ظاهرة التطاول على الدين
منذ أن أشرقت أنوار الإسلام الساطعة في بطاح مكة والهجمة عليه وعلى رسول الهداية شرسة، ونارها مستعرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32].
لكنها في العصر الحاضر أخذت طرقًا أخرى؛ كاختلاق الأوصاف والنعوت للمنتمين إليه، والحريصين على التمسك بشعائره، ذلك أن يقظة المسلمين، وعودتهم لصفاء تعاليم دينهم النقية من الشوائب، والرجوع لكتاب الله والصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر؛ لإبعاد ما أدخل على الإسلام في عصور الجهل والتقليد، هذه الأمور تقض مضاجع أعداء الله، وأعداء دينه في كل مكان، وفي مقدمتهم إمامهم وزعيمهم إبليس اللعين، الذي أخذ على نفسه عهدًا بصد عباد الله عن الطريق المستقيم، بعدما أعطاه الله الوعد بالإنظار إلى يوم الدين، فقال جل وعلا، على لسان عدو الله وعدو عباده: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص:82-83].
ويسهل مهمته أعوانه من شياطين الإنس والجن، الذين: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:108].
ولذا فإن الشيطان يفتح لأوليائه طرقًا في الهجوم على الإسلام بأساليب متنوعة ذات ملمس لين، ومخبر سيئ، يخاطب بها عقولًا متباينة، فيعطي لكل عقل ما يتلاءم معه إدراكًا وتفكيرًا، ويفتح له مغاليق الرغبات والنزعات، ليرضي أثرة في نفس ذلك الشخص، ويحبب إليه العلو والتسلط(1).
ومنذ بدايات البواكير الأولى لحركات الفكر العربي المعاصر ظهرت موجة محمومة من الهجوم على الدين والعقيدة الإسلامية، وحملة شرسة من الإثارة والتشكيك في المسلّمات والأصول الشرعية، وصاحَب ذلك جرأة شديدة على تحريف المنابع الإسلامية، وتشويه أصول الشريعة ومقاصدها، بالتشكيك الفكري تارة، والتشريع القانوني تارة أخرى، وأصبح الطعن في الدين سُلّمًا يرتقي درجاته أصحاب الأهواء وطلاب الشهرة، وربما تدثّر ذلك أحيانًا بلباس البحث العلمي أو حرية الرأي أو الدعوة إلى الحوار والنقد الذاتي.
والنتيجة الطبيعية التي يرمي إليها هؤلاء هي إقصاء الدين، والتفلت من أحكام الشريعة، باعتبارها، كما يزعمون، عقبة في طريق الرقي والنهضة.
وإزاء ذلك درج أكثرهم على الهجوم على الصحوة الإسلامية، وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم، وسنّوا رماحهم لمبارزتها وملاحقتها والتضييق عليها، وأصبحت الحرب على الإسلام تتخفى وراء مكافحة الإرهاب والتطرف والظلامية.
لقد أضحى التطاول على دين الله الإسلام، في كثير من الدول العربية والإسلامية، ظاهرة واضحة للعيان, وفي الفترة الأخيرة ازداد الهجوم على الإسلام ورسوله شراسةً، ظنًا من المهاجمين الحاقدين أن الفرصة سانحة لتوجيه ضربة قاضية إلى ذلك الدين، في ظل ضعف المسلمين وهوانهم وتخلفهم، والواقع أن هؤلاء الحاقدين واهمون، فالإسلام وإن كان المنتسبون إليه الآن ضعافًا أذلاء، هو دين قوي عزيز كريم، يستحيل القضاء عليه.
ولقد مرت على المسلمين أزمان كانوا أشد ضعفًا وهوانًا مما هم عليه الآن، ولم يستطيع أعداء الإسلام أن ينالوا من دين الله منالًا؛ بل إن جوهرته لتزداد، على الأيام ومعاودة الهجوم عليه، تألقًا وجمالًا(2).
والحقيقة أن التطاول على الإسلام ازداد عربيًا في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ, ويمكن ملاحظة اشتداد وطأته مع موجة الأوضاع المضطربة، التي تمر بها أغلب بلدان العالم الإسلامي اليوم.
والاستشراق المعاصر في بعض نشاطاته ودراساته يعد أحد عناصر هذه الظاهرة في التطاول على الإسلام، حيث تصدرت الجامعات الغربية الأوروبية والأمريكية مصادر تلقي العلم لدى الكثيرين من أبناء هذه الأمة، منذ بداية سياسة الابتعاث إلى هذه الدول، بغرض الحصول على الشهادات العليا في شتى المجالات العلمية، ومنها العلوم الاجتماعية، وما يسمى بالعلوم الإنسانية، وحتى العلوم الشرعية.
وهناك درسوا على أيدي المستشرقين، فتشبع كثير منهم بأفكار أساتذتهم وآرائهم، وأعجب بعضهم بالأساتذة إعجابًا وصل إلى درجة الانبهار والحب العميق لهم؛ بل وصل الأمر بأحدهم أن ذهب إلى هناك ليدرس الاستشراق؛ فعاد ناعيًا حظه في هذه الدراسة، ظانًا أن من يدرس الاستشراق كمن يحارب طواحين الهواء(3).
إن من أساليب أعداء الإسلام استغلال بعض الظواهر التي تثير المسلمين، فينفخون فيها، ويصطنعون منها معارك، فيجهزون الساحة، ويحشدون النظارة، ويغرق الفريقان غير المتكافئين في حمى التشجيع، ولا يعودان يميزان أمامًا من وراء؛ ولا يمينًا من يسار؛ ولا فوقًا من تحت، وهي معارك حتى لو انتصر فيها المسلمون، فانتصارهم ليس إلا (فقعة في قاع)، وقد يكتشفون، أو لا يكتشفون، أن المستفيد الحقيقي من هذه المعارك ليس المنتصر؛ بل الذي أقامها وحشد لها، وهم، في الحالة الراهنة، الغربيون ومن يشاركهم العداء للإسلام وأهله في كل مكان، وما استفادوا هو أنهم أظهروا المسلمين بالصورة التي يريدون، وروجوا ما شاءوا من الأفكار، وسوّقوا انتاجهم الرخيص بثمن غالٍ، واستفرغوا طاقات كثيرة للمسلمين في محاربة طواحين الهواء(4).
إن أهل الكتاب يعلمون جيدًا حقيقة هذا الدين، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم، جيلًا بعد جيل، يدْرسُون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة، وينقبون عن أسرار قوته، وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها، ويبحثون، بجد، كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية، وتسترد سلطان الله في الأرض، وتطارد المعتدين على هذا السلطان، وتجعل الدين كله لله؛ إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ؟
كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟ كيف، في النهاية، يملئون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة؟
إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة؛ لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة، كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين، ولا لينصفوا هذا الدين وأصله، كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافًا من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين، كلا؛ إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين، لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها، لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها، لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا، على غراره، التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها؛ وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك، وأن نعرف معه أننا نحن الأَوْلى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا.
إن الواقع التاريخي، من خلال أربعة عشر قرنًا، ينطق بحقيقة واحدة، هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ} [البقرة:146]، ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة.
إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع، بلغة من اللغات الأجنبية، وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه، ومصادر قوته، ووسائل مقاومته، وطرق إفساد توجيهه، ومعظمهم، بطبيعة الحال، لا يفصح عن نيته هذه، فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة، وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين، الممثل في الاستعمار، إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني، أو على الأقل العاطفة الدينية.
وأن استمرار الهجوم على الإسلام، ولو في الصورة الفكرية، سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة؛ لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث؛ يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين، حتى ينوم المشاعر المتوفزة، ويخدر الحماسة المتحفزة، وينال ثقة القارئ واطمئنانه، ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة، هذا الدين نعم عظيم، ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته، ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة الإنسانية الحديثة.
وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع، وفي أشكال الحكم، وفي قيم الأخلاق.
وينبغي، في النهاية، أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة الإنسانية الحديثة.
ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب، وبذلك يظل دينًا عظيمًا.
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين، وهي، ظاهريًا، تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر، يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب لينبههم إلى خطورة هذا الدين، وإلى أسرار قوته، ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف، ليسددوا ضرباتهم على الهدف، وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم.
إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه جديدة دائمًا كلما عاشوا في ظلاله، وهم يخوضون معركة العقيدة، ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ، ويطالعون بوعي أحداث الحاضر، ويرون بنور الله، الذي يكشف الحق، وينير الطريق.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)} [الأنعام:21-24].
هذا استطراد في مواجهة المشركين بحقيقة ما يزاولونه، ووصف موقفهم وعملهم في تقدير الله سبحانه.
مواجهة تبدأ باستفهام تقريري لظلمهم بافتراء الكذب على الله، وذلك فيما كانوا يدعونه من أنهم على دينه الذي جاء به إبراهيم عليه السلام، ومن زعمهم أن ما يحلونه وما يحرمونه، من الأنعام والمطاعم والشعائر، هو من أمر الله، وليس من أمره.
وذلك كالذي يزعمه بعض من يدعون اليوم أنهم على دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون.
وهو من الكذب المفترى على الله، ذلك أنهم يصدرون أحكامًا وينشئون أوضاعًا ويبتدعون قيمًا من عند أنفسهم، يغتصبون فيها سلطان الله ويدعونه لأنفسهم، ويزعمون أنها هي دين الله، ويزعم لهم بعض من باعوا دينهم، ليشتروا به مثوى في دركات الجحيم، أنه هو دين الله.
وباستنكار تكذيبهم كذلك بآيات الله، التي جاءهم بها النبي صلى الله عليه وسلم فردوها وعارضوها وجحدوها، وقالوا: إنها ليست من عند الله، بينما هم يزعمون أن ما يزاولونه في جاهليتهم هو الذي من عند الله، وذلك كالذي يحدث من أهل الجاهلية اليوم، حذوك النعل بالنعل.
يواجههم باستنكار هذا كله، ووصفه بأنه أظلم الظلم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} [الأنعام:21](5).
في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: صفهم لنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»(6)، وفي لفظ مسلم: «رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»(7)، ينكرون عذاب القبر تارة، وينكرون الأحاديث المتواترة في المهدي تارة، وينكرون نعيم القبر تارة، وينكرون شفاعة الحبيب تارة؛ بل وينكرون السنة بالكلية تارة؛ بل ويشككون ويثيرون الشبهات على القرآن تارة؛ بل ويشككون في الله تارة.
لقد سعى هؤلاء المارقون في سبيل ذلك سعيًا حثيثًا، فشنوا الحملات المسعورة، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصد عنه، عن طريق الطعن في حَمَلة الإسلام ودعاته وعلمائه، وقد آتت هذه المؤامرات ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة، وتولت وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وغيرها كِبْر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة، فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة، وتطاول الأقزام، من أهل الشبهات والشهوات، على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر، واستهزئ بأهل الصلاح والديانة تحت مظلة محاربة التطرف والتشدد.
وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة، منها غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين، سواء كان الجهل بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستهزاء بأهل العلم والصلاح.
ومنها تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين، فلو أن حد الردة، مثلًا، أقيم على من يستحقه، فلن يتطاول سفيه على فتاوى أهل العلم، كما هو واقعنا الآن، ولن يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم، والله حسبنا ونعم الوكيل(8).
ولا شك أن الإسلام عظَّم خطورة الكلمة التي يتكلم بها المرء, قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالًا يهوى بها في جهنم»(9).
وعن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(10) .
قال النووي رحمه الله: «وقد ندب الشرع إلى الإمساك عن كثير من المباحات؛ لئلا ينجر صاحبها إلى المحرمات أو المكروهات, وقد أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه معنى الحديث فقال: إذا أراد أن يتكلم فليفكر, فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه تكلم, وإن ظهر له فيه ضرر أو شك فيه أمسك»(11).
إن حرية الكلام ليست مطلقة حتى عند دعاتها؛ وإنه لتناقض عند هؤلاء أن يكون القانون يُلجم أفواههم عن الكلام عن محرقة اليهود، وأخبار جنودهم القتلى في أرض المسلمين، بينما يستنكرون علينا أن نمنع من يسب الله أو رسوله أو دينه، أو يقذف المحصنات المؤمنات، أو غير ذلك مما حرم الله النطق به لما يترتب عليه من مفاسد ومضار.
إن المسلم مطلوب منه ألَّا يسكت على الخطأ والزلل، وعليه واجب التذكير والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهذا منافٍ لدعوة حرية الكلام, فمن تكلم بكلام محرم فالواجب منعه من هذا الكلام، ونهيه عن هذا المنكر.
والإسلام لا يمنع الناس من التعبير عن آرائهم فيما يجري حولهم في السياسة والاقتصاد، والمسائل الاجتماعية، ولا يمنع من الكلام في نقد الأخطاء، ونصح المخطئين، وكل ذلك ينبغي أن يكون مقيَّدًا بشروط الشرع وآدابه، فلا دعوة للفوضى، ولا اتهام للأبرياء، ولا قذف للأعراض، وغير ذلك مما هو معروف من أحكام الشرع التي تضبط هذه المسائل.
وقد وجدنا أن أكثر أصحاب دعاوى حرية الكلام والرأي مقصدهم من ذلك حرية التطاول على الدِّين الإسلامي وشرائعه, فيصلون إلى مقصدهم من خلال حرية الرأي.
فتطاولوا على حكم الله بدعوى حرية الكلام, وطعنوا في القرآن والسنَّة بدعوى حرية الكلام, ودعوا إلى الزنا والفجور والخنا بدعوى حرية الكلام.
وقد تبع هؤلاء بعض المنافقين في بلاد الإسلام، الذين يطعنون في أحكام الشريعة الإسلامية، ويطعنون في القرآن وفي السنة النبوية الصحيحة.
والواجب على حكام المسلمين الأخذ على أيدي هؤلاء، ومنعهم من هذا المنكر، حفاظًا على دين الأمة، وقيامًا بما أوجب الله عليهم من حماية الدين والدفاع عنه.
والحاصل: أننا نحن المسلمين ليس عندنا ما يسمى بحرية الرأي أو التعبير المطلقة، وإنما عندنا الخضوع لحكم الله تعالى، وعدم الخروج عن شرعه، فمن تكلم بالحق وجب أن يعان، ومن تكلم بالباطل وجب أن يمنع.
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز أن يكون هناك ما يسمَّى بحرية الرأي؛ أي: يُفتح المجال لأهل الخير وأهل الشر، كلٌّ يدلي بدلوه في المجتمع؟
فأجاب: «هذا باطل، لا أصل له في الإسلام؛ بل يجب أن يُمنع الباطل، ويُسمح للحق، ولا يجوز أن يُسمح لأحد يدعو إلي الشيوعية، أو الوثنية، أو يدعو إلى الزنا، أو القمار، أو غير ذلك، سواء بالأسلوب المباشر، أم غير المباشر؛ بل يُمنع، ويؤدب؛ بل إن هذه هي الإباحية المحرمة»(12).
وفي الختام: كلما استبدت عقدة الشهرة بجاهل بحث عنها في الهجوم على الدين.
***
_______________
(1) الشباب والتيارات المعاصرة، محمد بن سعد الشويعر، مجلة البحوث الإسلامية (العدد:26).
(2) عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين، ص7.
(3) الاستشراق المعاصر وأثره في ظاهرة التطاول على الإسلام، شبكة: صيد الفوائد.
(4) معركة وهمية، مجلة البيان (العدد:17).
(5) في ظلال القرآن (2/ 1061-1062).
(6) أخرجه البخاري (3606).
(7) أخرجه مسلم (1847).
(8) الموسوعة العقدية، الدرر السنية، المكتبة الشاملة (7/ 57).
(9) أخرجه البخاري (6113).
(10) أخرجه البخاري (5672) ومسلم (47).
(11) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 19).
(12) فتاوى إسلامية (4/ 367-368).