logo

سنة الاستدراج


بتاريخ : الخميس ، 28 رجب ، 1440 الموافق 04 أبريل 2019
بقلم : تيار الاصلاح
سنة الاستدراج

الاستدراج هو الأخذ بالتدريج، منزلة بعد منزلة، والدرج: لف الشيء، يقال: أدرجته ودرجته، ومنه أدرج الميت في أكفانه، وقيل: هو من الدرجة، فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود، قال الضحاك: «كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة»، وقيل لذي النون: «ما أقصى ما يخدع به العبد؟»، قال: «بالألطاف والكرامات»؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]، نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر(1).

قال أبو عبيدة: «الاستدراج أن تدرج إلى الشيء في خفية قليلًا قليلًا ولا تهجم عليه، وأصله من الدرجة؛ وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة، ومنه درج الكتاب: طواه شيئًا بعد شيء، ودرج القوم: ماتوا بعضهم في إثر بعض»(2).

وقال الرازي: «ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا؛ ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده، فيزداد كل يوم بعدًا من الله، وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة، فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا، ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب، وذلك يوجب حصول اللذة، وحصول اللذة يزيد في الميل، وحصول الميل يوجب مزيد السعي، ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر، وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة، ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف، فلا جرم يزداد بُعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل؛ فهذا هو الاستدراج»(3).

فقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}؛ أي: نستميلهم وهم هابطون إلى هوة العذاب درجة بعد درجة حتى ينتهوا إلى العذاب، وذلك بإدرار النعم عليهم مع تماديهم في التكذيب والعصيان؛ حتى يبلغوا الأجل المحدد لهم ثم يؤخذوا أخذة واحدة(4).

قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، فذلك من سنة الاستدراج بالمكر الرباني، فقد عوقبوا بالغفلة فظنوا النعمة حال الإقامة على المعصية منحة، فتمادوا في العصيان، وفرحوا فرح البطِر الأشِر، الذي عميت بصيرته فآمن مكر الرب جل وعلا، ففتحت عليهم الأبواب.

والعموم في الآية مخصوص بأبواب النعم الكونية، وفيه زيادة في معنى المبالغة إمعانًا في تقرير سنة المكر الربانية، فجاءت العقوبة بالأخذ في مقام الجلال، فهو من الأخذ الكوني النافذ برسم العقوبة العامة، فحسنت من هذا الوجه إضافته إلى ضمير الفاعلين مئنة من التعظيم، وزيد في معنى العقوبة بوقوعها (بغتة)، فذلك من المصدر الذي وقع حالًا على تأويله بـ (مباغتين)، ووقوع الحال مصدرًا يؤول بها؛ مما يزيد المعنى تقريرًا، على وزن قولك: جاء زيد ركضًا، ففيه إمعان في بيان هيئة الركض الذي جاء عليها زيد، فيصدق عليه تأويل سنة الأخذ الرباني عقيب الفرح المذموم.

وكذلك الشأن في نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:83]، ففرحوا بما عندهم من العلم الديني الباطل والقياس العقلي الفاسد، فقدموه على بينات النبوات المؤيدة بالقياس العقلي الصريح، وفرحوا بما عندهم من العلم الكوني، كما هي حال من فتن بالعلوم التجريبية في زماننا، وما هي إلا رصد لآثار سنن كونية محكمة، فليست إبداعًا؛ وإنما هي اكتشاف محض لما قد ركز أزلًا من القوى الكونية في طبائع الأشياء(5).

قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم:44]؛ يعني: القرآن، وهذا تهديد شديد؛ أي: دعني وإياه مني ومنه، أنا أعلم به كيف أستدرجه، وأمده في غيه وأنظر، ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم:44]؛ أي: وهم لا يشعرون؛ بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، كما قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون:55-57]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]؛ ولهذا قال هاهنا: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45]؛ أي: وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم، وذلك من كيدي ومكري بهم؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}؛ أي: عظيم لمن خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي.

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته»(6)، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102](7).

إن الاستدراج هو تحويل النعم إلى نقم، ظاهرها الخير وباطنها العذاب الشديد؛ ولذا جاء عن القرطبي في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] «دليل على أن الكفار غير منعم عليهم في الدنيا؛ لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة، ونعم الكفار مشوبة بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم، فهو وإن استلذ آكله لا يقال: أنعم عليه؛ لأن فيه هلاك روحه»(8).

إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم، ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم؛ وذلك لأنهم كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم بابًا من أبواب النعمة والخير في الدنيا، فيزدادون بطرًا وانهماكًا في الفساد وتماديًا في الغي، ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم، ثم يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى: «اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا فإني سمعتك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}»(9).

قال سفيان الثوري: «نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر، وقال الحسن: (كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه)، وقال أبو روق: (أي كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار)»(10).

{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}؛ أي: وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر، وأمدّ لهم في أسباب المعيشة والتدرب على الحرب بمقتضى سنني في نظام الاجتماع البشري(11).

{بِهَذَا الْحَدِيثِ} القرآن، {سَنَسْتَدْرِجُهُم} نأخذهم في غفلة أو نتبع السيئة السيئة وننسيهم التوبة، أو أخذهم حيث درجوا ودبوا، أو تدريجهم بإدنائهم من العذاب قليلًا بعد قليل حتى يلاقيهم من حيث لا يعلمون؛ لأنهم لو علموا وقت العذاب لارتكبوا المعاصي واثقين بإمهالهم، أو يستدرجون بالإحسان، والاستدراج: النقل من حال إلى حال، ومنه الدرجة؛ لأنها منزلة بعد منزلة(12).

إن شأن المكذبين وأهل الأرض أجمعين لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير، ولكنه سبحانه يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان، وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارّون، وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير، وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب.

وليس أكبر من التحذير وكشف الاستدراج والتدبير عدلًا ولا رحمة، والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير، وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم، فقد كشف القناع ووضحت الأمور، إنه سبحانه يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته، ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم:44]، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان، فسأملي لهم، وأجعل هذه النعمة فخهم! فيطمئن رسوله، ويحذر أعداءه، ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب(13).

الفرق بين الكرامة والاستدراج:

«إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة؛ بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد، وحذره من قهر الله أقوى، فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج، وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه، ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقًا لها، وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه، ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه، ولا يخاف سوء العاقبة، فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجًا لا كرامة.

فلهذا المعنى قال المحققون: أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات، فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء.

والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه:

الحجة الأولى: أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذا الكرامة؛ لأن بتقدير ألَّا يكون مستحقًا لها امتنع حصول الفرح بها؛ بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه، فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه، وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها؛ وهذا عين الجهل؛ لأن الملائكة قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وأيضًا قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق، فكيف يحصل ظن الاستحقاق؟

الحجة الثانية: أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقًا للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلًا، ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير، وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور، وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل، رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، فقال: (علامة أن الحق رفع عملك ألا يُبقي ذكره عندك، فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع، وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول).

الحجة الثالثة: أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله، فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات، فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردودًا؛ ولهذا المعنى لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها: «ولا فخر»؛ يعني: لا أفتخر بهذه الكرامات، وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي.

الحجة الرابعة: أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيمًا، ثم قيل لإبليس: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، وقيل لبلعام: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176]، وقيل لعلماء بني إسرائيل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، وقيل أيضًا في حقهم: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]، فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد.

الحجة الخامسة: أن الكرامة غير المكرم، وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل، وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل؛ ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه: (أما إليك فلا)، فالاستغناء بالفقير فقر، والتقوي بالعاجز عجز، والاستكمال بالناقص نقصان، والفرح بالمحدث بله، والإقبال بالكلية على الحق خلاص(14).

فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته، أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم، ولا في الإعزاز إلا المعز، ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول.

الحجة السادسة: أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون، قال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، وقال فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51]، وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب؛ ولهذا قال عليه السلام: «ثلاث مهلكات، وختمها بقوله: وإعجاب المرء بنفسه»(15).

الحجة السابعة: أنه تعالى قال: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطي لا بالفرح بالعطية.

الحجة الثامنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خيره الله بين أن يكون ملكًا نبيًا وبين أن يكون عبدًا نبيًا ترك المُلك، ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات؛ بل من المعجزات، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك الملك واختار العبودية؛ لأنه إذا كان عبدًا كان افتخاره بمولاه، وإذا كان ملكًا كان افتخاره بعبيده، فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)، وقيل في المعراج: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] .

الحجة التاسعة: أن محب المولى غَيْرٌ، ومحب ما للمولى غير، فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى، فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محبًا للمولى؛ بل كان محبًا لنصيب نفسه، ونصيب النفس إنما يطلب للنفس، فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه، وما كان المولى محبوبًا له؛ بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب.

والصنم الأكبر هو النفس، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر، حتى أن المحققين قالوا: لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس، ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات.

الحجة العاشرة: قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2-3]، وهذا يدل على أن من لم يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء من هذه الأفعال والأحوال(16).

***

____________

(1) تفسير القرطبي (7/ 329).

(2) البحر المحيط في التفسير (5/ 233).

(3) مفاتيح الغيب (21/ 438).

(4) أيسر التفاسير، للجزائري (2/ 267).

(5) من وصف الحياة الدنيا في التنزيل، أرشيف منتدى الفصيح.

(6) أخرجه البخاري (4686).

(7) تفسير ابن كثير (8/ 200).

(8) تفسير القرطبي (4/ 320).

(9) مفاتيح الغيب (15/ 418).

(10) تفسير القرطبي (18/ 251).

(11) تفسير المراغي (9/ 122).

(12) تفسير العز بن عبد السلام (3/ 352).

(13) في ظلال القران (6/ 3669).

(14) مفاتيح الغيب (21/ 440).

(15) صحيح الجامع (3039).

(16) مفاتيح الغيب (21/ 440).