمل على لسان العفريت من الجن، وهو يرشح نفسه لنقل عرش ملكة سبأ من مقرها إلى بلاط سليمان قبل أن يقوم من مقامه: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39]، فدعم ترشيحه لتلك المهمة بكونه قويًا على نقل العرش، وكونه أمينًا على ما فيه، والمراد بالقوة في هذا المقام ما يشمل القوة الجسمية والقوة الفكرية، من فطنة وكياسة، وسرعة بديهة، وحسن تصرف، ومن كان قوي الجسم ضعيف العقل، أو قوي العقل لكنه ضعيف الجسم، لا ينهض بالمهمة الموكولة إليه، ويتسرب الخلل إلى العمل المكلف به، بقدر ما هو عليه من ضعف جسمي أو ضعف فكري، أما الأمانة فهي بالنسبة لكل عامل صمام الأمان، الذي يحول بينه وبين الغش والكسل والإهمال، ويحميه من سوء التصرف والرشوة والاستغلال، قال أحد العلماء الحكماء: «إذا اجتمعت هاتان الخصلتان؛ الكفاية والأمانة، في القائم بأمرك فقد فرغ بالك، وتم مرادك»(3).
وفي هذه الآية فنون عديدة، فلهذا جعلها علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشئونك وهما الكفاية والأمانة، فقد فرغ بالك وتم مرادك، وأصبح هذا القول مثلًا يتداوله الناس على مر العصور، وقد استغنت بإرسال هذا الكلام، الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول: استأجره لقوته وأمانته، وفي التعميم الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص، وأبقى للتحشم والتصون، ولا سيما بعد أن فهمت غرض أبيها وهو تزويجها منه(4).
وقال تعالى في شأن جبريل عليه السلام، وهو السفير بينه وبين رسله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} [التكوير:20]؛ أي: قوي له مكانة، مطاع هناك في الملأ الأعلى، وأيضًا هو أمين، فَوُصف جبريل بالقوة والأمانة كذلك.
وهنا يوسف عليه السلام يقول: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، حفيظ الأمانة، عليم القوة، وكما سلف فالقوة بحسبها، فقوة الطبيب لا تكون في بدنه بالدرجة الأولى؛ إنما تكمن في قدرته على تشخيص الأمراض، ووصف العلاج المناسب للداء، وقوة المهندس لا تكمن في بدنه بالدرجة الأولى؛ بل في عقله وذكائه وقدرته على التخطيط، وقوة المدرس تكمن في علمه وإيصاله المعلومة إلى طلابه، وقوة العالم تكمن في حفظه وذكائه وعلمه بأحوال الناس، وإعطاء الفتيا المناسبة لكل حال من الأحوال، وهكذا، فالقوة بحسبها وبمنزلتها، فقد يكون الشخص قويًا في دينه لكنه لا يصلح في جانب آخر من الجوانب.
فعلى سبيل المثال: أبو ذر رضي الله عنه في دينه أقوي من خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد قال النبي في أبي ذر: «ما أقلت الغبراء [أي: الأرض]، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر»(5)، ولكن في الإمارة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، لا تتأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم»(6)، وخالد كان يتولى الإمارة، ويؤمره النبي صلى الله عليه وسلم على عدد هائل من فضلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين(7).
ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: «أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة»؛ أي: أشكو إلى الله من ثقة وأمين وعنده خوف من الله وورع وتقوى، لكنه قاصر، ليس عنده الكفاءة في العمل، بينما نجد شخصًا فاجرًا عنده القوة على هذا العمل، لكنه ليس أمينًا، وأفضل الأحوال أن تجتمع الصفتان معًا، كما قال تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45]، جمع بين الأمانة وبين القوة.
فقوله: (جَلَد الفاجر)، يعني: الشخص قد يكون فاجرًا؛ لكن عنده جَلَد وقوة بحيث يستطيع أن يجاهد ويُحدث انتكاسًا في صفوف الأعداء، فهو فاجر، ولكنه مع ذلك قوي في الحرب مثلًا، وقوله: (وعَجْز الثقة)، يعني: الشخص قد يكون ثقة لكنه عاجز، فإذا وجدت القوة مع الأمانة فهذا هو أكمل الأمور(8).
وهنا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]، وقال تعالى في صفة جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} [التكوير:19-21]».
ويقول: «والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وترك خشية الناس»(9).
يقول ابن القيم: «وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو غيرها؛ فإنما ينتدب لها القوي عليها، الأمين على فعلها، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قويًا أمينًا، معظمًا ذا مكانة عنده، مطاعًا في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفة، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسَل إليه، حيث انتدب له الكريم القوي، المكين عنده، المطاع في الملأ الأعلى، الأمين حق الأمين، فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية»(10).
وهذه صاحبة موسى وصفته بأفضل صفات الأجير: القوة في القيام بالأمر، والأمانة في حفظ الشيء، ومصدر هاتين الصفتين ما شاهدت من حاله، قال لها أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت له: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اختلف عليّ الطريق فاقذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال: {أَكْرِمِي مَثْواهُ} [يوسف:21]، وصاحبة موسى حين قالت: {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}»(11).
قال أبو حيان: «وقولها كلام حكيم جامع؛ لأنه إذ اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمرٍ من الأمور فقد تمَّ المقصود».
بين القوة الأمانة:
لقد جمعت ابنة شعيب عليه السلام في تعليلها المختصر ذاك بين أمرين عظيمين، ينضوي تحتهما معظم الكمالات الإنسانية، وهما الأمانة والقوة:
1- ليست الأمانة هنا إلا رمزًا لما يستلزمه الإيمان بالله تعالى من المحامد؛ كالإخلاص، والأمانة، والصدق، والصبر، والمروءة، وأداء الفرائض، والكف عن المحرمات؛ وقد قال أكثر المفسرين في قوله سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب:72]، الآية: إن المراد بها التكاليف الشرعية عامة، وقد وصفت ابنة شعيب موسى بالأمانة لغضه طرفه، ومشيه أمامها.
أما القوة فهي رمز لمجموع الإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان.
2- الأمانة والقوة ليستا شيئين متوازيين دائمًا، فقد يتحدان وقد يتقاطعان، فالصبر جزء من الأمانة؛ لأنه قيمة من القيم، وهو في ذات الوقت قوة نفسية إرادية، وإذا كان العلم من جنس القوة، فإنه يولد نوعًا من الأمانة؛ إذ أهله أولى الناس بخشية الله، {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، والإيمان أجل القيم الإسلامية، فهو من جنس الأمانة، ومع ذلك فإنه يولد لدى الفرد طاقة روحية هائلة تجعله يصمد أمام الشدائد صمود الجبال، ومن ثم كانت الظاهرة الإسلامية العالمية.
إن هذا التلاقي بين الأمانة والقوة يمثل بعض الأرضية المشتركة لتلاقي أهل الأمانة وأهل القوة، كما يجعل التحقق من إحداهما المعبر للتحقق من الأخرى.
3- سوف يظل النمط الذي يجمع بين القوة والأمانة نادرًا في بني الإنسان، وكلما اقتربا من الكمال في شخص صار وجوده أكثر ندرة، والقوي الذي لا يؤتمن، والموثوق العاجز هم أكثر الناس، والذين فيهم شيء من القوة وشيء من الأمانة كثيرون.
4- العمل المقبول في المعايير الإسلامية هو ما توفر فيه الإخلاص والصواب، والإخلاص ضرب من الأمانة، والصواب، وهو هنا موافقة الشريعة، ضرب من القوة، هذا بصورة عامة، لكن في أحيان كثيرة يكون ما يطلب من أحدهما أكثر مما يطلب من الآخر؛ فالثواب يتعلق بالإخلاص أكثر من تعلقه بالصواب، فالمجتهد المؤهل ينال أجرًا إذا استفرغ وسعه وإن كان اجتهاده خاطئًا، لكن لا ثواب البتة على عمل لا يراد به وجه الله تعالى، أما النجاح والوصول إلى الأهداف المرسومة في الدنيا فإنه مرتبط بالصواب أكثر من ارتباطه بالإخلاص، فكم من مؤسسة يديرها أكفاء ليس عندهم شيء من الأمانة، ثم حققت أهدافها المادية كاملة، وكم من مؤسسة أدارها أخيار غير مؤهلين، فأعلنت إفلاسها!
وقد ذكر ابن خلدون أن للناس مذهبين في استخدام الأكفاء غير الثقات، وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانوا مؤهلين؛ لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من سرقاتهم، أما إذا كان المستخدم لا يحسن شيئًا فماذا نعمل به؟!
وقد ولى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكفاية الحربية، مع أن في الصحابة من هم أتقى منهم وأورع؛ لأن القوة (البسالة وحسن التخطيط) تطلب في قيادة الجيش أكثر من الأمانة، مع أنهم كانوا بكل المقاييس من الأمناء الأخيار، وطلب بعض الصحابة ممن عرفوا بالزهادة والورع الولاية على بعض أمور المسلمين فحجبها عنهم لضعفهم.
5- نحن في مراجعة أخطائنا نركز على جانب الأمانة، ونهمل جانب القوة، فإذا ما أخفقنا في عمل ما قلنا نحن بحاجة إلى تقوى وإخلاص، وإن اتباع الأهواء هو السبب في ذلك، ولا ريب أن الإخلاص مفتاح القبول والتوفيق، وأن التقوى تستنزل الفرج، لكن ما هي المعايير التي تمكننا من قياس درجة التقوى، ومقدار الإخلاص الموجود إذا ما أردنا التحقق منه، وكيف نستطيع التفريق بين عمل دفع إليه الهوى وآخر دفع إليه الاجتهاد؟! كل ذلك مما يستحيل قياسه، وبالتالي فإنه لا يمكن تحديده، وما لا يمكن تحديده لا يصلح لأن يكون هدفًا.
وبإمكان الناس أن يقولوا إلى ما شاء الله: «نحن أتباع هوى» دون أن تستطيع أن ترد على أحد منهم ردًا شافيًا قاطعًا! على حين أن قياس القوة ممكن، وإدراك الخلل فيها يكون عادة ظاهرًا يمكن وضع الإصبع عليه، فحين يأتي خطيب ليتولى إدارة جيش، أو التخطيط لمعركة، وحين يتولى رسم سياسات العمل رجلٌ لا يعرف الواقع، فلا يقرأ جريدة ولا يستمع إلى نشرة أخبار، ولا يحسن قراءة أي شيء يحيط به، فإن الخلل لا يحتاج إذ ذاك إلى شرح حيث تتولى شرحه النتائج!
وحين يتصدى للاجتهاد في أمور خطيرة أشخاص لا يملكون الحد الأدنى من المعلومات حولها، وتترتب على اجتهاداتهم فواجع أكبر من أي جريمة ماذا تكون الحال؟!
لقد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها، بتأهيل الشخص قبل إيجاد العمل الذي سيعمله، بدلًا أن يوجد المنصب ثم يبحث عمن يسد الفراغ ليس أكثر(12).
إنّ النفس الأبيّة لا ترضى أن تعيش على فتات العيش، وموائد الآخرين؛ بل لا بد أن تبحث عن وسيلة تكدح من خلالها، وتشعر بالعزة والاستعلاء بعيدًا عن المسألة والاستجداء، وهذا ما وقع لموسى عليه السلام؛ حيث عاش مع الشيخ الكبير عيشة عمل وكدح، يرعى له الغنم مقابل تزويجه إحدى ابنتيه، واتفقا على مدة العقد اللازم والكامل برضًى واختيار.
المعاني القيادية:
إن هاتين الصفتين تجمعان كل المعاني القيادية التي تحدَّث عنها علماء الإدارة في العالم:
فالقوة تعني الكفاءة والذكاء والقدرة على أداء المهمة، وتختلف القوة المطلوبة باختلاف المهمة.
قال ابن تيمية: «والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها؛ فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال؛ من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك؛ كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا»، وفي رواية: «فهي نعمة جحدها»(13).
والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وترك خشية الناس؛ وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حكم على الناس؛ في قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44](14).
والأمانة تعني المصداقية والرقابة الذاتية والمبادرة لأداء العمل على أتم وجه، وتستخدم كلمة الأمانة بأكثر من معنى، ومنها:
أ- التكليف: قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
ب- الأمانة المعنوية: تمتد حدود الأمانة إلى ما هو أبعد من القضايا المالية، فهي تشمل أمانة الفكر والرأي والموقف.
جـ- الضمير اليقظ: وهو الذي، كما يقول الغزالي، تصان به الحقوق المتمثلة في حقوق الله والناس، وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال.
د- الإتقان: فالحرص على أداء الواجب المنوط بالشخص بشكل متقن من أخلاق المسلم، ومنه السهر على حقوق الناس، وإذا استهان الفرد بما كلف به، وإن كان صغيرًا، فرط فيما بعده إلى أن تستشري روح الفساد والضياع في كيان المؤسسة.
بل إن المطلوب هو تجاوز الإتقان، والوصول إلى درجة الإبداع في التخطيط والتنفيذ، مسترشدين بدعوة المصطفى عليه السلام: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»(15).
هـ- عدم الاستغلال: أي عدم استغلال المنصب لمنافع شخصية، أو للإضرار بمصالح الأخرين، وإضاعة حقوقهم.
و- تعيين الأصلح: وهو تعيين الرجل المناسب في المكان المناسب وليس العكس، مصداقًا لقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من استعمل رجلًا من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين»(16)(17).
تضييع الأمانة الدعوية:
في المجتمع فئات عظيمة من الصالحين الذين يرجون الله تعالى والدار الآخرة، ولعلهم يأتون بنوافلَ كثيرة، من صلاة وصيام، لكنهم غير عاملين بهذا الصلاح للتمكين لدين الله تعالى في الأرض، فتجدهم قد انكفئوا على أنفسهم، واعتزلوا في بيوتهم فلا يدعون أحدًا، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر إلا نادرًا، وتراهم يذهبون إلى أعمالهم بجد ونشاط لكن لا يحركون ساكنًا مع زميل عمل ضَلَّ، ولا صالح مَلَّ، والناس متعطشون لمواعظهم ونصحهم ودعوتهم لكنهم لا يفعلون.
ولو كانوا في كل أحوالهم كذلك لالتمست لهم الأعذار؛ لكنهم متثاقلون عند الدعوة إلى دين الله تعالى، نشطون في ميادين تحصيل الدرهم والدينار، قد قطعوا عامة نهارهم وطائفة كبيرة من ليلهم في تحصيل الدنيا، والميل إلى ملذاتها وشهواتها، وانصرفوا عن المعاني العليّة.
وتجد آخرين ليسوا من همِّ جمع المال في شيء، لكنهم منصرفون إلى التميز في أعمالهم، والاجتهاد في تخصصاتهم، حاصرين أنفسهم في ذلك، وقد يكون عملهم هذا نافعًا للإسلام، لكنه نفع محدود مرجوح بغيره من المنافع العظيمة، التي يمكن أن تحقق على يد تلك الفئة لو صَرَفت، إضافة إلى تميزها في تخصصها، جهدها في سلوك السبيل القويم، الذي يعود على الإسلام والمسلمين بأعظم النتائج.
والناظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد غير ذلك، فقد كانت حياته دعوة إلى الله تعالى، وقد سخر كل جوانبها لله تعالى ولنصرة الدين، وحرّض أصحابه وعلمهم أن المسلم لا بد أن يكون مشاركًا بقوة في تسيير الحياة وإدارة شئونها.
والعجيب أن تارك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تجده، في أكثر الأحيان، مقرًا بعجزه خجلًا منه، متواريًا عنه؛ بل تراه يعتذر بأعذار واهيات أو هي قريبة من الواهيات، راميًا الآخرين بأنهم سبب عجزه وضعفه، وقد يتعذر بأن لديه مشكلة أو اثنتين، وهذا منه أعجب؛ إذ مَن مِن خلق الله تعالى من بني آدم يخلو من مشكلات وهموم، هذا النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الدعوة ولم ييأس ولم يعجز، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بعض ثقات الدعاة، في هذا الزمان، إن أوذي إيذاءً يسيرًا من زوجه أو والديه أو أولاده، أو قَلّ ماله، أو ابتلاه الله تعالى بشيء من الخوف والجوع والمرض، ترك المعاني العلية فلم يسعَ لها، واعتذر عنها بأنه مشغول بمشكلات عويصة!! فيا لله العجب! ألم يقل الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت:2-3].
إن النفس البشرية عندما تتعرض للمشكلات فإنها تتأثر ولا بد، ولكن لا بد أن يكون هذا التأثر مكتومًا في نفس الإنسان لا يظهره للناس إلا في النادر، وعند وجود حاجة لهذا الإظهار، ثم إنه يمضي بعد ذلك قُدُمًا في دعوته وإرشاده الناس، ولا يمل ولا يكل بسبب ما جرى له من مشكلات يتصور أنها عقبات وليست هي كذلك، ولا ينبغي لها أن تكون، وليسأل نفسه هل ترك عمله الدنيوي لمَّا تعرض لهاته المشكلات وتلك المصائب؟ فلما لم يفعل كانت الدعوة أحق وأولى بتلك المعاملة من غيرها من أشغال الدنيا(18).
القوة في الدعوة:
إن استخدام القوة الفعلية في الدعوة إلى الله تعالى من أعظم الحكم عند الحاجة إليها، وهي تكون بقوة الكلام، والتأديب، وبالضرب، وبالجهاد في سبيل الله تعالى.
ومفهوم القوة في الدعوة إلى الله تعالى ينقسم إلى:
الأول: القوة مع جميع الكفار: من الملحدين، والوثنيين، وأهل الكتاب، وغيرهم من الكفار، فهؤلاء إذا لم ينفع فيهم جدالهم بالتي هي أحسن، ولم يستفيدوا من حكمة القول؛ العقلية والحسية، والنقلية، والبراهين والمعجزات، وأعرضوا وكذبوا، فحينئذ يكون آخر الطب الكي، وهو استخدام القوة بالجهاد في سبيل الله تعالى؛ بالسيف، والسنان، والحجة، والبيان، وبجميع ما يستطيع المسلمون من قوة، بشرط مراعاة الشروط والضوابط الشرعية، مع الإعداد المعنوي والحسي للجهاد، والعمل بأسباب النصر على الأعداء.
الثاني: القوة مع عصاة المسلمين، فهؤلاء، إذا لم ينفع فيهم الوعظ، والترغيب، والترهيب، والقصص الحكيم، وضرب الأمثال، ولم يؤثر فيهم ما يُلقى إليهم من الحكمة التصويرية، ولفت أنظارهم إلى الصور المعنوية والآثار المحسوسة، فحينئذٍ يكون من الحكمة في دعوتهم إلى الله استخدام القوة: بالكلمة القوية مع الفعل الحكيم، وبالتهديد الحكيم والوعيد بالعقوبة، وبالتعزير، والهجر لله تعالى، وإقامة الحدود الشرعية بالشروط والضوابط التي دل عليها الكتاب والسنة(19).
الثالث: القوة مع النفس: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة، وأن يعزموا فيه عزيمة، فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة، إنه عهد الله مع المؤمنين، وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق، وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته.
إنه أمر عظيم، أعظم من كل ما في هذا الوجود، فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة، المصمم على هذه التكاليف، ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة(20).
يقول الرازي: «أما قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجد وعزيمة كاملة، وعدول عن التغافل والتكاسل»(21).
***
__________________
(1) أخرجه مسلم (2547).
(2) عجز الثقات، ص8.
(3) التيسير في أحاديث التفسير (4/ 508).
(4) سورة القصص دراسة تحليلية (1/ 354).
(5) أخرجه ابن ماجه (156).
(6) صحيح الجامع (7825).
(7) سلسلة التفسير لمصطفى العدوي (27/ 12).
(8) تفسير القرآن، للمقدم (146/ 8).
(9) مجموع الفتاوى (28/ 253).
(10) التبيان في أقسام القرآن، ص122.
(11) تفسير ابن كثير (1/ 229).
(12) إن خير من استأجرت القوي الأمين، مجلة البيان (العدد:71).
(13) أخرجه الحاكم (2467).
(14) مجموع الفتاوى (28/ 253-254).
(15) صحيح الجامع (1880).
(16)أخرجه الحاكم (7023).
(17) معيار القيادة الاسلامية، منتديات الألوكة.
(18) عجز الثقات، ص26.
(19) الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، موقع: الدرر السنية.
(20) في ظلال القرآن (1/ 76).
(21) تفسير الرازي (3/ 538).