التربية الأخلاقية للداعية
الناظر في هذه العقيدة، كالناظر في سيرة رسولها صلى الله عليه وسلم؛ يجد العنصر الأخلاقي بارزًا أصيلًا فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء.. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معًا للنية والضمير، والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور.. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع، وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء.
والرسول الكريم يقول: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (1)، فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل.
وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام، فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقًا، وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة، أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل؛ إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء، تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق.
وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا، وكي يصبحوا أهلًا لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد.
ثم إنها ليست فضائل مفردة: صدق، وأمانة، وعدل، ورحمة، وبر.... إنما هي منهج متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعًا، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله، لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة! وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد صلى الله عليه وسلم وتمثلت في ثناء الله العظيم، وقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (2).
وقد أخذت قضية الأخلاق عامة، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم خاصة محل الصدارة من مباحث الباحثين، وتقرير المرشدين، فهي بالنسبة للعموم أساس قوام الأمم، وعامل الحفاظ على بقائها، كما قيل:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقد أجمل صلى الله عليه وسلم البعثة كلها في مكارم الأخلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (3)، وقد عني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم بقضية أخلاقه بعد نزول هذه الآية، فسألوا عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت: «كان خلقه القرآن» (4)، وعني بها العلماء بالتأليف، كالشمائل للترمذي.
وإذا رجعنا إلى بعض الآيات في القرآن نجد بعض البيان لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق مثل قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 159].
وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ومثل ذلك من الآيات التي فيها التوجيه أو الوصف بما هو أعظم الأخلاق، وإذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم هو القرآن، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم.
والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه حتى العبادات، ففي الصلاة خشوع وخضوع وسكينة ووقار، فأتوها وعليكم السكينة والوقار.
وفي الزكاة مروءة وكرم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
وفي الصيام: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جنة» (6).
وفي الحج: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
وفي الاجتماعيات: خوطب صلى الله عليه وسلم بأعلى درجات الأخلاق، حتى ولو لم يكن داخلًا تحت الخطاب؛ لأنه ليس خارجًا عن نطاق الطلب: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهَا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23- 24]، مع أن والديه لم يكن أحدهما موجودًا عند نزولها، إلى غير ذلك من التعاليم العامة والخاصة التي اشتمل عليها القرآن.
وقد عني صلى الله عليه وسلم بالأخلاق حتى كان يوصي بها المبعوثين في كل مكان، كما أوصى معاذ بن جبل رضي الله عنه بقوله: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (7).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» (8)، أي: إن الحياء وهو من أخص الأخلاق سياج من الرذائل، وهذا مما يؤكد أن الخلق الحسن يحمل على الفضائل، ويمنع من الرذائل (9).
وتعد الأخلاق موضوعًا محوريًا في منظومة التشريعات الإسلامية، وقضية مركزية في خطاب الوحي ومضمون الرسالة الإلهية؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (10)، وهذا يعني أن الأخلاق على صلة وثيقة بالدعوة الإسلامية وبحملة هذه الدعوة، وأنه لا يقبل في المنهج الإسلامي البتة أن تقدم الدعوة للناس مفرغة من محتواها الأخلاقي، ولا يرتضى أبدًا أن يكون حامل الدعوة عاريًا من لباس الأخلاق الإسلامية.
واتفق علماء الاجتماع أن أسس الأخلاق أربعة: هي: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة.
ويقابلها رذائل أربعة: هي الجهل، والشره، والجبن، والجور.
ويتفرع عن كل فضيلة فروعها:
الحكمة: الذكاء وسهولة الفهم، وسعة العلم.
وعن العفة: القناعة، والورع، والحياء، والسخاء، والدعة، والصبر، والحرية.
وعن الشجاعة: النجدة، وعظم الهمة.
وعن السماحة: الكرم، والإيثار، والمواساة، والمسامحة.
أما العدالة -وهي أم الفضائل الأخلاقية- فيتفرع عنها: الصداقة، والألفة، وصلة الرحم، وترك الحقد، ومكافأة الشر بالخير، واستعمال اللطف.
فهذه أصول الأخلاق وفروعها، فلم تبق خصلة منها إلا وهي مكتملة فيه صلى الله عليه وسلم (11).
وعن عائشة رضي الله عنها: مكارم الأخلاق عشرة، تكون في الرجل ولا تكون في ابنه، وتكون في الابن ولا تكون في الأب، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أراد له السعادة: صدق الحديث، وصدق اليأس، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وحفظ الأمانة، وصلة الرحم، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وإقراء الضيف، ورأسهن الحياء. والتذمم: أن يرعى ذمامه أي حرمته (12).
ولا شك أن الداعية والمربّي والقدوة في كل مقام هم أولى بأن يمتلكوا البصيرة الأخلاقية؛ يقول الخياط: إذا كان التمسك بالأخلاق الحميدة والتحلي بالإيمان الصحيح ضروريين في حق كل إنسان لنيل رضا الله والنجاح، فإنهما في حق من يتقلد أمانة التعليم والتربية- وكذلك الدعوة- ضروريان من باب أولى، بحكم وظيفته كمرب للأجيال، وصانع لرجال الغد المنشود.
لماذا التربية الأخلاقية للداعية؟
أولًا: لأن التربية الأخلاقية للداعية جزء من التربية الإسلامية الشاملة.
ثانيًا: الواقع الأخلاقي للأمة المسلمة هو جزء من الواقع الحضاري المأزوم الذي تمرّ به الأمة المسلمة في زماننا.
ثالثًا: الأخلاق مقصِد من مقاصد الدعوة النبّوية.
رابعًا: لأن الداعية منوط به إصلاح غيره، فحري به إصلاح نفسه أولًا، فإن فاقد الشيء لا يعطيه.
خامسًا: حاجة المجتمعات لنماذج يقتدى بهم ويجسدون التطبيق العملي لدين الله تعالى.
سبل تربية الداعية أخلاقيًا
إن مسألة بناء الأخلاق مسألة ممكنة الحصول، وشرط بناء الأخلاق وحدوث التغيير الإيجابي الأخلاقي في شخصية الإنسان، هو أمر مرتهن- بالدرجة الأولى- بمدى استعداده لذلك، وبمدى بذله للجهد، وإن سبل بناء الأخلاق وتربيتها، تقع تحت دائرة الاجتهاد من حيث أنواعها، فهي متعددة ومتجددة، وترجع إلى الخبرة البشرية؛ لأنها وسائل وأساليب، وفيما يأتي بيان لتلك السُّبُل:
التعليم: القائمين على بناء أخلاق الدعاة، يجب عليهم أن يسلكوا سبيل التعليم من أجل الوصول إلى أهدافهم، فيعملوا على تعليم الدعاة الأخلاق الفاضلة، وتدريسهم إياها بمختلف أساليب التدريس التقليدية وغير التقليدية.
إن التعليم حسب أهداف محددة يجب تحقيقها من خلال أساليب التدريس وبوسائلها الخاصة التي تؤدي إلى تحقيقها، فالأهداف بمثابة معايير من خلالها نعرف تحققها أو عدم تحققها ونستطيع تقويم أساليب تعليمها.
وأهم أهداف تعليم الأخلاق في الاتجاه الإسلامي هي ما يلي:
1- بيان حقائق القيم الأخلاقية الإسلامية ومبادئها وميادينها.
2- التبصير بشمولية روح الأخلاق الإسلامية على كل تصرفات وسلوكيات الناس الفردية والاجتماعية.
3- إبراز أهمية وأثر القيم الأخلاقية الإسلامية من الناحية العلمية والاجتماعية والإنسانية والحضارية المادية والمعنوية.
4- إظهار خصائص ومميزات القيم الإسلامية بالنسبة إلى الأخلاقيات البشرية الوضعية.
5- وضع المعايير الخلقية الإسلامية أمام المتعلمين؛ ليستطيعوا توجيه سلوكهم وتقويم السلوكيات في ضوئها.
6- تكوين القناعة بثبات القيم الأخلاقية الإسلامية، وأنها ليست خاضعة للتغيرات الاجتماعية، بل إن التغيير والتكوين الاجتماعي يجب أن يخضع لهذه القيم.
7- تكوين الإيمان بالعلاقات الثابتة والمتينة بين العقيدة الإسلامية والقيم الأخلاقية الإسلامية.
8- الإشعار بأن تعليم الأخلاق لا يعني مجرد توصيل المعلومات الأخلاقية إلى الأذهان فقط، بل يعني الإشعار بالمسئولية الأخلاقية وبتطهير النفوس وتزكيتها من الرذائل والشرور وتحليتها بالفضائل ومكارم الأخلاق.
9- تكوين الشعور بالمحبة للفضائل والكراهية والنفور من الرذائل والشرور.
10- تنمية الميول نحو العمل بالقيم الأخلاقية، والدعوة إليها ما استطاع المعلم إلى ذلك سبيلًا في المدرسة وخارجها.
ولا بد مع ذلك من تعليم الأخلاق في إطار معايير ثابتة بها يعرف الدارس القيم الأخلاقية وبها يستطيع أن يميز بين العادات والتقاليد وبين القيم الأخلاقية (13).
الاعتياد: الخُلق سلوك عملي وحيوي أكثر منه فلسفة نظرية، والتربية عملية تغيير وبناء.
إن السلوكيات الأخلاقية وآدابها هي التي تميز سلوك الإنسان عن سلوك البهائم سواء في تحقيق حاجاته الطبيعية أو في علاقاته مع غيره من الكائنات الأخرى، فالآداب زينة الإنسان من حيث الجنس والأكل والشرب والنظافة، وتذوق السلوك الجميل وتمييزه عن السلوك القبيح، والبحث عن أفضل العلاقات وأحسنها في المعاشرة والمحادثة والتعاون والتآلف وتبادل المحبة والإكرام والإحسان والتراحم والتعاطف وغيرها.
ولهذا فالآداب الأخلاقية زينة الإنسان وحليته الجميلة، وبقدر ما يتحلى بها الإنسان يضفي على نفسه جمالًا وبهاء، وقيمة إنسانية (14).
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك خلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما» قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله (15).
إن احترام الشخصية الإنسانية وتحقيقها لا يتمَّان إلا بالفعل الأخلاقي الذي يجعل من الإنسان غايةً في ذاته، وتعتمد الأخلاق على القاعدة الإنسانية التي تجعل شخصيةَ الإنسان أسمى وأجلَّ من قيمته الاجتماعية التي يحيطها بهالة من التبجيل، فالشخصية الإنسانية تعبِّر عن ثقافة الإنسان وترفُّعه، وعن الدرجة التي بلغها في سلَّم التطور؛ وهذا لأن التطور، بعد وجود الإنسان، تطور عقلي وأخلاقي وروحي. وتتجلَّى هذه الشخصية في العمل الذي يعرِّف بها: فهذا العمل إما أن يرفعها وإما أن يحطَّ منها، يدنِّسها أو يقدِّسها، لأنه الوسيلة التي تُظهِر كيف تُطبَّق الأخلاق (16).
الصُّحْبة: تعد الصحبة أو المعاشرة من ضمن العوامل البيئية التي تؤثر في شخصية الإنسان؛ لأنه عامل خارج عن التركيبة الوراثية، وهو عامل قويّ الأثر، شديد الفعالية.
ولقد كان السلف الصالح أكثر حرصًا على قضية الصحبة واختيار القرناء لأولادهم.
وهذه مجموعة من أصناف الناس التي يجب أن يحذر الولد من مخالطتهم:
أولاد الكفار والمبتدعة، إذ الأولاد على دين آبائهم، وذلك حفاظًا على عقيدة الولد من الانحراف.
والفساق التاركين للصلاة وأهل السرقة وأهل التدخين، لأنه بمخالطتهم يتعلم الفسق والخروج عن الطاعة، وكم من مدخن كانت السيجارة الأولى التي تناولها في حياته من يد صديق، وكم ممن وقعت في شراك اتخاذ الأخدان ومصاحبة الذكران بسبب الصديقة الفاسقة، والبطالين الذين تركوا المدرسة، لأنه بمخالطتهم يتأثر بهم ويؤدي به ذلك إلى ترك الدراسة، ومن يكبره في السن بفارق كبير.
كما نُحذر من مخالطة أهل الأوصاف السيئة ونَحثه على مخالطة أهل الخير الذين من صفاتهم الإيمان بالله والاستقامة على شرعه، وبر الوالدين، والعقل والصدق والوفاء والحياء والنصيحة والأمانة وكتمان الأسرار، وحسن الخلق، والجد وعلو الهمة، وقد أمرنا الله تعالى بصحبة أهل الصدق والتقوى والحرص على مجالستهم، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وقد لا يكفي الآباء في هذا الزمن الاكتفاء بذكر الأوصاف والأصناف في الوصية والتحذير، بل الواجب عليهم تعيين أعيان الأشخاص فيقال اصحب فلانًا واجتنب علانًا، ذلك أن الابن قد لا يقدر على اختيار الصاحب بنفسه وقد يعجز عن إيقاع معاني الوصية على واقعه. ونبينا صلى الله عليه وسلم كما حذر من جليس السوء حثنا على الجليس الصالح فقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة» (17).
ولمجالسة الأشرار وجلساء السوء أضرار منها:
التشكيك في معتقداته الصحيحة ويصرفُه عنها، والدعوة إلى المماثلة في اقتراف المحرمات والمنكرات، والتذكير بالمعصية والدعوة إلى اقترافها، وجليس السوء لا ينصح صاحبه بما يصلحه، بل ربما يضره بالاعتداء عليه وأخذ ماله.
ومجالسة الصالحين لها ثمار طيبة، منها:
الشمول ببركة مَجالِسِهم، ويعمُّه الخيُر الحاصلُ لهم وإن لم يكن عمله بالغًا مبلغَهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسُهم. والتأثر بهم، لأن الإنسان إذا رأى قرينًا له يفوقه في عبادته أو زهده أو ثقافته أو سلوكه؛ فإنه يتأثر به غالبًا ويتطلع إلى مشابهته، وتبصرته بعيوبه لإصلاحها، فالمؤمن مرآة أخيه، وأن أهل الخير يدلونه على أمثالهم فينتفع بمعرفتهم، والصالحون الذين صفتهم الوفاء أُنس في الرخاء، وعُدّة في الشدة والبلاء، وتحقيق المحبة في الله تعالى (18).
القدوة: المفترض في الداعية أن يكون قدوة للمدعوين، ولكن قبل أن يصير قدوة لا بد له من معلم ومربي قدوة يتلقى عنه الأخلاق كما يتلقى عنه العلم.
القدوة مهمة في التربية، وبدونها تصبح العملية التربوية ناقصة ومبتورة، إذ لا تكفي الكلمات والمواعظ لصلاح الإنسان، فلا بد للشخص أن يرى تلك الكلمات سلوكًا متجسدًا في الحياة، لذا عندما وصفت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، إذ تحولت تعاليم القرآن إلى تخلق وسلوك.
ولعل من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن جعل الأنبياء من البشر، لأن ذلك يكفل التأسي والاقتداء واتباع التعاليم وتحمل التكاليف، إذ لو كان الأنبياء من جنس آخر، فإن البشر كانوا سيفتقدون القدوة، ولتهربوا من التكاليف، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] (19).
فالمناهج والنظريات التربوية في حاجة دائمة إلى من يُطَبِّقهَا ويعمل بها، وتظل تلك المناهج نظرية فقط، ولا تحقق جدواها ما لم تتحول إلى سلوك عملي للمربين أنفسهم، ولذا كان المنهج النبوي في إصلاح البشرية وهدايتها يعتمد على وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الإسلام إلى سلوك عملي، وحقيقة واقعة أمام الناس جميعًا، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر بشيء عمل به أولًا، وإذا نهى عن شيء كان أول المنتهين عنه، فكان صلى الله عليه وسلم هو القدوةَ والأسوة العملية التي تترجم الإسلام إلى حقيقة وواقع، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (20).
الدعاء: من السبل المفيدة والعجيبة في تحصيل الداعية للأخلاق الحسنة.
الدعاء وسيلة قوية تربط بين الأهل والأبناء وتجعلها تربية قائمة على الحب، فالدعاء للأبناء بدون ربطه بخلق أو سلوك له أثره الطيب ربما أكثر من كلمات التشجيع.
ولهذا كان من وسائل تربية النبي صلى الله عليه وسلم التربية بالدعاء؛ فقد دعا لابن عباس وهو طفل صغير، فتحققت له دعوته صلى الله عليه وسلم فيه، فيقول ابن عباس رضي الله عنه عن نفسه: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو على منكبي، ثم قال: «اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل» (21).
المحافظة على أداء العبادات: من السبل العملية التي تساعد على تحقيق الخلق الحسن، والابتعاد عن السيئ، أسلوب يعتمد التربية على العبادات الشاملة على طاعة الله في كل ما أمر واجتناب كل ما نهى عنه، وذلك من خلال غرس وتنمية وترسيخ أعمال العبادات في النفوس، والتي تمثل موازين في حياة المسلم فالصلاة ميزان اليوم، والزكاة ميزان الموسم، والصوم ميزان العام، والحج ميزان العمر، فمتى ما تمت التربية على العبادات المختلفة استقامت الحياة، وقوي الشعور بمراقبة الله تعالى، وكان من أثار العبادات ما لا يُعد ولا يُحصى من تقدير لقيمة الوقت، والانضباط، وتمسك بالفضائل، واجتناب للرذائل، والتطهر من سوء القول والفعل، والخشوع والوقار، وحب الخير، واستشعار نعم الله، وحفظ اللسان، وصفاء النفس، ونقاء الروح وغيرها.
التعهد: يعد التعهد من السبل التي تحفظ أخلاق الداعية المسلم من الانهيار أو التراجع والضعف، والمراد به: أن يتعاهد الداعية أخلاقه، ويتفحصها، ويراقبها بصورة مستمرة.
قال تعالى: {بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]، أي: بل الإنسان حجة بينة على نفسه، وشاهدة بما كان منه من الأعمال السيئة، ولو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه. لم ينفعه ذلك (22).
قال الأخفش: جعله في نفسه بصيرة كما يقال: فلان جود وكرم، فههنا أيضًا كذلك، لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة، وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة، فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء (23).
أثر تربية الداعية أخلاقيًا:
أثر شخصي:
تحقيق العبودية لله.
تزكية الداعية باطنه، وهذا من أهم أنواع تزكية النفس.
ضبط سلوك الداعية وتصرفاته الظاهرة.
تحقق الأخلاق الحسنة للداعية، الشخصية المتكاملة البعيدة عن التناقض بين القول والعمل.
تحقيق القدوة الأخلاقية للمدعوين
أثر في حقل الدعوة:
تؤدي أخلاق الداعية المسلم إلى تحقيق التآلف بين الدعاة أنفسهم.
تترك الأخلاق الحسنة التي يتجمل بها الدعاة، السمعة الحسنة للمؤسسات وللجماعات الدعوية، وللمعاهد العلمية وغيرها ممن ينتسبون إلى الدعوة إلى الله تعالى وهذا من شأنه أن يجذب الناس، ويرغبهم في الانضمام إليهم، والاستماع إليهم، والاقتداء بهم، والسير على دربهم.
أثر في المدعوين:
تحبب إليهم دين الله تعالى.
تجعل أخلاق الدعاة الناس أكثر تهيؤًا واستعدادًا لسماع كلامهم، وقراءة كتبهم.
في استمرار المدعوين بالالتزام والاستجابة.
تعمل على منع الرافضين للدعوة من معاداتها، وتحييدهم على الأقل.
تزيد أخلاق الدعاة من نسبة المدعوين القابلين لدعوتهم.
تساعد على سرعة انتشار الدعوة بين المدعوين؛ لأن الناس تكثر من الثناء على أصحاب الخلق الحسن، وترغب بعضهم بعضًا في السماع منه.
أثر مجتمعي:
تنشئ أخلاق الدعاة مجتمعًا يتسم بالتآلف والتكافل وأداء الحقوق والقيام بالواجبات: كقيم الأخوة، والعدل، والإنفاق، والاحترام، وغير ذلك.
تقلل من الأثر السلبي للعولمة التي تسعى إلى فرض أنماطها الأخلاقية المادية والفردية والسطحية في المجتمع المسلم.
تحافظ على خصوصية المجتمع المسلم وملامح هويته الحضارية.
تعمل على إيجاد جسور التواصل الحضاري بين حضارة المسلمين وسائر الحضارات الأخرى، وتقوي أوجه التفاهم فيما بينها.
تعمل على إشاعة أخلاقيات العمل التعليمي والمهني والثقافي في المجتمع المسلم (24).
------------
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (273).
(2) في ظلال القرآن (6/ 3657).
(3) سبق تخريجه.
(4) أخرجه أحمد (25813).
(5) أخرجه البخاري (1903).
(6) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151).
(7) أخرجه الترمذي (1987).
(8) أخرجه البخاري (3483).
(9) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/ 248- 250).
(10) سبق تخريجه.
(11) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/ 252).
(12) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/ 3692).
(13) علم الأخلاق الإسلامية (ص: 6).
(14) علم الأخلاق الإسلامية (ص: 7).
(15) أخرجه أبو داود (5225).
(16) ما هي التربية الأخلاقية؟ تاريخها وأهميتها/ موقع تعليم جديد.
(17) أخرجه البخاري (2101).
(18) الصحبة وأثرها في التربية/ د. غازي الشمري.
(19) التربية بالقدوة/ إسلام أون لاين.
(20) التربية بالقدوة في السيرة النبوية/ موقع مقالات إسلام ويب.
(21) أخرجه أحمد (2397).
(22) التفسير الوسيط لطنطاوي (15/ 201).
(23) مفاتيح الغيب (30/ 726).
(24) ضرورات التربية الأخلاقية للداعية المعاصر/ منتديات عيون.