أتواصوا به
عن عبد الله بن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان أجمع القعود، وكان شيخًا جليلًا جسيمًا ثقيلًا، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس(1).
فلم يجد أمية بن خلف بدًا، وقد استثار عقبة بن أبي معيط حميته بهذا الكلام الجارح لرجولته، إلا أن قال: ابتاعوا لي أجود بعير بمكة، وخرج معهم وفي نيته أن يرجع بعد قليل متسللًا، ولكن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه، وهكذا لم يتخلّف بمكة قادر على القتال، غير بني عدي، فلم يخرج منهم أحد.
وفي رواية أن أبا جهل هو الذي ما زال به يدفعه ويحرضه حتى قال: أما إذ غلبتني لأشترين أجود بعير بمكة.
فانظر كيف استطاع عقبة بن أبي معيط أو أبو جهل إغضاب أمية بن خلف إغضابًا حمله على الخروج إلى بدر، وكانت وسيلة كل منهما في ذلك إنما هي وصف أمية بن خلف بما اعتبره انتقاصًا، وعجبًا، وإهانة له، ورأى أن أحسن وسيلة للرد على كل هذه الأوصاف إنما هي الخروج مع القوم على أجود راحلة.
فهذه رسالة تسلية لمن يتصدى للدعوة إلى الله, فيصيبه ما يصيبه من الابتلاء، في دينه وشخصه، فقد كان أنبياء الله يتهمون في دينهم، وربما اتهموا في أعراضهم، فغيرهم من باب أولى.
ولما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها، فنزلت الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ} [الأعراف:32].
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها، ناس يطوفون ببيت الله عرايا، فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة: {فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين، في زينة الله التي أنعم بها على البشر لإرادته بهم الكرامة والستر، ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري، وليتميزوا عن العري الحيواني، الجسمي والنفسي، إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله عَيَّروهم! إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس، هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم!
وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان؟! ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقيًا وحضارة وتجديدًا، ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات، بأنهن (رجعيات)، (تقليديات)، (ريفيات)! المسخ هو المسخ، والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس، وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين، والتبجح بعد ذلك هو التبجح، {أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} [الذاريات:53].
وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري، وهذا الانتكاس، وهذه البهيمية، وهذا التبجح، بالشرك، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله؟
لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم، لضمان السيادة لها في الجزيرة، ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء، فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك، ولا يملكون لأمرهم ردًا.
إن بيوت الأزياء ومصمميها، وأساتذة التجميل ودكاكينها، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك!
إن هذه الأرباب تصدر أوامرها، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح، فهي تطيع صاغرة، تطيع تلك الأرباب، وإلا عيرت من بقية البهائم المغلوبة على أمرها! ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ ووراء دكاكين التجميل؟ ووراء سعار العري والتكشف؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص، والمجلات والصحف، التي تقود هذه الحملة المسعورة، وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخورًا متنقلًا للدعارة؟! من الذي يقبع وراء هذا كله؟
إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة، ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق.
إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى، إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة.
كذلك تتعلق بإبراز خصائص الإنسان في الجنس البشري، وتغليب الطابع الإنساني في هذا الجنس على الطابع الحيواني.
والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق، وتجعل العري (الحيواني) تقدمًا ورقيًا، والستر (الإنساني) تأخرًا ورجعية، وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان.
وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون: ما للدين والزي؟ ما للدين وملابس النساء؟ ما للدين والتجميل؟
إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان، ولأن هذه القضية، التي تبدو فرعية، لها كل هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام، لارتباطها أولًا بقضية التوحيد والشرك، ولارتباطها ثانيًا بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته، أو بفساد هذا كله(2).
تجد كل تهمة تلصق بأهل هذا الدين، وبعلماء هذا الدين، وبدعاة هذا الدين، تشاع عنهم الشائعات، وتلصق بعلماء الأمة وشبابها الملتزم، وبكل صالح في الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]، وصف الدعاة بالرجعية والتأخر، وصفوا بعدم مسايرة العصر، وصفوا بالسذاجة والبساطة؛ لكن هذه الألفاظ لم تُجدِ، فبدءوا الآن برمي الدعاة بالشذوذ الخلقي؛ لتحطيم وتضليل قدوة الأمة في نظر أبنائها، وهذه كلمات وأفعال ما جاءتنا إلا من اليهودية الحاقدة، صدرتها إلى بلاد الإسلام، فأخذها الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم وز