logo

صلاح الأمة وصفات الأئمة


بتاريخ : الأربعاء ، 29 صفر ، 1435 الموافق 01 يناير 2014
بقلم : تيار الاصلاح
صلاح الأمة وصفات الأئمة

قال الله تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وبهذا كانت دعوة الأنبياء والمرسلين؛ إصلاح الدنيا بالدين، فجاءوا إلى قومهم منذرين.

إن المعادلة القرآنية هي: كل طغيان في البلاد ينتج عنه إكثار في الفساد، وينتج عن الطغيانِ والفسادِ العذابُ والعقاب، يوقف الله بالطغاة الفاسدين المفسدين، وهذا ليس خاصًا بالطغاة السابقين؛ كعاد و ثمود وفرعون، ولكنه قاعدة مطردة، وسنة ربانية دائمة، تنطبق على الطغاة في كل زمان ومكان.

قال السعدي: »وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة، وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية...، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه»(1).

لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:

كلمة أطلقها الإمام مالك فصارت قاعدة رئيسية في إصلاح الأمة، وهي أيضًا حقيقة لا تقبل التبديل ولا التحريف، فصلاح الأواخر لا يمكن بحال أن يكون بعيدًا عن صلاح الأوائل؛ لأن الطريق واحد، وكما قيل: لا صلاح للخلف إلا بترسم منهج السلف، قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].

»فالذي صلح به الصحابة هو الذي يصلح به مَن بعد الصحابة، ولا طريق ولا سبيل للآخرين أن يصلحوا غير الطريقة التي صلح بها الصحابة، وذلك بالإخلاص والمتابعة، الإخلاص لله وحده؛ فتكون العبادة خالصة لوجه الله لا شرك لغيره فيها، كما قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال مالك رحمه الله: ما لم يكن دينًا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه لا يكون دينًا إلى قيام الساعة«(2).

فالذي صلح به أول هذه الأمة حتى أصبح سلفًا صالحًا هو هذا القرآن الذي وصفه منزِّلُه بأنه إمام، وأنه موعظة، وأنه نور، وأنه بينات، وأنه برهان، وأنه بيان، وأنه هدى، وأنه فرقان، وأنه رحمة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه قول فصل وما هو بالهزل، ووصفه من أنزل على قلبه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخلق جديده، ولا يبلى على الترداد، ولا تنقضي عجائبه، وبأن فيه نبأ من قبلنا، وحكم ما بعدنا، ثم هو بعد حجة لنا أو علينا.

القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة، وحرر العقول من ربقة التقاليد السخيفة، وفتح أمامها ميادين التأمل والتعقل، ثم زكى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة، وزينها بالفضائل والآداب، والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية، وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية، وسوى بين الناس في العدل والإحسان، فلا فضل لعربي إلا بالتقوى على عجمي، ولا لملك على سوقة إلا في المعروف، ولا لطبقة من الناس فضل مقرر على طبقة أخرى(3).

الإصلاح العام منوط بالإصلاح الخاص:

إن بداية التغيير إنما هي من النفس، نعم من داخل النفس وليس من الخارج، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].

هذه قاعدة مطردة، وسنة إلهية ثابتة في قضية الاستقامة وضدها، والسعادة والشقاء، وهي أن التغيير يبدأ من الإنسان ذاته، ومن داخل النفس ذاتها، وهي قاعدة يحتاجها الناس للتعامل بها مع أنفسهم والتعامل مع سواهم، ويحتاجها المربون والمصلحون؛ كي يسيروا على نهجها في أساليبهم وطرائقهم، فيأتوا الأمور من أبوابها.

لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى متمسكة بكتاب الله، عاملة بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، صحيحة في عقائدها، صالحة في أعمالها، حسنة في معاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها، بصيرة في دينها، راقية في آدابها وعلومها، فكانت عزيزة الجانب، قوية الشوكة، جليلة مهيبة، صاحبة السلطان والصولة على من عداها، واليوم تغير أمرها، وتبدل حالها، اختلت عقائدها وفسدت أعمالها، وساءت معاملاتها وعادتها، وتدهورت أخلاقها، وجهلت أمر دينها ودنياها، وتأخرت علومها وصنائعها، فصارت ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، ساقطة الكرامة، فاقدة الهيبة، مغلوبة على أمرها، متأخرة في مرافق حياتها، تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، وما ذلك إلا لأنها خالفت كتاب ربها، وانحرفت عن طريق الهادي نبيها، وسارت وراء هواها، وفتنت بزخارف الحضارة المزيفة، والمدنية الكاذبة، وظنت الإباحية حرية، والخلاعة رُقِيًّا، فتعدت حدود الدين والعقل.

وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم.

وبناءً على ذلك فإن هناك أمورًا بصلاحها يصلح الله تعالى حال أمتنا، ومنها:

أولًا: عقيدة صحيحة:

إصلاح الأمة لا بد أن يقوم على عقيدة صحيحة، تجافي الشرك والجهل والخرافات؛ لذا فقد كان أول شيء دعا إليه الرسل الكرام هو تصحيح العقيدة، فكان التوحيد الخالص المنزه عن الشركيات والبدعيات هو شعارهم جميعًا، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].

فالانحراف عن العقيدة الصحيحة مهلكة وضياع؛ لأن العقيدة الصحيحة هي الدافع القوي إلى العمل النافع، والفرد بلا عقيدة صحيحة يكون فريسة للأوهام والشكوك، كما أن المجتمع الذي لا تسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي، يفقد كل مقومات الحياة السعيدة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [ محمد:12](4).

لذا فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، بعد بعثته، ثلاث عشرة سنة يدعو الناس لتصحيح العقيدة وإلى التوحيد، ولم تنزل عليه الفرائض ولا التشريعات إلا في المدينة.

فالعقيدة ينبني عليها العبادات والمعاملات وجميع التصرفات، وبدون صحة العقيدة وسلامتها تسقط الأعمال وتصبح هباءً لا وزن لها، قال تعالى مخاطبًا صفيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر:65-66].

فالعقيدة الصحيحة هي التي ترتقي بالإنسان إلى المكان اللائق به، وهي التي تنقذه من رق العبودية لغير الله، وتحرره من استعباد الإنسان، ومن استعباد الخرافة والأهواء، وهي التي تنقذه من المحتالين والمضلين.

ثانيًا: عبادة قوية:

وبجانب العقيدة السليمة قامت العبادة الصحيحة، فإيمانك بالله يحتم عليك أن تعبده، فلا فاصل بينهما، وتأتي الآيات القرآنية متناسقة، تجمع العبادة والعقيدة في وتيرة واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة:21-22].

العبودية لله سبحانه وتعالى بأن تكون كل أمورنا في الحياة على وفق الإسلام؛ فلا يغلو طرف على الطرف الآخر؛ وبذلك تكون حياتنا صحيحة، وعبادتنا لله سبحانه وتعالى صحيحة، وجميع حياتنا عبادة لله سبحانه وتعالى، حتى اللقمة يرفعها الرجل إلى فيِّ امرأته له فيها أجر، حتى وهو يفكر ويعمل في أمور تنفع المسلمين ولمصلحتهم فله في ذلك أجر...، وهكذا.

ثالثًا: أخلاق كريمة:

وكما جاء دين الإسلام منهج هداية للبشرية في تصحيحها عقائدها، كذلك جاء لتهذيب نفوسها، وتقويم أخلاقها وأخلاق مجتمعاتها، ونشر الخير والفضيلة بين أفرادها، ومحاربة الشر والرذيلة وإطفائها عن بيئاتها، وسد منافذ الفساد أن تتسلل إلى صفوفها؛ لذلك فقد كانت مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ومعاني القيم، وفضائل الشيم، وكريم الصفات والسجايا من أسمى ما دعا إليه الإسلام، فقد تميز بمنهج أخلاقي فريد لم ولن يصل إليه نظام بشري أبدًا، وقد سبق الإسلام بذلك نظم البشر كلها؛ ذلك لأن الروح الأخلاقية في هذا الدين منبثقة من جوهر العقيدة الصافية، لرفع الإنسان، الذي كرمه الله وكلفه بحمل الرسالة وتحقيق العبادة، من درك الشر والانحراف وبؤر الرذائل والفساد إلى قمم الخير والصلاح، وأوج الاستقامة والفلاح؛ ليسود المجتمع السلام والمحبة والوئام، رائده نشر الخير والمعروف، ودرء الشر والمنكر والفساد(5).

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا«(6).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق«(7).

قال ابن القيم رحمه الله: «إن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طُبعت النفوس عليها...»، ثم قال رحمه الله: «فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز كسر جيوش الرياضة وشتتها، واستولى على مملكة الطبع»، ويعني بقوله (سلطان الأخلاق): الدين والإسلام، حيث قال في موضع آخر: «وأما صحة الإسلام فهو جماع ذلك، والمصحح لكل خلق حسن، فإنه بحسب قوة إيمانه، وتصديقه بالجزاء، وحسن موعود الله وثوابه يسهل عليه تحمل ذلك، ويلذ له الاتصاف به(8).

إن الـمكارم أخــلاق مـطـهــرة       فالـدين أولهــــــا والعـقـل ثانيـها

والعـلـم ثالـثهـا والحِـلم رابعـها       والجود خامسها والفضل ساديـهَا

والـبرُّ سابعـها والصـبر ثامنها       والشكـر تاسعهــــا واللـين باقيـها

والـنفس تعـلم أَنّي لا أصـادقها       ولست أرشـــد إلا حـين أعصـيها

والعين تعلم من عيني محدثها       إن كان من حزبها أو من أعاديها

عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(9).

رابعًا: اتباع الكتاب والسنة:

القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة؛ بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها، وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر، ولا يهضم له حق، على أساس من الحب والعدل والإحسان، والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية، والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، ولا يضيع له مطلب(10).