logo

التزكية في زمن المادية


بتاريخ : السبت ، 12 ربيع الأول ، 1444 الموافق 08 أكتوبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
التزكية في زمن المادية

إن الله تعالى نسب تزكية النفوس إلى نفسه؛ حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2].

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم آت نفوسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها» (1).

قال المناوي: «وزكها» طهرها من كل خلق ذميم، «أنت خير من زكاها» أي: من جعلها زاكية يعني لا مزكي لها إلا أنت، فإنه تعالى هو الذي يزكي النفوس فتصير زاكية، أي عاملة بالطاعة، فالله هو المزكي والعبد هو المتزكي.

قال الحراني: والتزكية اكتساب الزكاة، وهي نماء النفس بما هو لها، وهو بمنزلة الغذاء للجسم، «أنت وليها» التي يتولاها بالنعمة في الدارين، «ومولاها» سيدها، وهذا استئناف على بيان الموجب، وأن إيتاء التقوى وتصليح التزكية فيها إنما كان لأنه هو المتولي أمرها وربها ومالكها، فالتزكية إن حملت على تطهير النفس عن الأفعال والأقوال والأخلاق الذميمة كانت بالنسبة إلى التقوى مظاهرة ما كان مكمنًا في الباطن، وإن حملت على الإنماء والإعلان بالتقوى كانت تحلية بعد التخلية، فإن المتقي شرعًا من اجتنب النواهي وأتى بالأوامر (2).

وممَّا يدل على أهميتها: أنَّ الله عز وجل نسبها تارةً أخرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من وظائفه الأولى، قال الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال، إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع، تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ الأعلى، ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم (3).

ومما يدل على أهميتها: أن الفلاح جزاء من زكَّى نفسه، وأن الخَيْبة جزاء من أهملها، قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7- 10].

إن مدار نجاة الإنسان في الآخرة من العقاب، وفوزه بالنعيم والسعادة الأبدية؛ إنما هو على تزكية نفسه وتطهيرها من العقائد الوثنية الباطلة والأخلاق الفاسدة، حتى تكون متخلية عن الأباطيل والشرور، متحلية بالفضائل وعمل البر والخير، ومدار الهلاك على ضد ذلك، قال الله تعالى في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7- 10].

فالله تعالى جعل كل إنسان متمكنًا بقواه الفطرية من أعمال الفجور والشرور، ومن أعمال التقوى والخيرات، وهو الذي يزكي نفسه بهذه، أو يدسيها بتلك، فمن صحت عقيدته وحسن عمله صلحت نفسه وزكت، وكانت أهلا للنعيم في ذلك العالم العلوي، ومن كانت عقيدته خرافية باطلة وأعماله سيئة؛ فسدت أخلاقه وخبثت نفسه، وكان هو الذي تكلف تدسيتها ودهورتها إلى هاوية الجحيم، ولا يشترط في التزكية ألا يلم الإنسان بخطأ، ولا تقع منه سيئة ألبتة؛ بل المدار على طهارة القلب وسلامته من الخبث وسوء النية، بحيث إذا غلبه بعض انفعالات النفس فألم بذنب يبادر إلى التوبة، ويلجأ إلى الندم والاستغفار، وتكفير ذلك الذنب بعمل صالح. فيكون مثل نفسه كمثل بيت تتعاهده ربته بالكنس والمسح وسائر وسائل النظافة، فإذا ألم به غبار أو أصابه دنس بادرت إلى إزالته؛ فيكون الغالب عليه النظافة، ولا يشترط في الشهادة له بذلك ما لا تخلو منه البيوت النظيفة عادة من قليل غبار أو وسخ لا يلبث أن يزال، فالجزاء أثر لازم للعمل، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها (4).

ومما يدل على أهميتها: ما جاء في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاء جبريل عليه السلام وسأله عن الإسلام، ثم الإيمان، ثم قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (5).

قيل: المراد: أن نهاية مقام الإحسان: أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر، وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ولا يخفى عليه شيء من أمره (6).

قال النووي: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان (7).

وقال الحافظ ابن القيم: اتَّفق السالكون إلى الله تعالى أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، ولا يوصل إليه إلا بعد تركها ومخالفتها والظفر بها (8).

والواقع أن أزمة هذا الإنسان في داخله وأعماقه، والصراع أصبح مع الذات ونزعاتها وأهوائها، في العام الماضي أُنفق على التسلح آلاف المليارات من الدولارات، كما أُنفق على الرياضة مئات المليارات، غير أن ما ينفقه على الروح وتزكية النفس ضئيل للغاية، وقد لا يكون مرئيًا في الإحصاءات العالمية، رغم أن البشرية تعاني من تفشي أمراض نفسية مخيفة، مثل: تغلغل النزعة الفردية، والاستهلاكية، والانغماس المخيف في الشهوات، التي أصبحت لها اقتصادياتها الضخمة في الأنشطة الإباحية.

فالمادية بما تفرضه من تغييب للروح، فرضت ثقافتها، فصار ينظر الإنسان إلى الكون والطبيعة من منظور المتعة والاستهلاك، وليس بعين البصيرة المتدبرة، الباحثة عن المعنى والغاية، كما أن التكيف مع المادية له آثاره وضريبته، والأجنحة المتكسرة لا تحلق بعيدًا في السماء.

التوحيد والتزكية:

في السابق كانت المؤسسة الدينية هي المسئولة عن رعاية المرضى العقليين والنفسيين، لكن مع الحداثة رُفض الدين في مجال الرعاية النفسية، رغم أن الدراسات الحديثة تثبت وجود ارتباط كبير بين الصحة النفسية وحالة التدين التي يحياها الإنسان، فالأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية يلجئون إلى الدين للتعامل مع محنتهم، وهو ما يعني أن الإنسان يحتاج إلى إسعاف عاجل لروحه ونفسه يكون الدين عاملًا حاسمًا فيها.

لذا كانت تزكية النفس أمرًا غاية في الأهمية، وهي تزكية لا تتأتى إلا في رحاب الدين، ويقول ابن القيم: إن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاّهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليمًا وبيانًا وإرشادًا، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجيء بها الرسل؛ فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم (9).

والتزكية في اللغة لها معنيان، الأول التطهير، والثاني التنمية والزيادة، والنفس تحتاج إلى أن تتطهر من أمراضها وعلاتها، وكذلك أن تُنمى فضائلها وخيرها، فالتخلية والتحلية عمليتان يجب أن تتما في آن واحد، يقول ابن تيمية: القلب يحتاج أن يتربى، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يُربَّى بالأغذية المُصلحة له، ولا بدّ مع ذلك من منع ما يضرّه فلا ينمو البدن إلَّا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا (10).

والإنسان المعاصر أو إنسان الحداثة أصبح هشًا من داخله، يكره فكرة التضحية ويشكك فيها، ويحارب فكرة القبول بالمعاناة المستمرة في سبيل نيل الخلاص في الحياة الأخروية، كما أنه يشكك في قيمة التضحية بالملذات الفردية باسم مصلحة الجماعة أو في سبيل الغاية.

فالمسئولية الكبرى التي تقع على عاتق الإسلام في اللحظة الراهنة، هي النفاذ إلى أعماق ذلك الإنسان وإنقاذه من نفسه، وتنحية هشاشة روحه التي أوجدتها المادية، وفك قيود الروح لتتطهر وتنمو.

وأول مداخل تزكية النفس المعاصرة، هي عقيدة التوحيد، والتي تجعل الروح تطوف حول مركز واحد، بلا تشتت ولا زيغ، فالشرك والكفر عقبة كئود أمام التزكية طوال تاريخ الإنسان، ويعلل ذلك الشيخ محمد عبده في تفسيره المنار، بقوله: أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك، فهي أن الدين إنما شُرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم، والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم، ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم، ويرى الشيخ محمد عبده أن تزكية الأنفس لا تتم إلا بتزكية العقل، ولا تتم تزكية العقل إلا بالتوحيد الخالص (11).

التزكية والفعالية:

إن التزكية تنصرف إلى استنفار الممكنات الأخلاقية والروحية في الإنسان سعيًا للارتقاء بإنسانيته التي تميزه عن غيره من المخلوقات، فواجب الإنسان في العالم الائتماني ليس أن يطلب التقدّم بنوعيه؛ المادي والروحي؛ بل أن يجعل التقدّم المادي تابعًا للتقدم الروحي، وإلّا فلا تقدّم في إنسانية الإنسان بغير التقدّم الروحي، وبما أن التزكية تقوم على فكرة التدرج، فهي ليست طفرة يشهدها الإنسان، ولكنها نوع من المجاهدة، فهي عملية طوعية، فلا إكراه في التزكية، وهو ما يجعل إرادة الإنسان وقوته النفسية حاضرة؛ بل وناجزة في القيام بالعملية التزكوية.

يقول الشيخ الغزالي: وشارات التدين واجبة الرعاية، وشرائع الصلاة والصيام وما إليها لا يمكن التهاون، ولا التنازل عنها، بيد أن بعض الناس يسيء إلى الدين عندما يهمل تهذيب طباعه وتقويم عوجه، ثم يحرص على الاستمساك بشعائره، كما يمسك الملوث قطع الصابون بيده، دون أن يذهب بها درنًا، والأديان دائمًا تصاب من سوء الفهم لها، ومن سوء العمل بها، فالشعائر التعبدية يجب أن تتجاوز فكرة التأدية إلى التخلق بمقتضياتها، فليست الشعائر مقصودة لذاتها، ولكنها مدخل لتحقيق التقوى وغرسها في النفس الإنسانية، فكل علم لا يتحول إلى سلوك لصاحبه هو نوع من الخداع.

والحقيقة أن وضع الجنة كهدف نهائي للإنسان، لن يحقق تزكية الأنفس؛ ما لم يتوج ذلك بجهد واع لتحقيق تلك الغاية، لذا كان القرآن الكريم لا يفصل الإيمان عن العمل الصالح.

والتزكية في الحياة المعاصرة ضرورة، إذ أن السرعة والتقدم المادي المذهل، وازدياد النزعات الفردانية، يفرض على الإنسانية أن تَسمع صوت روحها المكبوتة، وأن تمدها بمسببات القوة التي تحقق لها توازنًا مع هذا التقدم المتسارع (12).

التوازن والاعتدال في قيادة النفس:

الناس في قيادة النفس على قسمين: قسم أرخى للنفس قيادتها، وتركها تسير على هواها وما تشتهيه، فأوردته المهالك والخسران في الدنيا والآخرة.

قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه، فملكته وأهلكته، وصار طَوْعًا لها تحت أوامرها، وقسم ظفروا بنفوسهم، فقهروها، فصارت طوعًا لهم منقادة لأوامرهم.

قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك.

قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 37- 41] (13).

ومنهم من بالغ في قهرها حتى ظلمها، كمن يعاقب نفسه على المعاصي بإهلاك نفسه أو جزءً منها، قال الأوزاعي: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد، فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه، وقيل: ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع قرطاسًا نقيًا وقلمًا، فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء (14).

وفي ذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: رُبّ شدٍّ أوجب استرخاءً، ورُبَّ مضيِّق على نفسه فرَّت منه، فصعب عليه تلافيها، وإنَّما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو من العافية، ويُذَوِّب في المرارة قليلًا من الحلاوة، فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها ولا يهمل مقودها؛ بل ليرخي لها في وقت، والطول بيده، فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها، فإذا رآها قد مالت ردّها باللطف، فإذا وَنتْ وأَبتْ فبالعنف (15).

وهنا لا بأس من الإشارة إلى المعاقبة المحمودة والمذمومة.

فالعقوبة المذمومة هي: معاقبة النفس بما يؤدي إلى ضرر بالجسم أو إيذاء له، مثل الامتناع عن الطعام، وتعذيب عضو من الجسد كما ذكرنا.

وأما العقوبة المحمودة: فهي إلزام النفس بشيء يشقُّ عليها فعله ويترتب على ذلك الفعل أجرٌ، كأن يكون عملًا صالحًا؛ مثل الصدقة والصيام أو قيام ساعات من الليل أو الذكر ونحو ذلك.

والمنهج القويم هو: الاعتدال والتوسط، وقد قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما: إنَّ لربك عليك حقًا، وإنَّ لأهلك عليك حقًا، وإنَّ لنفسك عليك حقًا، فأعْطِ كلَّ ذي حق حقَّه، فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان» (16).

وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيام، مخافة السآمة علينا (17)، أي: أنه يراعي الأوقات في تذكيرهم وموعظتهم، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا يملوا، والضابط في ذلك الحاجة مع مراعاة وجود النشاط، وفي الحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (18)، أي: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح في غيرها حتى يصل إلى مقصوده بغير تعب (19).

محاسبة النفس:

محاسبة النفس هي واحدة من الأساليب العملية في تزكية النفس، والتي منها: العلم النافع، والعمل الصالح، وصحبة الصالحين، والزواج، والتفكر في المخلوقات، وتذكر الموت وأهوال القيامة، والترغيب والترهيب، وهي النظر والتأمل فيما عمل المسلم من أعمال، وما قدم من خير أو شر مع النظر في النية والقصد وحساب الربح والخسائر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

قال الحافظ ابن كثير: أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادِكُم وعرضِكُم على ربِّكُم (20).

والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها، حالة تجعل القلب يقظًا حساسًا شاعرًا بالله في كل حالة، خائفًا متحرجًا مستحييًا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها، وعين الله على كل قلب في كل لحظة، فمتى يأمن أن لا يراه؟! {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.

وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته، لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة، وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلًا، ونصيبه من البر ضئيلًا؟ إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدًا، ولا يكف عن النظر والتقليب!

ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء، والله خبير بما يعملون (21).

وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه، ماذا أردتِ تعملين؟ وماذا أردتِ تأكلين؟ وماذا أردتِ تشربين؟ والفاجر يمضي قُدُمًا قُدُمًا لا يحاسب نفسه.

وعنه أيضًا: أن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة همته (22).

وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون لنفسه محاسبًا محاسبة الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك (23).

وروى أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكم داود عليه السلام: حقٌّ على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويَصْدُقُونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل، فإنَّ هذه الساعة عونًا على تلك الساعات وإجمامًا للقلوب (24).

مجاهدة النفس:

قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78]، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قيل: عُني به جهاد الكفار، وقيل: هو إشارةٌ إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي: جاهدوا أنفسكم في طاعة الله، وردّوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في ردّ وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في ردّ كفرهم (25).

 وهو تعبير شامل جامع دقيق، يصور تكليفًا ضخمًا، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد، والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء، وجهاد النفس، وجهاد الشر والفساد، كلها سواء (26).

وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العَنْكَبوتِ: 69].

الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه ويتصلوا به، الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا، الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس، الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب، أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم، ولن ينسى جهادهم، إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم، وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم، وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم، وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء (27).

قال الحافظ ابن القيم: علَّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد، قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نصر عليها نصر على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه (28).

_________________

(1) أخرجه مسلم (2722).

(2) فيض القدير (2/ 154).

(3) في ظلال القرآن (6/ 3565).

(4) تفسير المنار (6/ 25).

(5) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8).

(6) فتح الباري لابن رجب (1/ 211).

(7) شرح النووي على مسلم (1/ 157- 158).

(8) إغاثة اللهفان (1/ 75).

(9) مدارج السالكين (2/ 300).

(10) مجموع الفتاوى (10/ 96).

(11) تفسير المنار (5/ 120).

(12) التزكية في زمن المادية/ إسلام أون لاين.

(13) إغاثة اللهفان (1/ 75).

(14) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3041).

(15) صيد الخاطر (ص: 81).

(16) أخرجه البخاري (1968).

(17) أخرجه البخاري (68)، ومسلم (2821).

(18) أخرجه البخاري (39).

(19) ومضات في تزكية النفس/ طريق الإسلام.

(20) تفسير ابن كثير (8/ 77).

(21) في ظلال القرآن (6/ 3531).

(22) إغاثة اللهفان (1/ 78).

(23) إغاثة اللهفان (1/ 79).

(24) المصدر نفسه.

(25) تفسير القرطبي (12/ 99).

(26) في ظلال القرآن (4/ 2446).

(27) في ظلال القرآن (5/ 2752).

(28) الفوائد لابن القيم (ص: 59).