مقومات الداعية الناجح
إن نجاح الداعية وانتشار الدعوة يزيد من انتشار الخير بكثرة ملتزميه والدعاة إليه، والثابتين عليه، وعندما تتزايد هذه الدوائر ويتكاثر أفرادها تكون سببًا من أسباب رضوان الله عز وجل وتنَزّل نصره، وحصول التغيير الصالح في الأمة ضمن السُّنَّة الإلهية الماضية: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ومن جهة أخرى فكلما أقبل على الخير واستجاب للدعوة نفر من الناس بما يحققه الله من نجاح للدعاة، فإن ذلك يورث عند الآخرين قناعة عميقة، وحماسة قوية للمتابعة من خلال كسر حاجز التردد أو الرهبة، وخوف التفرد بالالتزام، ومخالفة التيار العام، كما أن انتشار الخير يبرز صورة مشرقة للمسلمين الملتزمين، من خلال سلوكياتهم في سائر شئون الحياة، وهذا له أثر مضاعف في مزيد من الإقبال على الالتزام.
إن كل نجاح للدعوة هو هزيمة للباطل الداعي إلى طرق ومناهج الشيطان، وإن كل وجود فاعل للدعوة في ميدان من ميادين الحياة هو غيظ ونكاية في أعداء الله، فالحرص على نجاح الداعية في غاية الأهمية لحماية الأمة من شرور الباطل، والعمل على تحجيم آثاره، وتقليل أضراره، وتوهين أنصاره.
ومن المعلوم أنه يجب محاربة المبادئ الهدامة، من اشتراكية وبعثية وتعصب للقوميات وغيرها من المبادئ والمذاهب المخالفة للشريعة، وبذلك يصلح الله للمسلمين ما كان فاسدًا، ويَردُّ لهم ما كان شاردًا، ويعيد لهم مجدهم السالف، وينصرهم على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض(1).
ومن هنا يلزم التأكيد على دعاة الإسلام وحملته للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة، والدعوة إلى الإسلام، والرد على أصناف الغزو الثقافي، وكشف عواره وتبيين زيفه؛ حيث إن الأعداء جنَّدوا كافة إمكاناتهم وقدراتهم، وأوجدوا المنظمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدس على المسلمين والتلبيس عليهم، فلا بد من تفنيد هذه الشبهات وكشفها، وعرض الإسلام عقيدة وتشريعًا وأحكامًا وأخلاقًا عرضًا شيقًا(2)، فتوفُّرُ أسباب نجاح الداعية يعني غلبة الحق وانتصاره، وهزيمة الباطل واندحاره.
المقوم الأول: التميز الإيماني والتفوق الأخلاقي:
إن التميز في مجال الإيمان عقيدةً صحيحةً، ومعرفةً جازمةً، وتأثيرًا قويًا يعد، بلا نزاع، أهم المقومات وأولى الأولويات بالنسبة للداعية؛ لكي يكون الداعية عظيم الإيمان بالله، شديد الخوف منه، صادق التوكل عليه، دائم المراقبة له، كثير الإنابة إليه، لسانه رطب بذكر الله، وعقله مفكر في ملكوت الله، وقلبه مستحضر للقاء الله، مجتهد في الطاعات، مسابق إلى الخيرات، صوام بالنهار، قوّام بالليل، مع تحري الإخلاص التام، وحسن الظن بالله، وهذا هو عنوان الفلاح، وسمت الصلاح، ومفتاح النجاح؛ إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله، وهي التي تجلب التوفيق من الله؛ فإذا بالداعية مسدد، إنْ عمل أجاد، وإن حكم أصاب، وإن تكلم أفاد(3).
وفي هذا يقول ابن القيم: «التزام عبوديته، من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده، واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه، واللجأ إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به، وألا يتعلق قلبه بغيره، محبةً وخوفًا ورجاءً، وفيه أيضًا أنه عبد من جميع الوجوه: صغيرًا وكبيرًا، حيًا وميتًا، مطيعًا وعاصيًا، معافى ومبتلى، بالروح والقلب واللسان والجوارح، وفيه أيضًا أن مالي ونفسي ملك لك؛ فإن العبد وما يملك لسيده، وفيه أيضًا أنك أنت الذي مننت علي بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك، وفيه أيضًا أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده، وإني لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فإن صح له شهود ذلك فقد قال (إني عبدك) حقيقة»(4).
ولا يُتصور للداعية نجاحٌ وتوفيقٌ، أو تميزٌ وقبولٌ دون أن يكون حظه من الإيمان عظيمًا؛ إذ كيف تدعو الناس إلى أحد وصلاتك به واهية، ومعرفتك به قليلة(5).
وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي تخفى على الناس ولا يعلمها إلا علام الغيوب، إلا أن آثار ذلك تظهر بوضوح في الأقوال والأفعال فإن عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلًا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه(6).
المقوم الثاني: الرصيد العلمي والزاد الثقافي:
العلم من أعظم المقوّمات للداعية الناجح، وهو من أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
وهذا مقوم لا بد منه حتى يجد الناس عند الداعية إجابة التساؤلات، وحلول المشكلات، إضافة إلى ذلك هو العدَّة التي بها يعلِّم الداعيةُ الناس أحكام الشرع، ويبصرهم بحقائق الواقع، وبه أيضًا يكون الداعية قادرًا على الإقناع وتفنيد الشبهات، ومتقنًا في العرض، ومبدعًا في التوعية والتوجيه.
وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولا بد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم على حد يصل إليه السعي(7).
والخوض في غمار الدعوة وميادينها فيما لا علم للداعي به تترتب عليه آثار وخيمة؛ لأن العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح(8)، ولا يكون عمله صالحًا إن لم يكن بعلم وفقه، وكما قال عمر بن عبد العزيز: «من عبَد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح»، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: «العلم إمام العمل، والعمل تابعه».
وهذا ظاهر؛ فإن القصد العمل، والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلًا وضلالًا واتباعًا للهوى(9).
وطبيعة مهمة الداعي خطيرة، ونظرة الناس إليه، واعتدادهم به، وأخذهم عنه يجعل أمر العلم أشد ضرورة للداعي إلى الله؛ لأن ما يقوم به من الدين، ومنسوب إلى رب العالمين، فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه، وبشرعية ما يقوله ويفعله ويتركه، فإذا فقد العلم المطلوب اللازم له كان جاهلًا بما يريده، ووقع في الخبط والخلط، والقول على الله ورسوله بغير علم، فيكون ضرره أكثر من نفعه، وإفساده أكثر من إصلاحه، وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف لجهله بما أحلّه الشرع وأوجبه، وبما منعه وحرَّمه(10)، ومن أكثر الأمور التي يفتن بها عوام الناس التصرف الخاطئ، الذي يصدر من بعض الجهلاء من أهل العبادة والصلاح؛ لأن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه؛ فيقتدون به على جهله(11)، فهذا يقتدون به من أثر حاله، فكيف بالداعية الذي يوجههم بحاله ومقاله، إن افتتانهم به أكبر وأشد.
إن الدعوة مشروط لها العلم، ولكن العلم ليس شيئًا واحدًا لا يتجزأ ولا يتبعض، وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض، فمن عَلم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل، ولا خلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئًا أو جهل حكمه أنه لا يدعو إليه؛ لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة، وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه(12).
ولا بد من الاعتراف بوجود الخلل في هذه الثقافة عند كثير من الدعاة، فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع المعاصر، فهناك جهل بالآخرين نقع فيه بين التهويل والتهوين، مع أن الآخرين يعرفون عنَّا كل شيء، وقد كشفونا حتى النخاع؛ بل هناك جهل بأنفسنا، فنحن، إلى اليوم، لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا ولا نقاط الضعيف لدينا، وكثيرًا ما نضخم الشيء الهيّن، وما نهون الشيء العظيم، سواء في إمكانياتنا أم في عيوبنا(13).
المقوم الثالث: رحابة الصدر وسماحة النفس:
إن الداعية الحق شخصية متميزة، فهو كالمنارة الهادية من بُعد لمن ضل أو حار، وهو كالظل الوارف لمن لفحه حر الشمس والمسير في الهجير، وبالتالي فهو نقطة تجمُّع بالنسبة للمدعوين؛ ولذا فإنه يحتاج إلى أن يتحلى برحابة الصدر وسماحة النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء(14).
وهكذا كان قلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس، ما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئًا من أعراض هذه الحياة؛ بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حمله وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة والرحيبة(15)، والنفس السمحة ليس فيها ضيق أو السماحة السهولة واللين(16).
والناس مشاربهم شتى، وسلوكياتهم متباينة، واحتياجاتهم كثيرة، واستفزازاتهم مثيرة، وهذا لا بد أن يقابله الداعية بالاحتمال؛ لأن الاحتمال، كما قيل، قبر المعايب.
هذه الخصيصة مهمة في تكوين الداعية، يحتاج أن يجتهد في اكتسابها؛ لأنها وقود محرك له في دعوته، كما أنها ترفع كفاءة القبول، وتكبح جماح الانفعالات النفسية ذات الآثار السلبية.
إن الداعي لا بد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس، وإرادة الخير لهم والنصح لهم، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام؛ لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى فهو ذلك إليهم أيضًا(17).
فهذه نفس الرسول صلى الله عليه وسلم مُلِئت رحمة وشفقة على هؤلاء، حتى كاد يُهلك نفسه وهو يدعوهم ويحرص على هدايتهم، ثم يخالط مشاعره الحزن عليهم والأسى لهم.
إن الداعية ينظر إلى المدعوين نظرة الطبيب إلى مرضاه، يرحمهم ويشفق عليهم؛ لعلمه بدائهم وخطورته، ويتلطف في علاجهم، وإن رأى منهم عزوفًا عن الدواء لصعوبته أو مرارته هاله الأمر، واحتال بكل الطرق لتوصيل الدواء، وإقناعهم بضرورة تناوله، ولا يمكن أن يتركهم وشأنهم بحجة أنهم المفرطون، وهكذا فإن الداعي الرحيم لا يكفُّ عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض؛ لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة، وأن إعراضهم بسبب جهلهم، فهو لا ينفك عن إقناعهم وإرشادهم(18).
إن الرحمة كمال في الطبيعة، يجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها، ويأسى لأخطائهم، فيتمنى لهم الهدى، هي كمال في الطبيعة؛ لأن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة الحيوان، ويسلبه أفضل ما فيه، وهو العاطفة الحية النابضة بالحب والرأفة(19).
المقوم الرابع: مراعاة الطبائع:
إن الناس يختلف بعضهم عن بعض، في علمهم وفهمهم وطبائعهم الشخصية، وعوائدهم الاجتماعية، وكل ذلك يحتاج الداعية إلى مراعاته، وبالنسبة لطبائع الأشخاص فإن المدعوين على ثلاثة أنواع:
- فمنهم الراغب في الخير ولكنه غافل، قليل البصيرة، فيحتاج إلى دعوته بالحكمة.
- ومنهم المعرض عن الحق، المشتغل بغيره، فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والتنبيه على ما في التمسك بالحق من المصالح العاجلة والآجلة، وعلى ما في خلافه من الشقاء والفساد.
- الطبقة الثالثة من الناس من له شبهة قد حالت بينه وبين فهم الحق والانقياد له، فهذا يحتاج إلى مناقشة وجدال بالتي هي أحسن؛ حتى يفهم الحق وتنزاح عنه الشبهة(20).
- ومن الناس من طبعه الحدة وسرعة الانفعال، ومنهم من يميل إلى السكينة وطول البال، وكل له مدخل وأسلوب يناسبه، ومراعاة ذلك مهمة في نجاح الداعية.
المقوم الخامس: مراعاة الأفهام:
تفاوت الأفهام أمر معروف وله أسبابه، من قلة العلم أو اختلاف البيئة، أو استحكام العوائد ونحو ذلك، قال ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]: «أي: ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله»(21)؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهدهم [قال ابن الزبير: بكفر] لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون»(22).
قال ابن حجر: «ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولًا ما لم يكن محرّمًا»(23).
وعن علي بن أبي طالب قال: «حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟»، وروى مسلم عن ابن مسعود: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»(24).
قال ابن حجر: «ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي في ظاهرها الخروج على السُّلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب.
وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم»(25).
ولذا ينبغي للداعية مراعاة ذلك وعدم مخالفته، سيما بالنسبة للعوام، ومن تقصر بهم الأفهام، وقد عدَّ الشاطبي في الاعتصام هذا التجاوز ضربًا من الابتداع فقال: «ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها، وسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها، وهو الغالب، وهي فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، والعمل بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئًا وهو أسلم»(26).
ومن ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة؛ ولذلك أنكرت عائشة على من قالت: «لِمَ تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟»، وقالت لها: «أحرورية أنت؟»، وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغًا لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل، وربما أوقع خيالًا وفتنة وإن كان صحيحًا(27).
فليس كل ما يُعلم مما هو حق يُطلب نشره إن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علمًا بالأحكام؛ بل ذلك ينقسم: فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص(28).
فالقاعدة الضابطة لذلك: أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم، إن كانت مما تتقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على المصلحة الشرعية والعقلية(29).
المقوم السادس: مراعاة المقاصد والنيات:
قد يتفق اثنان في عمل ما، ومع ذلك يختلف الحكم عليهما باختلاف النوايا، فهناك من يفعل الفعل ناسيًا، أو جاهلًا بحرمته، أو متأولًا فيه، أو مكرهًا عليه، ولكلٍ حكمه، ومنهم من يفعل الإثم قاصدًا عالمًا بالحرمة لكنه مغلوب بضعف عزمه، ووسوسة شيطانه، فلا يلبث أن يندم ويتوب ويستغفر، ومنهم قاصد مصرّ، وآخر محادٌّ لله ورسوله وهكذا، ونحن نعلم أن النوايا مخفية في طوايا القلوب، ولكن بعض القرائن والأحوال تدل عليها، وقد تصرح بها الألسنة فتعرف بوضوح.
وفي المسائل الفقهية ما يوضح هذا المعنى، سيما في أحكام الطلاق والأيمان والنذور؛ إذ يُسأل أصحابها عن مقاصدهم وما نووا بكلامهم، ويعول في الحكم على نواياهم، ويوكل أصحابها في صدقهم إلى تدينهم لله، وما يعرف عنهم من قرائن وأحوال، ولنا الظواهر، ومراعاة مثل هذا من الأمور التي لا ينبغي إهمالها، كما قال ابن القيم: «إياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه».
ومن أبرز الأمثلة على اعتبار النيات حديث التائب الذي قال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، أخطأ من شدة الفرح(30)، فلم يؤاخذ بذلك، ومثله حديث مسلم في قصة الرجل الذي أوصى أن يُحرق ويُذرّ رماده في البر والبحر خشية من عذاب الله، فغفر الله له لهذا المقصد الذي استولى على قلبه(31).
المقوم السابع: مراعاة الأحوال الخاصة:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية والنصيحة من بعض أصحابه، فقال لأحدهم: «لا تغضب»(32).
وقال لآخر: «قل آمنت بالله، ثم استقم»(33)، وقال للثالث: «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله»(34)، وما ذلك الاختلاف في الجواب إلا مراعاة منه صلى الله عليه وسلم للأحوال الخاصة بالسائلين؛ إذ كان يعلم حاجة كل واحد منهم والجانب القاصر عنده، والأمر اللائق به، فأوصى كل واحد بما يناسبه.
المقوم الثامن: مراعاة الأولويات:
المراد بمراعاة الأولويات معرفة مراتب الأعمال ووضعها في مواضعها، فإن المنهج الإسلامي قد جعل لكل عمل قدرًا، فإماطة الأذى وإن كانت من الإيمان فإنها في الرتبة الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة؛ أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»(35)، و(لا إله إلا الله) يقاتل لأجلها كما أخبر الرسول الكريم: «أُمِرت أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا (لا إله إلا الله)»(36)، وإماطة الأذى لا يمكن أن تكون سببًا لقتال؛ بل هي دون ذلك بكثير، ويكفي فيها نصح ووعظ، ولا يمكن المساواة بينهما، في الدعوة إليهما والبذل في سبيل تحقيقهما.
وهذا ظاهر في بيان تفاوت عدد من الأعمال فيما تضمنه قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [التوبة:19-20].
ولا بد للداعي أن يعلم أن الأصول لا بد أن تقدم على الفروع، والفروض تقدم على النوافل، وفروض الأعيان مقدمة على فروض الكفايات، وفروض الكفايات التي فيها عجز ظاهر أولى من التي انتدب لها غيره من المسلمين.
وللشيطان أرب في هذا الجانب لدى الدعاة، فهو في معركة المراغمة يبدأ بالكفر، فإن عجز فإلى البدعة، فإن لم يفلح فإلى كبائر الذنوب، فإن فشل فإلى صغائرها، فإن لم يتمكن فإلى الاستكثار من المباح، فإن تملص الداعية وسلَّ نفسه لم يكن استعلاؤه على الراحة والرغد كافيًا لحصار الشيطان في زاوية اليأس؛ بل للشيطان محاولة سادسة فيكون له التفاف واقتحام من ثغرة أخرى، فينثر ترتيب قائمة الأولويات النسبية، بعكس القواعد الشرعية في تفاضل الأعمال الإيمانية، ويلهي المؤمن بالمفضول المرجوح، فيقضي من له علم نافع عن جمهور المنتفعين منه، يشغله بزيادة ركوع أو سجود، هما جليلان، لكن التعليم أوجب عليه بعد الفرض منهما، وينقل آخر له وفرة قوة وبسطة في الجسم والذكاء وخبرة في السياسة والإدارة، من تفاعله المُنتِج مع يوميات الخطة الجماعية، ومن صولاته في ساحة الفكر إلى إشراف على بناء مدرسة أو إغاثة منكوب(37).
من المعلوم أن هناك مقاصد ضرورية مقدمة، ومقاصد حاجية تأتي بعدها، وهناك أيضًا مقاصد تحسينية تأتي في المرتبة الأخيرة، ولا بد من مراعاة ذلك ومعرفة أن المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية(38)، وأن الضروري هو الأصل، وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه، أو كفرع من فروعه، ويلزم باختلاله اختلال الباقين؛ لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى، فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص لم يمكن اعتبار المماثلة فيه، فإن ذلك من أوصاف القصاص، ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصف(39).
والعقيدة هي أساس، والشريعة هي البناء، ولا بناء من غير أساس، ولا عمل من غير توحيد وإخلاص {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، وسائر الرسل والأنبياء كانت الدعوة إلى التوحيد عندهم هي أولى الأولويات وأهم المهمات، وكلهم كان نداؤهم: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، ومن منطلق العقيدة والإيمان سعوا إلى علاج الانحرافات الواقعة في مجتمعاتهم كلٌ بحسبه، فموسى عليه السلام عالج الطغيان السياسي الفرعوني، وما ترتب عليه من إذلال الناس واستعبادهم على أساس الإيمان، ولوط عليه السلام عالج الانحراف الخلقي والشذوذ الجنسي في قومه، وهكذا سائر الرسل والأنبياء.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم بدأ بالإيمان والتوحيد، ثم شُرِعت الشرائع، وفرضت الفرائض، والدعاة عليهم أن يسلكوا سبيله، وأن يقتفوا أثره، بادئين بالأهم فالمهم، ولكن إذا كان المجتمع مسلمًا ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره؛ بل يجب ذلك عليه؛ لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم، وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله، وتطهير أخلاقه مما يضر بالمجتمع ويضعف إيمانه، ولا مانع من البدء بعض الأوقات بغير الأهم إذا لم يتيسر الكلام في الأهم، ولا مانع أيضًا من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم إن رأى المصلحة في ذلك، أو خاف إن هو اشتغل بهما جميعًا أن يخفق فيهما جميعًا(40).
المقوم التاسع: مراعاة المصالح والمفاسد:
وهذا الأمر في غاية الأهمية؛ وذلك لأن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل(41).
وهذا مبحث دقيق ينبغي في البداية التنبه إلى أن المراد بالمصالح والمفاسد ما كانت كذلك في حكم الشرع، لا ما كان ملائمًا أو منافرًا للطبع، ولا يكون تقريرها وفق أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية(42)، ثم النظر في تقرير المصالح والمفاسد وتقريرها والترجيح بينها يحتاج إلى تقوى لله صادقة، وبصيرة علمية نافذة، ومعرفة بالواقع واسعة؛ ليتمكن الداعية من تحقيق مقصود الشريعة، التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما(43).
والدقة في هذا المبحث تكمن في أن المعروف قد يُترك فعله والحض عليه، والمنكر قد يترك النهي عنه والإنكار عليه؛ بل قد يُدعى إلى ترك بعض أفعال الخير، ويقصد إلى فعل بعض المنكر، وكل ذلك باعتبار تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، فعند تحقيق أعظم المصلحتين تفوت أدناهما، وهي من المعروف المطلوب فعله، وعند درء أكبر المفسدتين يُرتكب أخفهما، وهي المنكر المطلوب تركه.
والخلاصة أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصَّل إلا بها.
والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوَّتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها عن منفعة الحسنة(44).
المقوم العاشر: مراعاة الأوقات:
والمقصود بمراعاة الوقت تخير الوقت الملائم للدعوة؛ من حيث فراغ المدعوين، واستعدادهم للتلقي، وكذا المراعاة لأوقات المواعظ والدروس، ومناسبة طول وقتها لأحوال الناس، ويندرج تحت ذلك مراعاة استعداد المدعو وبلوغه المرحلة التي يكون فيها الوقت مناسبًا لتفاعله واستجابته.
وشاهد الضرب الأول ما روي عن ابن مسعود: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»(45).
قال ابن حجر معلقًا: «ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد والعمل الصالح خشية الإملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة ولكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف، وإما يومًا بعد يوم، فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يومًا في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط»(46).
وعن ابن عباس مثال آخر أشمل وأظهر؛ إذ روي عنه أنه قال: «حدِّث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تملَّ الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه»(47).
وأما الضرب الثاني فيشهد له قول ابن مسعود: «حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم»، فسئل عن علامة انصراف القلوب فقال: «إذا التفت بعضهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون فلا تحدثهم»(48).
ويضاف إليه ما روي عن عائشة أنها قالت لقاص أهل مكة عبيد بن عمير: «ألم أحدَّث أنك تجلس ويُجلس إليك؟»، قال: «بلى يا أم المؤمنين»، قالت: «فإياك وإملال الناس وتقنيطهم»(49)، وإملال الناس يكون بإطالة الحديث في كثير من الأحوال.
وأما الضرب الثالث فمثاله ما رواه البخاري عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال: (يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه؛ كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى)»(50).
قال ابن حجر: «وفيه أنه ينبغي للإمام ألا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع»(51).
وهكذا نرى أمر المراعاة متشعبًا ومهمًا، والحقيقة أن المراعاة ضرب من التدرج؛ لأن المراعاة كثيرًا ما تقتضي ترك أمر لعدم ملائمته إما للطبع أو الفهم أو الحال أو غير ذلك، والاستعاضة عنه بغيره حتى يكون ممهدًا لعرض الأمر المتروك فيأتي في وقته المناسب، فمثلًا إذا كان الحكم مستغربًا جدًا مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قلبه ما يكون مؤذنًا به كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة، وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة عيسى عليه السلام وولادته من غير أب، فإن النفوس لما أَنِست الولد من بين شخصين كبيرين لا يولد لهما عادة، سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب(52)(53).
المقوم الحادي عشر: الصبر:
الصبر في الدعوة إلى الله تعالى من أهم المهمات، ومن أعظم الواجبات على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، والصبر وإن كان واجبًا بأنواعه على كل مسلم، فإنه على الدعاة إلى الله من باب أولى وأولى؛ ولهذا أمر الله به إمام الدعاة وقدوتهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)} [النحل:127-128]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف:35]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]، فهذا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم قد أمره الله بالصبر، وأتباعه من باب أولى.
والله عز وجل قد أوضح للناس أنه لا بد من الابتلاء والاختبار والامتحان لعباده، وخاصة الدعاة إلى الله تعالى؛ ليظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والصابر من غيره، وهذه سنة الله في خلقه، قال سبحانه: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت:1-3].
الصبر يحتاجه الداعية في دعوته إلى الله في ثلاثة أحوال:
1- قبل الدعوة؛ بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على الوفاء بالواجب.
2- أثناء الدعوة، فيلازم الصبر عن دواعي التقصير والتفريط، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية، وعلى حضور القلب بين يدي الله تعالى، ولا ينساه في أمره.
3- بعد الدعوة، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن يُصبِّر نفسه عن الإتيان بما يُبطل عمله، فليس الشأن الإتيان بالطاعة، وإنما الشأن في حفظها مما يبطلها.
الوجه الثاني: أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها، والتكبر والتعظم بها.
الوجه الثالث: أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سرًّا بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نُقل إلى ديوان العلانية(54).
الدعوة إلى الله سبيلها طويل، تحف به المتاعب والآلام؛ لأن الدعاة إلى الله يطلبون من الناس أن يتركوا أهواءهم وشهواتهم التي لا يرضاها الله عز وجل، وينقادوا لأوامر الله، ويقفوا عند حدوده، ويعملوا بشرائعه التي شرع، فيتخذ أعداء الدعوة من هذه الدعوة عدوًا يحاربونه بكل سلاح، وأمام هذه القوة لا يجد الدعاة مفرًّا من الاعتصام باليقين والصبر؛ لأن الصبر سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، ونور لا يخبو(55).
***
_____________
(1) مجموع فتاوى ابن باز(1/ 392).
(2) المصدر السابق.
(3) مقومات الداعية الناجح، علي بن عمر بن أحمد بادحدح، ص12.
(4) الفوائد، ص34-35.
(5) مع الله، ص188.
(6) زاد المعاد (2/ 87).
(7) مفتاح دار السعادة (1/ 154).
(8) المصدر السابق (1/ 130).
(9) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 135-136).
(10) أصول الدعوة، ص135.
(11) مفتاح دار السعادة (2/ 12).
(12) أصول الدعوة، ص302.
(13) أولويات الحركة الإسلامية، ص21.
(14) في ظلال القرآن (1/ 500-501).
(15) المصدر السابق.
(16) انظر القاموس المحيط (1/ 229).
(17) أصول الدعوة، ص343-344.
(18) المصدر السابق، ص344.
(19) خلق المسلم، ص203.
(20) مجموع فتاوى ابن باز(2/ 241-243).
(21) تفسير ابن كثير (4/ 500).
(22) أخرجه البخاري (126).
(23) فتح الباري (1/ 225).
(24) أخرجه مسلم (5).
(25) فتح الباري (1/ 225).
(26) الاعتصام (2/ 13).
(27) الموافقات (4/ 191).
(28) المصدر السابق (4/ 189).
(29) المصدر السابق (4/ 191).
(30) أخرجه مسلم (2747).
(31) أخرجه مسلم (2756).
(32) أخرجه البخاري (3729).
(33) أخرجه مسلم (38).
(34) أخرجه ابن أبي شيبة (29453).
(35) أخرجه مسلم (35).
(36) أخرجه البخاري (392).
(37) المسار، ص19.
(38) الموافقات (2/ 17).
(39) المصدر السابق (2/ 18).
(40) مجموع فتاوى ابن باز (1/ 325).
(41) إعلام الموقعين (3/ 3).
(42) الموافقات (2/ 37-40).
(43) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 48).
(44) المصدر السابق (20/ 53).
(45) أخرجه البخاري (68).
(46) فتح الباري (1/ 163).
(47) شرح السنة (1/ 314).
(48) المصدر السابق (1/ 313).
(49) المصدر السابق (1/ 314).
(50) أخرجه البخاري (1472).
(51) فتح الباري (3/ 395).
(52) إعلام الموقعين (4/ 163).
(53) مقومات الداعية الناجح، علي بن عمر بن أحمد بادحدح، ص47.
(54) عدة الصابرين، ص90.
(55) مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة، ص182.