مقومات التعارف
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فهذه الآية جاءت تنبيهًا إلى وحدة أصل الإنسان رغم تفرُّق الشعوب والقبائل، ووحدة إمكاناته واستعداداته، على تعدد أوصافه وتنوع مكتسباته، وضرورة التعارف المؤدي إلى التآلف والتواد المنافي لأنواع التعالي والتفاخر والتعاظم، وتحديد مقياس التفاضل الحق بين الناس، وأساسه هو التقوى، التي تعني الاستقامة على ما يحقق للإنسان سعادته في الدارين، وراحته وطمأنينته في الحياتين، والمقياس الذي يبعث على التنافس الجميل، لا على التحاسد البغيض، وكانت الآية تبيانًا لما تقدم قبلها في السورة وتقريرًا له (1).
المقوم الأول: الدين:
قال الرازي: فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون متقاربون، وشيء من ذلك لا يؤثر مع عدم التقوى، فإن كل من يتدين بدين يعرف أن من يوافقه في دينه أشرف ممن يخالفه فيه، وإن كان أرفع نسبًا أو أكثر نشبًا، فكيف من له الدين الحق وهو فيه راسخ، وكيف يرجح عليه من دونه فيه بسبب غيره، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]، فيه وجهان أحدهما: من آدم وحواء، ثانيهما: كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم.
فإن قلنا إن المراد هو الأول، فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض لكونهم أبناء رجل واحد، وامرأة واحدة، وإن قلنا إن المراد هو الثاني، فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين، فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب، لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين، لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام؛ بل أضل، والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه، والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس إذ كلهم من ذكر وأنثى، فلا يبقى لذلك عند هذا اعتبار.
إذا جاء الشرف الديني الإلهي، لا يبقى الأمر هناك اعتبار، لا لنسب ولا لنشب، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبًا، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبًا، لا يقاس أحدهما بالآخر، وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديِّنًا عالمًا صالحًا، ولا يصلح لشيء منها فاسق، وإن كان قرشي النسب، وقاروني النشب، ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين، وأحدهما نسيب ترجح بالنسب عند الناس لا عند الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وشرف النسب ليس مكتسبًا ولا يحصل بسعي (2).
المقوم الثاني: الافتخار ليس بالأنساب:
وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص؛ فإن كان ذلك الشخص شريفًا صح الافتخار في ظنكم، وإن لم يكن شريفًا لم يصح، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة، فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء، وإن كان بالاكتساب فالديِّن الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر، فكيف يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد؟ اللهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أحدًا لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك، ولكن في هذا النسب أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب (3).
عن أبي هريرة، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، فقال: «يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت رسول الله، سليني بما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا» (4).
إن التفاخر بسبب الأصل غير جائز ولا مقبول فيه التآلف، فإن الله سبحانه وتعالى يشير من خلاله قوله: {إِنَّا خَلَقْناكُمْ} و{وَجَعَلْناكُمْ} إلى أن الفخر لا يكون بالأشياء التي لا دخل للإنسان بها، فهو لم يسعى في تحقيقه، فإن الخالق هو الله، ولذا يكون موضع الافتخار الصحيح في المعرفة به وتقواه.
المقوم الثالث: التعارف تفاهم وتعاون:
المقصود هو التعارف المبني على النصح والنصر بالعدل والحق، وأن يكون الناس متعاونين في إعمار الأرض، وأداء الحقوق والإرث بين ذوي القربى، وإثبات الأنساب.
وهذا يحدث عندما يكون البشر مجموعة من الشعوب والقبائل المختلفة، لكن هذا الحال لم يجعل هناك تساوي بين الناس؛ بل أصبح هناك مجال للاختلاف ولكن طريقه هو التقوى، فأكثر البشر تقوى هو المستحق بأن يكرمه الله.
يتبيَّن لنا أن المجتمع مجتمع تعارُفٍ ومساعدة واحترام، والله سبحانه وتعالى حذَّرنا من مجموعة من الأخلاق الذميمة والرذيلة، خاصة في سورة الحجرات، فنهانا عن سوء الظن واللمز، والفسق، والغِيبة والنميمة، وكل ما يعود على البشرية بالضرر، وتسهم في تمزيقها وتناحرها، وبعد ذلك أمَرَنا بالتعارف؛ ليدلنا على قيمته ومكانته وإسهاماته في تحقيق الوحدة، وربط الأواصر لتحقيق الأخوة الصادقة؛ لأن الله أراد منا أن نتَّحد، وحذرنا من الفُرقة والاختلاف... فقال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وبالتالي فإن في القرآن الكريم ما لا يعد ولا يحصى من الآيات التي تأمرنا بالوحدة والتماسك، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح الاجتماعيِّ والسياسي والإنساني الإسلامي.
وتعد قيمة التعارف من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، وهي بمنزلة قانون أو قاعدة عامة من أصول الإسلام الكبرى؛ فالتعارف قاعدة اجتماعية عظيمة، وأصل من أصول الإسلام الكبرى لطبيعة العمران الاجتماعيِّ في الإسلام، المبنيِّ على حقائق الإيمان، إنه عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناسِ، المتعددة الشعوبِ، وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع، إنه ميزان الله المبرَّأ من شوائب الهوى والاضطراب (5).
فالله سبحانه وتعالى خلق الناس سواسية بميزان العدل والحكمة، لا تفاضُل بينهم إلا بالتقوى، وإنِ اختلفوا في اللون والعِرق والدِّين واللغة والجنس والصفة، فميزان الله لا يعرف الفوارق ولا الطبقات، والشريف والضعيف، والهوى والاضطراب، والميل والانحياز، والظلم والغشَّ.
وعلى أي حال، فالاعتزاز بالنفس والافتخار مع التكبر والعناد من صفات الشياطين المردة، والكفار الجبابرة، ومن يحذو حذوَهم في هذه الخصال والصفات.
إننا اليوم -رغم العصرنة، والتقدُّم والازدهار، والحضارة والتكنولوجيا- ما زلنا نعيش مثل هذه الأخلاق التي انتشرت في المجتمع الجاهليِّ؛ من عصبية وكبرياء، وأنفة وطيش... إلى غير ذلك، وفي هذا الصدد يقول الشاعر الجاهليُّ عمرو بن كلثوم:
ملأنا البَرَّ حتى ضاق عنَّا وماء البحر نملؤه سَفِينَا
إذا بلَغَ الفِطامَ لنا صبيٌّ تخرُّ له الجبابرُ ساجدينَا
ألَا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينَا (6)
فهذا الشاعر الجاهليُّ يصوِّر لنا هذه الأخلاق الذميمة، التي ينبذها الإسلام ويرفضها، حيث يقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فالعفو والصفح من سمات عباده المتقين الذين يسعَون في صلاح أنفسهم وفي صلاح غيرهم، ويتعاونون على البر والتقوى، ويجتنبون كلَّ الطرق المؤدية بهم إلى المعاصي، مما ينسجم مع قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
فهذا هو الإنسان الصالح؛ يحب الخير، وينبذ الشر، ويميل إلى الآخر من حيث يدري أو لا يدري، ويشاركه ويخدمه، يتقاسمون كلَّ المسرات والمضرات رغم اختلافهم في المعيشة والرزق؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
والتعاون والخدمة، وتبادل الآراء والخبرات، وتقديم التضحية والجهد من أجل الآخر- كلُّ هذا لا يتحقق إلا تحتَ ظلِّ قيمة التعارف، التي هي أصلٌ لجلِّ القيم الأخرى، والمقاصد الكبرى.
المقوم الرابع: الحض على صلة الأرحام:
أمرنا الله سبحانه أن نتحلى بهذا الخلق العظيم والنبيل في مجموعة من آي القرآن؛ كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]، وقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]، وقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 22- 23]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم» (7)، وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه: اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا قُرب بالرحم إذا قُطعت وإن كانت قريبة، ولا بُعد بها إذا وُصلت وإن كانت بعيدة (8).
قال المناوي: أي مقدارًا تعرفون به أقاربكم لتصلوها فتعليم النسب مندوب لمثل هذا وقد يجب إن توقف عليه واجب (9).
كلُّ هذه الأدلة تبيِّن مكانة صلة الرحم، الذي يحصل من خلاله التعارف العمرانيُّ الإنساني فيما بينكم؛ من أجل التعاون على البر والتقوى، وبناء الحضارة الإنسانية على توحيد الله وعبادته، وإنما يكون ذلك بتمتين روابط الأنساب، وحفظ أرحامها؛ أسرةً وقبيلةً وشعبًا (10).
فبالتعارف يحصل الحب والودُّ بيننا، والتعاون على الخير ومشاريعه، وتبادل الأفكار والخبرات والنصح، ونتَّحد صفًّا صفًّا، وبهذا المعنى نستطيع أن نبني الحضارة ونشيدها بما تَحمِل كلمة حضارة من معاني التطور والتقدم والازدهار.
المقوم الخامس: الإصلاح الاجتماعيِّ:
قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128]، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتفق مع مبدأ التعارف، أضف إلى ذلك اعتبار العرف، فاعتبار العرف في التشريع عملًا بما تعارف الناس عليه، ما لم يكن عرفًا فاسدًا يخالف الشرع، كما هو مقرر في مجاله من المباحث الأصولية (11).
يتبيَّن لنا مدى شرعية التعارف حتى فيما يتعلق بأمور الناس الدينية والدنيوية، إن لم يخل بالشريعة الإسلامية، أي: لم يتصادم مع نص من النصوص القرآنية والحديثيَّة، أو الإجماع، أو القياس، إلى غير ذلك من المصادر التشريعية في الشريعة المحمدية، كما نجد أن من مقاصد القرآن الكريم أيضًا مقصد الإصلاح الاجتماعيِّ الإنساني والسياسي، الذي يتحقَّق بالوحدات الثمان: وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، الدين، التشريع بالمساواة في العدل، الأخوة الروحية والمساواة في التعبد، السياسة الدولية، القضاء، اللغة، والأصل الثاني يتمثل في الوحدة الإنسانية بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم.
فحينما نتحدث عن وحدة الأمة، ووحدة الجنس البشريِّ، نستحضر قيمة الوحدة وما لها من قوة وجبروت، نستطيع أن نتحدى بها جميع المواجهات والصدامات والنقص الذي قد يتعرض لها، أو يتعرض ويصيب بعضها.
وحينما نتحدث عن تشريع العدل والمساواة، نستحضر الأمة الخيرية، ومحاربة الفقر، وتحقيق التنمية والاكتفاء الذاتي، وانتشار الأمن والسلام في كل بقاع الأرض، وبذلك يحصل التعارف والتمكين والعمارة والاستخلاف التي تعد من الأصول الكبرى التي دعت إليها الشريعةُ الغراء.
المقوم السادس: التواصل:
كما أن بعض معاني التعارف يدور على الاطمئنان، وهذا ينسجم مع لفظ التعارف بالمعنى الذي يحقِّق التواصل، ويكون في بعض مراحله من لوازم القيام بالخلافة في الأرض وتعميرها، ويرتبط بعدة مقاصد مقرَّرة في الشرع، إنه من المعلوم أن استمرار وجود النسل -الذي هو وسيلة إعمار الأرض والخلافة فيها- لا يتم إلا بالزواج بين الذكر والأنثى، ولا زواج بدون تعارف، بل إن أهم أسس العلاقة بين الزوجين هي المودة والرحمة والسكن والاطمئنان، الذي عليه مدار التعارف في كلِّ هذه المعاني الثلاثة، وقد يكون الزواج وسيلة للتعارف على نطاق أوسع (12).
وحفظ النسل ضرورة من الضروريات الخمس، ولا يمكن حفظُ هذه القيمة إلا بالزواج، والزواج باعتباره ضرورة من ضرورات الحياة لا يتحقق إلا بالتعارف، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أهمية ومكانة التعارف.
فلا بد من قراءة جديدة، واستيعاب لهذه القضايا والمفاهيم الجديدة، وإعادة النظر في العنصرية والتمييز الذي ابتُليت به الأمة أشدَّ بلاء، وبذل الجهد والسعي نحو إدراك هذه الحقيقة وهذه القيمة، ووضع الخطط والبرامج العلمية والأوعية الشرعية، والامتداد بالاجتهاد في إقامة المؤسسات ووضع الدراسات، والإفادة من التجارب التاريخية العامة والخاصة لحماية هذه القيم، ومراقبة تطبيقها، وحسن تنزيلها على الواقع، والحيلولة دون القراءات الخاطئة لفهم المجتمعات الإسلامية، والتأويل الخاطئ للقيم نفسها في الكتاب والسنة (13).
فلا وجود لشعب الله المختار، فكل من يريد أن يختاره الله له الحقُّ في أن يقترب أكثر فأكثر من خالقه؛ حتى يطبق تمامًا أوامره ونواهيه، وينال رضاه واختياره وحينما نسمع التعارف والدعوة إلى تفعيله وتطبيقه، فإن هذا لا يعني أننا فتحنا الباب على مصراعيه، لكنْ هناك ضوابطُ وشروط ينبغي أن نراعيها، خاصة مع غير المسلمين، ومن هذه الضوابط ما يأتي:
المقوم السابع: ضوابط التعارف بين المسلمين وغيرهم:
- إذا ثبت بأن التعارف بين المسلمين وغيرهم مطلوب شرعًا، فإنه ينبغي أن يُضبط بضوابط تجعله يحقِّق مصالح المسلمين، ويدفع الضررَ عنهم، وأن يكون منطلَق هذا التعارف مِن نِدِّيَّةٍ كاملة بين الطرفين؛ حتى يتبين الحق وأصحابه، وأن يكون هدف المسلمين من هذا التعارف هو تبليغ الدين للناس كافة وتعريفهم به.
- أن يكون من أهداف التعارف الإضافية الحصول على ما عند الآخر من معرفة ونفع (14)، وهذه المنافع قد تكون تجارية أو صناعية، خاصة وسائل الاتصال والوسائل التي لا بد منها لتبادل المعارف والعلوم... أو التعرف على عادات الأمم في العيش والاعتبار، والاطلاع على مختلف مكونات الحضارة من خلال السير في الأرض والسياحة؛ قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 11].
- والناس على اختلاف أنسابهم وألوانهم، وتنوُّع مشاربهم وتوجُّهاتهم يضربون في الأرض، ويجوبون الآفاق؛ طمعًا في توفير السعادة والطمأنينة، وسعيًا إلى تحقيق التعارف والألفة، وتبادل المصالح والمنافع، لكن منهم من يسلُكُ سبيل الرشد والسداد والمصلحة، ومنهم مَن نهج الضلال والزيغ والمفسدة، ومنهم من يغتر بالحال ويغفل عن المآل (15).
- أخيرًا وليس آخرًا فالتعارف مطلوب شرعًا، وإنه قد يكون منه ما هو ضروري كما سبقت الإشارة إليه، والحديث عن علاقاته بالكليات الخمس، وقد يكون حاجيًّا أو تحسينيًّا (16)، كما ثبت بالتتبُّع والاستقراء لنصوص الشريعة، والأمر الواضح بالتعارف والتآلف في القرآن الكريم والسنة المتواترة: أن التعارف مطلوب شرعًا، قد يكون طلبه لذاته، وقد يكون لغيره كما سبق.
ومن المعلوم أن الغاية من خلق الإنسان تتمثَّل في الخلافة في الأرض، وعمارتها بالعبادة والعمل النافع، وأن الله تعالى خلق الإنسان لهذه الغاية العظمى، وزوَّده بالإيمان والعلم والبيان؛ ليتمكَّن من القيام بهذا الدور الذي خُلق من أجله، كما هو مبين (17)، في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وإني أرى أن كلَّ هذه الأصول والوظائف لا تحقَّق إلا بالتعارف.
المقوم الثامن: رفض العنصرية:
يرفض الإسلام جميع أشكال التمييز العنصري وأنماطه المختلفة، وقرّر إن المقياس هو الخوف من الله فقط، كما أثبت تواجد الاختلافات في الطبيعة الإنسانية، من آيات إبداعه في الخلق، حيث قال الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].
واختلاف لغاتكم فهذا يتكلم بالعربية، وآخر بالفارسية وثالث بالرومية.. إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التي يتكلم بها أفرادها، ومئات اللهجات {وَأَلْوانِكُمْ} أي: ومن آياته كذلك، اختلاف ألوانكم، فهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أصفر، وهذا أشقر.. مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة وهما آدم وحواء، بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقًا تامًا في خلقتهما وشكلهما (18).
المقوم التاسع: محاربة التعصب:
يعيب الدين الإسلامي على كل من له عصبية، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل تحت راية عمية، يدعو إلى عصبية، أو يغضب لعصبية، فقتلته جاهلية» (19).
وقد اعتصم في هذا العصر أهل أوربا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب في الجاهلية، فسرى سم ذلك إلى كثير من متفرنجة المسلمين، فحاول بعضهم أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية لتعذر الجنسية النسبية، ويوجد في مصر من يدعو إلى هذه العصبية الجاهلية مخادعين للناس بأنهم بذلك ينهضون بالوطن ويعلون شأنه، وليس الأمر كذلك فإن حياة الوطن وارتقاءه باتحاد كل المقيمين فيه على إحيائه، لا في تفرقهم ووقوع العداوة والبغضاء بينهم ولا سيما المتحدين منهم في اللغة والدين أو أحدهما، فإن هذا من مقدمات الخراب والدمار، لا من وسائل التقدم والعمران، فالإسلام يأمر باتحاد اتفاق كل قوم تضمهم أرض وتحكمهم الشريعة على الخير والمصلحة فيها -وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم- ويأمر مع ذلك باتفاق أوسع، وهو الاعتصام بحبل الله بين جميع الأقوام والأجناس، لتتحقق بذلك الأخوة في الله.
ولذلك قال بعد الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن التفرق: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، يشير إلى ما كان عليه المؤمنون في عصر التنزيل من أخوة الإيمان التي بها قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم، وبها كان يؤثر بعضهم بعضًا بالشيء على نفسه وهو في خصاصة وحاجة شديدة إلى ذلك الشيء، بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة والبغضاء وتسافك الدماء ما هو معروف في جملته للجماهير، وفي تفاصيله الغريبة للمطلعين على أخبارهم المروية والمدونة، ومنها أن الحروب تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الإسلام، وألف الله بين قلوبهم برسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا بعض ما أفادهم الإسلام في حياتهم الدنيا، وقد أنقذهم فيما يستقبلون من أمر الآخرة مما هو شر وأدهى وأمر (20).
المقوم العاشر: محو الفوارق الطينية بين البشر:
أزال الفروقات المبنية على الطبقات والقوميات، في سعيه الدائم والواضح، لجعل الإنسان محررًا من عبوديته لمثله العبيد المخلوقات، إلى العبودية للخالق رب كل الخلق، فنزلت المبادئ التشريعية الإسلامية التي هدفت إلى محو العبيد وتجارة الرقيق.
وقد كانت فاشية في الجاهلية في منطقة الجزيرة العربية، ومن بين هذه المبادئ كفارة اليمين، والظهار، والقتل الخطأ.
قام الإسلام بكسب الصحابة العظام على مبدأ الولاء للعقيدة الدينية، وتخلص من كل فارق مبني على اللون أو الأصل، فترى راية الإسلام جامعة تحت جناحيها كلًا من سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي كل هؤلاء مع العرب والقرشيين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد بيّنت لنا جائحة كورونا (كوفيد 19) أن المؤسَّسات الاقتصادية العالمية مثل الاتحاد الأوربي وحركة العولمة الاقتصادية؛ لم تحقّق التَّضَامنات المطلوبة والتَّعاون اللازم، وهذا دليل على أنَّ الارتباط الاقتصادي وحده غير كاف كي تتضامن الإنسانية فيما بينها؛ بل يجب تنمية القيم الإنسانية ذات الطابع الروحي، والتعارف في مقدمة هذه القيم التي من الأفضل أن تسود.
ومدلول هذا، أن الحياة الأخلاقية للإنسان ليْست بخير، وأنَّ ثمَّة خلل ضمن الرُّؤى الأخلاقية، التي تجتهد لأجل صرف هذه الأمراض الإنسانية، وبيان هذا الأمر، أنَّ عديد الأمراض الاجتماعية لا زالت لم تتحقَّقُ بالعلاج الجذري بعد مثل: العنف (الرَّمزي والمباشر) والظّلم وأشكال الاحتقار الاجتماعي والتعدُّدية الثقافية المُتصادمة، هذه جميعًا باتت في أمس الحاجة إلى قوة تنظيرية أخلاقية تساعدها على التَّخفيف من الأمراض الاجتماعية التي في عمَّقها هي أمراض للحضارة من الدَّاخل وأعراضُ على أن المسألة تتعدّىَ طور الجزئيات إلى طور الكليات المعرفية أو الأفكار التي رسمت منهج الإنسان في تدبير الحياة.
يتضح مما سبق أن التَّعارف يجد ضمانته الأولى في الإيمان بالله والاعتراف بأنه مركز الطاعة، فالتَّعارف يستمد معناه من كونه مَعرفة روحية فطرية تسكن في قلب الإنسان وكلماتها هي التيقُّظ والتذكُّر للميثاق الأصلي بين الإله والإنسان، وقد ورد في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
إن مفهوم التَّعارف الذي ينبني على الانتساب الإيماني وتذكُّر المعرفة الأصلية، التي عِمادها الاعتراف بالوجود الإلهي وشهادة الإله على شهادة الإنسان، وإقامة الميثاق على توحيد الإله، وخلافته خلافة عُمرانية على الأرض، هو الحافز الرُّوحي الوجيه والأكثر قربًا إلى ذات الإنسان والأكثر تأهيلًا كي يجعلنا نبصر في الاختلاف الثقافي آية للاعتبار والعبور نحو تذكُّر النَّفس الواحدة التي منها خَلقنا الله، و”النَّفس الواحدة” بدورها هي التي تُثمر الكَلمة السَّواء ولوازمها القائمة على: توحيد الإله ونفي الظلم أي الحرية.
فالتَّعارف تَقْويةُ لحركة العِمارة بعد أن استبان لنا المُقوم الرُّوحي لمعنى التَّعارف، وكيف أنّه يوقظ في الإنسان الشُّعور بالأساس الإيماني لرفع الاختلافات الثقافية المُتصادمة، فإنَّنا نمضي إلى الاستدلال على أن التَّعارف يُقَوّي حركة العمران ويُحَقّقُ التَّبادُل والتَّكامل الوظيفي بين الخُصوصيات الإنسانية.
إن التَّعارف يرسم المسالك نحو الارتقاء في مراتب السُّلوك الروحي، فالاختلاف بين الشُّعوب الذي ينبني على تذكُّر انتساب الإنسان إلى الإيمان بالله، وعلى التّعاون لأجل التّكامل العمراني، يُلْفِت نظر الإنسان إلى أنَّ دوام التَّعارف ممدود نحو الاجتهاد من أجل تقوية الصّلة مع الله، لأنَّه معيار الكمال، فالكرامة الحقيقة تستمد معناها لا من التَّقوُّل بطهارة الدَّم ونقاء الأصل وأفضلية الحضارة والمفاخرة بالسّمات البيولوجية، لأن المعرفة الموضوعية بهذه التواريخ غير ممكنة؛ كما لا يحصل التَّواصل بين الثقافات بطريق العلاقات الاقتصادية المنفصلة عن محاسن الأعمال وأفضل الأخلاق، بل إنّ روح الكرامة الإنسانية تظهر في الأفعال المحمودة، والكَريم من الأفعال هو من كان فعلًا يقصد به نيل الرّضا من الله واستمداد الرَّحمة ونور الإيمان منه، لأنه لو لم يجتبيهم لخلافته لما أوجدهم، فخروج النَّاس من علم الوجود إلى عين الوجود مبني على اجتباء إلهي مقصود، وبما أن الإله قد اجتبي الإنسان وأمَدَّه بالنُّور وبالرحمة، فإنَّه حقيق به أن يجتهد لأجل تعديل ذاته وبناء سلوكه وفق أوامره الإلهية وليس أن يُكَيّف الأوامر الإلهية وفق مشتهيات نفسه.
إذن، فمعيار التَّفاضل في منظور التَّعارف هو بذل الروح لأجل فعل الواجبات الإلهية وترك المنهيات، إنّها وصية الله للإنسان: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] (21).
------------
(1) مجلة التذكرة (العدد: 11- 12/ ص: 28- 29).
(2) مفاتيح الغيب (28/ 113).
(3) تفسير الرازي (28/ 114).
(4) أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (206).
(5) مجلة أنوار (3/ 32).
(6) شرح المعلقات السبع (ص: 348).
(7) أخرجه الترمذي (1979).
(8) صحيح الجامع (1051).
(9) فيض القدير (3/ 252).
(10) مجلة أنوار (ص: 34).
(11) مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر (ص: 189- 190).
(12) مقاصد التشريع والسياق الكوني المعاصر (ص: 186).
(13) كتاب الأمة (39، 33).
(14) مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر (ص: 192- 193).
(15) مجلة التذكرة (ص: 28).
(16) مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر (ص: 194).
(17) مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر (ص: 178).
(18) التفسير الوسيط لطنطاوي (11/ 76).
(19) أخرجه ابن ماجه (3948).
(20) تفسير المنار (4/ 19).
(21) مقومات التعارف وقيمه/ إسلام أون لاين.