الدعوة بالسلوك
الدعوة إلى الله تعالى ليست عبارات صماء، ولا كلمات جوفاء؛ الدعوة إلى الله سلوك قويم، يلزم صاحبه الالتزام بما يدعو إليه، وإلا زهّد في دعوته غيره، وكأن لسان حالهم: لو كان خيرًا لسبقونا إليه.
فمن أعظم وسائل الدعوة الى الله السلوك العملي للداعية، وثبات المسلم على مبادئه وأخلاقه، التي هذبه بها دينه الإسلامي الحنيف.
إن العودة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وأخلاقه، فهو القدوة لهذه البشرية، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
فهذا ضماد الأزدي يعجبه خلق النبي صلى الله عليه وسلم فيكون سببًا في إسلامه، قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد»(1).
وهكذا يرى المسلم كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، سلوكًا عمليًا في حياته اليومية؛ في بيته، ومع أزواجه رضوان الله عليهن أجمعين، ومع أصحابه رضوان الله عليهم؛ بل وحتى مع أعدائه من الكفار والمنافقين، يتأدب بآدابه التي شرعها الله، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وعن أنس رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا»(2).
والدعوة غير المباشرة، التي تكون بالأفعال وفي المعاملات اليومية، تدعم الداعية غير الواعظ والإنسان العادي؛ إذ توصل علماء التربية إلى أن المعاملة الطيبة، والاحترام المتبادل يفوقان جميع وسائل التربية المعمول بها، على أن من أفضل وسائل الدعوة إلى الله في الحياة اليومية السلوك الذي يبنى عليه كل شيء، ويحكم من خلاله على الشخص الذي يتم التعامل معه، فمسلمو أفريقيا لم يصل إليهم الإسلام من خلال دعاة ووعاظ؛ بل من خلال معاملات التجار الذين كانوا يتعاملون معهم.
هؤلاء التجار المسلمون، الذين كانوا ينظمون قوافل تجارية إلى أهالي أفريقيا، تعاملوا معهم بأخلاق الإسلام ومبادئه خلال معاملاتهم وبيعهم وشرائهم؛ إذ أظهروا مكارم الأخلاق والأمانة والسلوك الطيب، الأمر الذي جعل من تعامل معهم يسأل عن دينهم، ويتعرف إليه أكثر.
وهذا يدل على قوة وتأثير المعاملة مع الآخرين في الحياة اليومية بمبادئ الإسلام في هدي الناس، ودخول غير المسلمين في الإسلام، فتأثيرها يفوق تأثير أقوال الدعاة وأفعالهم، وهو ما يدل على أن الأفعال أبلغ من الأقوال.
إن معاملة المدير مع موظفيه، وكذلك الطبيب مع المرضى وإعانتهم، والمعلم مع التلاميذ، والتاجر مع الناس، والأب مع ابنه، والزوج مع زوجته؛ من أعظم الوسائل التي تعطي صورة طيبة للإنسان المسلم، وتكون أحد طرق الدعوة إلى الله.
إن الدعوة الى الله تحتاج الى إخلاص العمل لله عز وجل، وإصلاح النفس وتهذيبها وتزكيتها، وأن يكون لدى الداعية فقه في الدعوة الى الله، وفق منهج الله الذي شرعه لعباده.
قال الحسن البصري رحمه الله: «الواعظ من وعظ الناس بعمله لا بقوله»، وكان ذلك شأنه إذا أراد أن يأمر بشيء بدأ بنفسه ففعله، وإذا أراد أن ينهى عن شيء انتهى عنه، فمن أَسَرَتْه نفْسُه، وأصبح عبدًا لهواه فلا يمكن أن ينكر على الآخرين(3).
فالدّين ليس مجرد مفاهيم أو تصورات يتلقاها المؤمن من نصوص الشريعة، وإنما هو مع ذلك سلوك قائم فى ظل هذه المفاهيم وتلك التصورات.
فهذا ثمامة بن أثال يعزم على أداء العمرة، وقد كان المشركون قبل البعثة يحجون ويزورون البيت، لكن على الطريقة الشركية، وبينما كان في الطريق قريبًا من المدينة إذا به يقابل سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرته وهي لا تعرف أنه ثمامة، فوقع أسيرًا في يد المسلمين، فأتوا به إلى المدينة، وربطوه بسارية من سواري المسجد، منتظرين أن يقف النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه على شأن الأسير الجديد، وأن يأمر فيه بأمره، ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، وهمّ بالدخول إذا به يفاجأ بثمامة بن أثال مربوطًا في السارية، فقال للصحابة ممن حوله: «أتدرون من أخذتم؟» قالوا: لا يا رسول الله، فقال: «هذا ثمامة بن أثال الحنفي، فأحسِنوا أساره»، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله وقال: «اجمعوا ما عندكم من طعام، وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال»، ثم أمر بناقته أن تحلب له في الغدو والرواح، وأن يقدّم إليه لبنها، وقد تم ذلك كله قبل أن يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم أو يكلمه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على ثمامة يريد أن يستدرجه إلى الإسلام، فقال: «ما عندك ياثمامة؟»، فقال: عندي يا محمد خير، فإن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دمٍ، وإن تُنعِم تُنعِم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تُعْطَ منه ما شئت.
فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم يومين على حاله، يؤتى إليه بالطعام والشراب، ويحمل إليه لبن الناقة، ثم جاءه فقال: «ما عندك ياثمامة؟»، فقال: ليس عندي إلا ما قلت لك من قبل، فإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان اليوم التالي جاءه فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال أعطيتك منه ما تشاء.
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: «أطلقوا ثمامة»، ففكوا وثاقه وأطلقوه.
فغادر ثمامة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى، حتى إذا بلغ نخلًا في حواشي المدينة، قريبًا من البقيع فيه ماء، أناخ راحلته عنده، وتطهر من مائه فأحسن طُهوره، ثم عاد أدراجه إلى المسجد، فما إن بلغه حتى وقف على ملأ من المسلمين وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله.
ثم اتجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، والله ما كان على ظهر الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، ووالله، ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إلي، ووالله، ما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي.
ثم أردف قائلًا: لقد كنتُ أصبت في أصحابك دمًا، فما الذي توجبه علي؟ فقال عليه الصلاة والسـلام: «لا تثريب عليك يا ثمامة، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله»، وبشَّرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه، فانبسطت أسارير ثمامة وقال: والله، لأصيبنّ من المشركين أضعاف ما أصبت من أصحابك، ولأضعنّ نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك، ثم قال: يا رسول الله، إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى أن أفعـل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «امض لأداء عمرتك، ولكن على شرعة الله ورسوله»، وعلمه ما يقوم به من المناسك.
مضى ثمامة إلى غايته، حتى إذا بلغ بطن مكة رفع صوته بالتلبية قائلًا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، فكان أول مسلم على ظهر الأرض دخل مكة ملبيًا(4).
وهو الذي كان قبل ذلك قد تلقى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالزراية والإعراض، وأخذته العزة بالإثم، فأصم أذنيه عن سماع دعوة الحق والخير، وزاد شره حتى قتل عددًا من المسلمين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه.
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقًا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع، في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين.
على أنه، حتى إذا لم يقع هذا، يقع ما هو أعظم منه في حقيقته، يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية، وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرجح جميع الآلام، وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته، وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق، هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل.
هذا هو الطريق؛ إيمان وجهاد، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر، ثم يجيء النعيم(5).
إن اعتناق غالبية الشعوب الأفريقية للإسلام لم يتم عن طريق حملة عسكرية، ليؤرخ له بسقوط مملكة ما، أو هزيمة جيوش معادية للمسلمين في واقعة ما، وقيام نظام الإسلام على أنقاضها، إنما انتشرت الديانة الإسلامية في تلك المناطق بفعل احتكاك التجار المسلمين بسكانها، وجهود الشيوخ السياح القادمين من شمالي أفريقيا، وبفضل تفاني الأفريقيين الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام.
إن الإسلام قد شق طريقًا إلى وسط وجنوب القارة الأفريقية السمراء، بجهود بسيطة وسهلة، اعتمدت على التجار المسلمين الذين أحوجتهم ظروف العيش إلى دخول هذه البلاد، وقد رأى الأفريقي الوثني، أو المسيحي، في تصرفات هؤلاء التجار وسلوكهم الشخصي القدوة الحسنة، التي أقنعته بصحة هذه الرسالة، التي لا تقيم وزنًا للون أو جنس أو جاه، بقدر ما تقيم وزنا لطاعة الله وتوحيده، وحسن معاملة الآخرين(6).
فالدعاة المسلمون إنما نقلوا دعوتهم بطيب الخاطر، وإخلاص الضمائر، وحسن التعامل... إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي رافقت الدعاة الأوائل.
فالعرب آمنوا بفهم القرآن، وبيانه صلى الله عليه وسلم له بالتبليغ والعمل، وبما شاهدوا من آيات الله تعالى في شخصه، والعجم آمنوا بدعوة العرب، وما شاهدوا من عدلهم وفضائلهم، ثم بدعوة بعضهم لبعض بعد انتشار الإسلام فيهم.
فقد عمل التجار المسلمون على نشر الدعوة الإسلامية بين أهل البلاد التي رحلوا إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالسلوك الطيب، والتعامل الحسن، والتودد إلى أهل البلاد، وقد دخل كثير من الناس في الإسلام عن طريق التجار المسلمين، فعرفت تركستان الشرقية، في الصين، الإسلام عن طريق التجار المسلمين، فانتشر الإسلام بين الصينيين، وقد وصل التجار المسلمون إلى بلدان جنوب شرق آسيا؛ كأندونيسيا، وماليزيا، والفلبين وغيرها، وكان التجار المسلمون وراء وصول الإسلام إلى جزر المالديف، التي تقع في الجنوب الغربي من سريلانكا، ودخل الإسلام فيتنام أيضًا عن طريق التجار المسلمين.
وكان للتجار المسلمين دور بارز في نقل الإسلام من الشمال الإفريقي إلى وسط وشرق وجنوب إفريقيا.
ووصل الإسلام إلى ألبانيا، وغيرها من مناطق البلقان، عن طريق التجار المسلمين قبل الفتح العثماني.
وهكذا نرى أن أخلاق التجار المسلمين، وحسن تعاملهم مع الناس كان له أكبر الأثر في انتشار الإسلام في مناطق شاسعة من العالم(7).
ختامًا:
فإن من الوسائل المهمة جدًا في تبليغ الدعوة إلى الله، وجذب الناس إلى الإسلام، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه القدوةَ الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الزاكية؛ مما يجعله أسوة حسنة لغيره، يكون بها نموذجًا يقرأ فيه الناس معاني الإسلام فيقبلون عليها، وينجذبون إليها؛ لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده.
إن الإسلام انتشر في كثير من بلاد الدنيا بالقدوة الطيبة للمسلمين، التي كانت تبهر أنظار غير المسلمين، وتحملهم على اعتناق الإسلام، والقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على أن الإسلام حق من عند الله(8).
_____________
(1) رواه مسلم (868).
(2)متفق عليه.
(3) فقه الدعوة، حمد العمار، ص116.
(4) أصول الدعوة وطرقها، ص209.
(5) في ظلال القرآن (البقرة :214).
(6) ظاهرة انتشار الإسلام، وموقف بعض المستشرقين منها، ص134.
(7) فقه التاجر المسلم، ص213.
(8) مبادىء ونماذج في القدوة، صالح بن حميد، ص7-8.