أدب التخاطب في الاسلام
قال الإمام الزاهد يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها؛ فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه؛ من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه (1).
والتخاطب حاجة ضرورية للمرء في يومه وليلته لا بد له منه، ولذا كان على العاقل أن يتعلم من أدب التخاطب وفنونه ما يصل به إلى قلوب الناس مراعيًا فقه الكلمة، وخطورة اللفظ، وحفظ المنطق، وكم من صداقات قامت بسبب حسن الأدب في التخاطب، وبالمقابل كم من عداوات قامت بسبب سوء الأدب في التخاطب.
قال ابن القيم: كان –النبي صلى الله عليه وسلم- يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأجملها، وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش (2).
فإذا كان لا بد من الكلام فليكن القول حسنًا جميلًا، فهذا هو الأصل في التخاطب بين الناس، فالكلمة الطيبة الحسنة شعار ودليل على طيب قائلها؛ كما أنها تحيل العدو إلى صديق، وتقلب الضغائن التي في القلوب إلى محبة ومودة وولاء، هكذا علمنا الإسلام وأوصانا بالكلمة الطيبة التي تقطع على شياطين الإنس والجن وشاياتهم ووساوسهم وسعيهم في الأرض فسادًا.
وعن ابن عباس، أن ضمادًا، قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد»، قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي (3).
فكما أن للصلاة فقهًا، وكما أن للزكاة فقهًا، وكما أن للحج فقهًا، وكما أن لسائر العبادات فقهًا؛ فكذلك للتخاطب مع الناس وللحديث معهم فقه، بث في كتاب الله وبث في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك كان من أدب التخاطب ما يلي:
بدء المخاطبة والكلام بالسلام:
من تأمل في السنة النبوية رأى أن هناك عناية خاصة بموضوع السلام والحث على إفشائه، ومن هنا عني أئمة الحديث بهذا الأدب فعقدوا كتبًا وأبوابًا عديدة لبيان الأحاديث الواردة في السلام؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» (4).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (5).
إن السلام من محاسن الإسلام؛ فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من الآفات والشرور، وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير، ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية المناسبة ما يوجب التآلف والمحبة ويزيل الوحشة والتقاطع (6).
لفت النظر بتكرار الكلمات:
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين -وجلس وكان متكئًا فقال- ألا وقول الزور»، قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت (7).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله» قلت: كان متعوذًا، فما زال يكررها، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (8).
ولا شك أن الناس يتفاوتون في الفهم، وعلى المعلم أن يلاحظ أوساط الناس، فلا يكتفي بذكر الكلمة مرة واحدة اكتفاءً بفهم النابهين، ولا يكرر كذلك عشرات المرات لكي يفهم أغبى الناس، بل يتوسط، وتكرارها ثلاثًا فيه توسط، وهذا هديه عليه الصلاة والسلام.
إثارة كوامن الخير:
عليك إذا خاطبت الناس أن تثير الكامن فيهم من خير، وهذا باب قد تقدمت مباحثه مرارًا، فإن الله سبحانه وتعالى، قال في كتابه الكريم: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] أي: يا ذرية الصالحين المؤمنين المحمولين مع نوح في الفلك؛ لأن المحمولين مع نوح كانوا مؤمنين، فكونوا صالحين مؤمنين كآبائكم، ونحو ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40]، أي: يا أولاد النبي الصالح والنبي الكريم إسرائيل كونوا صالحين كأبيكم إسرائيل صلى الله عليه وسلم، ونحوه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، أي: يا من آمنتم بي، وصدقتم رسلي، فهذه أساليب تحيي خصال الخير في القلوب.
وعليك كذلك أن تستعمل عبارات تلفت أنظار الناس إليك، إذا كان ثَمّ أمر تريد بثه في عموم الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـجرير بن عبد الله في حجة الوداع: «استنصت الناس»، ثم قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض» (9).
لا ترفع الصوت ولا تخفض إلا إذا دعت الضرورات لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات رأى الناس يتوضئون ولا يحسنون الوضوء، فيتركون الأعقاب بلا غسل، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثًا (10).
التأدب مع الكبار:
كن ورعًا وكن متخلقًا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللكبير حق وله سابقة في الخير، وعليك أن توقر وأن تحترم الكبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يعرف حق كبيرنا» (11)، وفي رواية: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا» (12).
عن سهل بن أبي حثمة، قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود بن زيد، إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشمط في دمه قتيلًا، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة، وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: «كبر كبر» وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما (13)، يريد ليتكلم الأكبر، وهذا من باب أدب الإسلام.
وقال المهلب: تقديم ذي السن أولى في كل شيء ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء في حديث شرب اللبن (14).
وذكر ابن بطال ضابط لهذا الأمر فقال: إنما ذلك إذا استوت حال القوم في شيء واحد، فحينئذ يبتدأ بالأكبر، وأما إذا كان لبعضهم على بعض فضل في شيء فصاحب الفضل أولى بالتقدمة (15).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه سؤالًا، فقال لهم: «إن من الشجر شجرة، مثلها كمثل المسلم»، فأردت أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم، فسكت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» (16).
فللكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه، إذا أردت أن تتكلم فاستأذنه بأسلوب مؤدب وبأسلوب مهذب، كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون.
انتقاء الألفاظ الحسنة:
انتق الألفاظ التي تتحدث بها، فانتقاء الألفاظ فضل ومنة من الله يمن بها عليك، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، أي قول هو حسن في نفسه لإفراط حسنه (17).
قال ابن عاشور: القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر، ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء (18).
وقال السعدي: ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار، ولهذا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء، ولا شاتم، ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملا لكل أحد، صبورًا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالًا لأمر الله، ورجاء لثوابه (19).
فالغرض الذي يمكن أن يؤدى بكلمة طيبة فلا تعدل عنها إلى كلمة شديدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (20)، وقد وردت للسلف في هذا جملة هائلة من الأقوال.
فالألفاظ التي تخرج منك ويمكن أن تؤدى وتخرج في ثوب جميل، فأدها في ثوب جميل، والمنتبه لهذا من هداه الله، والموفق من وفقه الله، فإن الله سبحانه يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]، فمن الذي هداهم؟ الذي هداهم يقينًا وقطعًا هو الله، وبذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ذلك فيقول: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء الأعمال وسيء الأخلاق لا يقني سيئها إلا أنت» (21).
مراعاة مناسبات الحديث:
إن لكل أمرٍ أو فعلٍ أو كلام موضعًا لا يوضَعُ في غيره، وخير القول ما وافق الحال، والعرب تقول: لكل مقام مقال، والخاصة تقول: خير الكلام ما وافق الحال، والعامة تقول: خير الغناء ما شاكل الزمان، وفي القرآن: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67].
نعم لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر، وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر، ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينًا، ولأصبح كلام الناس لونًا واحدًا وطعمًا واحدًا، ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات، فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء، وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص، وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ، ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار، إلى غير ذلك؛ مما يجعل اختيار المناسبات عسيرًا ضرورة لأن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة، ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة، وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة (22).
والرسول عليه الصلاة والسلام قال لعائشة -لما قدمت من عرس- يا عائشة: «يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو» (23).
فانتق مناسبات الحديث، والكلمات التي تصدر منك.
إمعان النظر في الكتاب والسنة للاستفادة من آدابهما:
فأمعن النظر في كتاب الله واستفد هذه الآداب، واستعمل الوسائل التي تربطك بالمخاطب، إذا كان ثَمّ تكليف منك يصدر إليهم، أو طلب منك تطلبه منهم، فانظر إلى أدب الطلب في قول موسى صلى الله عليه وسلم للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، ورد الخضر معتذرًا لموسى أيضًا عليهما السلام: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]، ثم يلتمس له العذر، فيقول له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68].
وانظر إلى مقولة موسى لفرعون، وكيف اشتدّ موسى أيضًا مع فرعون مع أنه أمر في أول الأمر أن يقول لفرعون قولًا لينًا؛ لعله يتذكر أو يخشى، ولكن لما أبى فرعون هذا القول اللين، استعمل موسى طريقة أخرى في الخطاب يقتضيها المقام، فقال له فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشعراء: 23- 24]، قال فرعون لمن حوله: {أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} [الشعراء: 25- 28].
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} يقابل الجنون الذي اتهم به موسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يكافئه، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون لما قال له فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)} [الإسراء: 101- 102]، أي: هالكًا، فكانت كلمات الشدة أحيانًا تخرج على حسب ما يقتضيه المقام.
التواضع والطلاقة عند مخاطبة الناس:
وعليك عند خطابك للناس أن تكون متواضعًا مقبلًا عليهم بوجه طلق، لا تكلمهم وأنت مصعر الخد لهم، فقد قال لقمان لولده: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، ووصف الله صنفًا من أهل النار بقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الحج: 9] فثناء العطف والإعراض بالوجه أثناء الحديث، كل ذلك ينافي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أقبل عليهم بوجه طلق أثناء الحديث معهم؛ وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (24).
وليشعر منك أخوك بالتواضع أثناء الحديث، فهذه رسالة سليمان عليه السلام إلى ملكة من الملوك: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} [النمل: 30- 31]، لم يسطرها: من الملك الأعظم ملك الإنس والجن والطير، لم يسطرها بالملك الذي يفهم لغة الطير وسخرت له الرياح، ولكن قال مقالة رجل متواضع يشعر بعبوديته لله سبحانه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30]، وجرد كل المقدمات ليس من النبي سليمان، ولا من الملك سليمان، إنما بيسر وسهولة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} [النمل: 30- 31].
ونحو ذلك صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم»، وفي أثناء الرسالة ما يشعر بالعبودية إذ فيها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وكذلك قول عموم الرسل لأقوامهم: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11].
فهكذا عليك أن تشعر من أمامك بالتواضع له أثناء الحديث، وبخفض الجناح له أثناء الخطاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما زاد الله عبدا بعفو، إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (25)، فمن تواضع لله سبحانه أعزه الله سبحانه وتعالى.
فبالكلمات الطيبة تذهب الشحناء وتزال من القلوب، وبالكلمات الطيبة تحل المشاكل بين العباد، وترفع الخصومات التي بينهم، وبالكلمات الطيبة تثبت المودة والمحبة في القلوب.
فكم من مشكلة حلت بسبب كلمة طيبة، وكم من جريمة دفعت بسبب كلمة طيبة، وكم من صلات قد قويت بين الأرحام بسبب كلمات طيبة.
وعلى العكس فكم من جريمة قد ارتكبت بسبب وشاية وبسبب كلمة خبيثة، وكم من نيران قد سعرت بسبب الوشايات من النمامين، وكلمات النمامين الخبيثة، بل حروب بين دول قد وقعت بسبب كلمات خبيثة وكلمات شريرة.
مراقبة الله في الأقوال:
وابتداء ينبغي أن يعلم العبد أن ألفاظه وكلماته مسجلة عليه، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، ويقول سبحانه: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، ويقول سبحانه: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، ويقوله سبحانه: {أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
وكثرة الكلام منافية للهيبة، ومذهبة للوقار، ومذهبة للبهاء، وموقعة في الزلل، وموقعة في الخطأ، ومدعاة لكثرة الحساب ولطول الحساب يوم القيامة، ثم هي أيضًا تجعل الناس يملُّون حديثك، ولذلك لما كان عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يتخوّل أصحابه بالموعظة كل خميس، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن، لو حدثتنا كل يوم، قال: إني أكره أن أملّكم، وإنما أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة؛ كراهية السآمة علينا، أي: كراهية أن يتسرب إلينا الملل.
ويتأكد الإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا لم يكن في الكلام فائدة فامتنع عنه بالكلية، ولذلك قال هؤلاء الفتية النجباء العقلاء الأذكياء أصحاب الكهف لما استيقظوا من منامهم: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]، أي: قال بعضهم: لبثنا يومًا، وقال آخر: لبثنا نصف يوم، أو ثلث يوم، فاتفقت كلمتهم على أن قالوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]، وانقطع حينئذ الجدال، واتجهوا حينئذٍ إلى العمل، فقالوا: {ابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19]، وفي نفس السورة قال الله سبحانه وتعالى موضحًا هذا الأدب من وجه آخر: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22].
ولما أقبلت مريم عليها السلام تحمل وليدها بين يديها، وعلمت يقينًا أن قومها لن يصدقوها إذا قالت لهم: أتاني الملك فنفخ فيّ من روحه، فلم يصدقها القوم حينئذ، ولذلك أمرت بالسكوت وأمرت بالصمت؛ إذ ليس للكلام فائدة قال الله لها: {إِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم: 26] (26).
_______________
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 63).
(2) زاد المعاد (2/ 352).
(3) أخرجه مسلم (868).
(4) أخرجه الترمذي (5193).
(5) أخرجه البخاري (12).
(6) بهجة قلوب الأبرار (ص: 113).
(7) أخرجه البخاري (2654).
(8) أخرجه البخاري (4269).
(9) أخرجه البخاري (7080).
(10) أخرجه البخاري (60).
(11) الجامع الصغير (9026).
(12) أخرجه أحمد (458).
(13) أخرجه البخاري (3173).
(14) شرح صحيح البخاري (1/ 364).
(15) شرح صحيح البخاري (6/ 76).
(16) أخرجه البخاري (72).
(17) تفسير الرازي (3/ 588).
(18) التحرير والتنوير (1/ 583).
(19) تفسير السعدي (ص: 57).
(20) أخرجه مسلم (2594).
(21) أخرجه مسلم (771).
(22) لكل مقام مقال/ تيار الإصلاح.
(23) أخرجه البخاري (5162).
(24) أخرجه مسلم (2626).
(25) أخرجه مسلم (2588).
(26) أدب التخاطب/ مصطفى العدوي.