logo

عبادة التفكر


بتاريخ : الأحد ، 18 ربيع الآخر ، 1441 الموافق 15 ديسمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
عبادة التفكر

إن عبادة التفكر من أعمال القلوب العظيمة، التي هي مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وشبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم، وهي عبادة الأنبياء، ودرب الأتقياء، نورٌ لمن تفكّر، وطريقٌ موصلةٌ للخالق تبارك وتعالى، من تبحّر فيها وجد الآيات الباهرات، وجميل المعجزات، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرًا وتأملًا في خلق الله، وأكثر علمًا بالله تعالى وعظمته؛ كان أعظم خشية لله تعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].

التفكُّر سياحة نورانية ورياضة إيمانية؛ ينطلق فيها القلب في وعي، والعقل في يقظة معًا بعيدًا في ساحات الإيمان، بلا قيد من جواذب الأرض وقيود الشهوات؛ ليجتمعا على التقاط الحكمة والمعرفة، وتحقيق معاني الإيمان والترقي في درجات العبودية.

قال ابن القيم: الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلب أشرف من الجوارح؛ فكان عمله أشرف من عمل الجوارح (1).

قال ابن كثير: وقال آخرون: من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال: {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر: 27- 28]، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء؛ علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا (2).

والتفكُّر فرصة عظيمة لاكتشاف مساحة بعيدة، شديدة العمق في النفس الإنسانية، يصعب الوصول إليها في غير تلك الأجواء النفسية الصافية، التي تمتزج فيها أنوار التدبر مع صفاء النفس، حتى تصل إلى حقائق العبودية بما فيها من ضَعْف وعَجْز وذلة وعَوَز، ومشاهدة كمالات الربوبية بما فيها من كمال وجمال وجلال.

والتفكير يبدأ بعمليات سهلة بسيطة؛ يلتفت فيها القلب إلى عظيم الآيات المبهرة، وعظيم قدرة الله في خَلْقه، وجلاله في فِعْلِه وتدبيره، في عملية يسيرة لا تحتاج في بدايتها لكبير مجاهدة، ترتقي إلى درجات أعلى في معانيها وأعمق في تأثيرها، لا يتمكن من الوصول إليها إلا بنوع من المجاهدة، ولا يستطيعها إلا من رُزق حظًا من البصيرة وقِسْطًا من السموِّ الروحي، وفيها يتجاوز المؤمن بنور بصيرته نور بصره، ويتجاوز ظواهر الأشياء إلى حقائقها، ويرى فضل المنْعِم من وراء النعم، ويشاهد عظيم قدرة الله في كل حركة وسكنة في الكون، ويجمع من عجائب آيات الكون والنفس وعظيم حكمة الشرع؛ فينصب من جميعها شواهد على جلال أسماء الله وصفاته وعظيم قدرته وحكمة تقديره (3).

يقول الإمام ابن القيم حين يصف التفكُّر وعظيم شرفه: تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة؛ فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة (4).

وعلاقة الإنسان بالكون علاقة تلازم وتناغم، تتمثل في الاستكشاف المعرفي، والانتفاع المادي، متنوّع الأوجه والأشكال، كما تعني الاستلهام الجمالي، وهو ما لفت الله تعالى أنظارنا إليه في كثير من آي القرآن الكريم, قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} [النحل: 60- 64].

وهكذا يجمع الإسلام بين الإشباع الحسّي والوجداني وحاجات الإنسان المادية ليرتقي به ماديًا ونفسيًا، ويحدث التوازن في شخصيته وحياته.

وهذه العبادة العظيمة تنعدم أو تقل كثيرًا حينما تغلب الماديات على حياة الناس؛ فينشغلون باللهو والترف، مع أن هذه العبادة تقرب إلى الله تعالى وتظهر حقيقة الدنيا ومتاعها وزخرفها.

بها يستدل العبد على عظمة الله بآياته الكونية، ويدرك سننه الشرعية، ويعلم حقيقة الوجود، وأهمية العمل لليوم الموعود، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190- 191].

قال الحافظ ابن كثير: ومعنى الآية أن الله تعالى يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190]، أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وسيارات وثوابت وبحار، وجبال وقفار، وأشجار ونبات، وزروعٍ وثمار، وحيوانٍ ومعادن، ومنافعَ مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواصّ {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران: 190]، أي: تعاقبُهما وتقارضهُما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلًا، وكل ذلك تقدير العزيز العليم (5).

وهذا التفكر في خلق السموات والأرض إنما يفعله أولو الألباب، المؤمنون بالله تعالى، ويحرم منه الكافرون والماديّون، ومن غلبت شهواتُهم عقولَهم؛ فعطلتها عن التفكر والاعتبار: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 37 - 38].

لذا كان القرآن يعجب من عقول الكافرين والماديين كيف لم تدرك عظمة الله بآياته الكونية: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات: 47 - 49]، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، {وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20]، {ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} [النَّازعات: 27- 33].

وفي خلق الإنسان من مواضع التفكر والاعتبار، ما يدل على إتقان خلق الجبار تبارك وتعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الرُّوم: 20]، خلقه الله من منيٍّ يمنى، وحوَّله من نطفة قذرة إلى إنسان سويّ مكرم، وسخر له المخلوقات؛ {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} [عبس: 17- 22]، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزُّمر: 6]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 12 – 14].

آيات بينات في هذا المخلوق الضعيف، آياتٌ في لحمه وعظمه، وجسده وروحه، وحركته وسكونه، وعقله وإدراكه.

هذا العقل الصغير الذي أعطاه الله من العلم ما استطاع به أن يبني هذه الحضارة العظيمة، في مبانيها وصناعاتها ومكتشفاتها، أرأيتم لو أن الله خلق الإنسان بلا عقل، هل يصل إلى ما وصل إليه في الماضي والحاضر؟! وما الذي كان سيميزه عن سائر الحيوان؟ وانظروا كيف يكون حالُ الإنسان حينما يُسلبُ العقل؟

هذا العقل الذي حيّر العقولَ وأرباب العلم والطب الحديث، صنع الإنسانُ الحاسوبَ لعله يؤدي وظيفة العقل البشري؛ لكن ظهر أن العقل البشري يفهم ويميز، والحاسوب يحفظ فقط؛ بل إن مخزون العقل البشري من الذاكرة أكبرُ من مخزون الحاسوب، والعقل البشري يحفظ من المعلومات ما لا يستطيع أكبرُ حاسوب على وجه الأرض أن يحفظها.

والكون في الإسلام مصدر للمعرفة العلميّة والمعرفة الإيمانيّة, ولقد أجرمت الحضارة الغربيّة في حق الدين والعلم والإنسان حين ألغت الدلالات الغيبيّة لآيات الكون، وقصرت التعامل على المعرفة الماديّة فقط, ونسيت أن هناك علاقة ترابط وانسجام بين الإنسان والكون, قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41], وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79], وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].

عن أنس؛ أَن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحدًا، فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه»6).

فكأن هنا للجبال عواطف نسجت شبكةً من التجاوب بينها وبين عباد الله الصالحين، ملؤها الحب والتعاضد في تمجيد الله تعالى، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

وليس الجبال فقط؛ بل كل شيء في الكون، فالنار تحسن معاملة إبراهيم عليه السلام، فبدل أن تحرقه كانت بردًا وسلامًا عليه، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 69- 70], والبحر يحتضن موسى عليه السلام وهو رضيع فارق أمّه وأهله ويحفّه بالرعاية حتّى يبلغ مأمنه, قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7], والكهف الموحش –وهو مظنّة الهلاك– يؤوي الفتية المؤمنين الفارّين بدينهم فيجدون فيه السكينة الّتي افتقدوها في الدور القصور بين أهلهم الكافرين, قال تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16], والريح تسارع بحمل البشرى إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصله قميص يوسف بأنّ ابنه المفقود حيّ يرزق, قال تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94], ويرفق البحر والحوت معًا بيونس عليه السلام، فيخرج من المحنة العجيبة سالمًا لم يغرقه الماء، ولم يأكله الحوت؛ وإنّما ابتلعه فحسب, قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 142- 144] (7).

بل إن الكون يصطفّ مع المسلمين في معركتهم الفاصلة ضدّ اليهود، فينادي الشجر والحجر المسلم ويدلّه على مخبأ اليهودي ليخلص الأرض من رجسه وظلمه، عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقاتلكم اليهود، فتسلطون عليهم، ثم يقول الحجر يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله» (8).

إن الكون كتاب مفتوح جعله الله تبارك وتعالى ليُقرَأ بكل لغة وبكل لسان، ويدرك بكل الحواس وبأي وسيلة للوقوف على صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى.

هذا الإبداع الرباني الذي ينطق بعظمة الخالق جل وعلا؛ السماء وارتفاعها واتساعها وما فيها من مجرّات دائرة وكواكب نيرة ونجوم زاهرة، والأرض وانبساطها وانخفاضها وما فيها من جبال وبحار وثمار وأشجار وأنهار وإنسان وحيوان، تجعل القلب ينطق قبل اللّسان, قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 163- 164].

فالنفس البشرية وما فيها من عجائبَ وأسرار موضوع للتفكر والاعتبار {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

وفي أنواع الحيوان والنبات، وعجائب البحار وسائر المخلوقات، ما يستحق أن يتفكر فيه العبد: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].

وما لا نعلمه أكثر وأكثر تخبر عنه الآية القرآنية: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، آية موجزة في حروفها، محكمة في مبناها، عظيمة في معناها، تشمل ما خلق الله في الماضي والحاضر، وما سيخلقه في المستقبل مما لا يعلمه البشر، ويدخل في معناها كل ما يوجد على وجه الأرض من مكتشفات ومخترعات وصناعات، مما لا يعلم أسراره وكنهَه كُلُّ البشر أو أكثرُهم، فلو أخبر الله تعالى عن كل مخلوق لأشكل ذلك على البشر؛ لأن مخلوقاتٍ كثيرة غابت عنهم ظهرت لغيرهم حسب اختلاف الزمان والمكان.

فهذه الآية تنتظم هذه المخلوقات وغيرها: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، كما تنتظم ما سيظهر بعد زوال جيلنا، وقدوم أجيال أخرى عندها من المخترعات والمكتشفات والمخلوقات ما لم نره أو ندركه؛ فسبحان من خلقها وأبدعها، له الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه كما أثنى هو على نفسه.

والتفكير يحفز الإنسان إلى الإسراع في الطاعات، والبعد عن المحرمات: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].

وعدم التفكر فيما خلق الله تعالى من صفات المشركين: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 105– 106].

وأكثرُ الناس تفكّرًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وأيُّ شأنه لم يكن عجبًا! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: «ذريني أتعبدُ لربي»، فقام فتوضأ، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله! ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا، ولمَ لا أفعل وقد أُنزل علي هذه الليلة، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190- 191]، ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» (9).

قيل للإمام الأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن (10).

وقال أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة (11).

وفي قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ} [الأعراف: 146]، قال الحسن: معناه: أمنع قلوبهم التفكر في أمري (12).

وقال بشر الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه (13).

وقال عمر بن عبد العزيز: الفكرة في نعم الله أفضل العبادة (14).

وبكى رحمه الله يومًا بين أصحابه فسئل عن ذلك، فقال: فكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرةٌ لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادَّكر (15).

التفكُّر أكثر ما يحتاج إليه الدعاة:

والتفكُّر وإن كانت حاجة الجميع إليه ملحَّة إلا أن الدعاة هم من أكثر أصناف الخلق حاجة إليه؛ لما يمثله التفكُّر في حياة الدعاة من مَعِين روحي وعقلي يمدهم بكثير من مقومات بنائهم الذاتي ونجاحهم الدعوي، ومن عظيم فوائد التفكُّر للدعاة فضلًا عما سبق:

روحانية تُعين:

إن لحظات التفكُّر الصافية التي يجتمع على القلب فيها من معاني الإيمان وحقائقه ومقامات العبودية، تمد الداعية بجزء كبير من زاده الروحي الذي يؤهل الداعية لاستحقاق مدد الله من العون والنصرة.

والتفكُّر يوفر للداعية من اليقين وحُسْن الفهم عن الله ما ينسكب على أخلاقياته صبرًا جميلًا مع المدعوين، وحُسْنًا في الخُلُق يثبِّت المودة في قلوبهم، وما يبدو منه من هدوء نَفْس وجميل سَمْت أسبغته عليه جلسات التفكُّر؛ يفتح قلوب المدعوين على مصراعيها لدعوته ويُلْزِمهم طِيب المعشر.

الوقوف على مواطن الضعف والقوة:

فالتفكُّر مرآة تعكس بنور البصيرة خبايا النفوس وعيوبها؛ وفي جلسات التفكُّر الصافية البعيدة عن تزيين الشيطان وحظوظ النفس يصل الداعية لمساحات واسعة يصعب الوصول إليه في منظومته النفسية ونفوس من حوله من تلامذته ومحبيه بما اختبأ فيها من طبائع وأخلاقيات ومواطن ضعف ومكامن قوة؛ حتى إذا قام ليضع خطة نهوضه وخريطة سيره؛ فعن بينة يسير وعن بصيرة ينطلق.

قال الفضيل: الفكر مرآة تُريك حسناتك وسيئاتك.

تصحيح المسار:

وللداعية من مواطن التفكُّر ومساحات التدبر ما قد يغيب عن غيره الاعتبار به؛ من النظر فيما يجري من مِحَن وابتلاءات في حياة أصحاب الدعوات، وما يقع في مسيرتهم من حوادث تحمل الكثير من العبر، ووقائع تحمل العديد من الدروس؛ من هزيمة ظالم، وانتصار مظلوم، ومن جريان الأيام دول بين المؤمنين والكافرين، وغير ذلك، من زاد السابقين وخبرات اللاحقين وتجارب أهل الدعوة، مما يلزم الداعية الاسترشاد به في دعوته.

ومع غياب جولات التفكُّر التي يمارس الداعية من خلالها مراجعاته الإيمانية ويجدد خططه الدعوية، يضعف حُسْن تواصل الداعية مع مدعويه، ويتحول جانب كبير من العلاقة إلى مشاكل تستنزف كثيرًا من الجهود؛ وذلك لِـمَا يلمسه الجميع من غيابٍ لجزء كبير من مرتكز اليقين الذي يؤسَّس في خلوات التفكُّر، وغيابٍ لمساحة واسعة من رُكْن الفهم ووضوح الرؤية المقوِّمة لمسار الدعوة (16).

***

_______________

(1) مفتاح دار السعادة (1/ 180).

(2) تفسير ابن كثير (1/ 198).

(3) التفكُّر عبادة ربانية وضرورة دعوية/ إسلام ويب.

(4) مفتاح دار السعادة (ص: 183).

(5) تفسير ابن كثير (1/ 657).

(6) أخرجه البخاري (4083)، ومسلم (3351).

(7) الكون ذلك الصديق الحميم/ اسلام أون لاين.

(8) أخرجه البخارِي (3593)، ومسلم (7443).

(9) أخرجه ابن حبان (620).

(10) الدر المنثور (1/ 195).

(11) تفسير ابن كثير (1/ 958).

(12) إتحاف السادة المتقين (13/ 310).

(13) تفسير ابن كثير (1/ 658).

(14) إتحاف السادة المتقين (13/ 310).

(15) تفسير ابن كثير (1/ 658).

(16) التفكُّر عبادة ربانية وضرورة دعوية/ إسلام ويب.