logo

معالم التربية الدعوية في القرآن الكريم


بتاريخ : السبت ، 28 ذو القعدة ، 1444 الموافق 17 يونيو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
معالم التربية الدعوية في القرآن الكريم

عندما يقرأ الإنسان السيرة النبوية بتأمل، لا بد أن يلفت انتباهه شيء عجيب: وهو أثر القرآن الكريم على سامعيه على اختلاف أصنافهم، فهذا عتبة بن ربيعة وهو الرجل المشرك، يرجع إلى أصحابه بعدما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه آيات من سورة فصلت، فيقول بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به (1).

ويقرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه آيات من سورة مريم في مجلس النجاشي وهم على النصرانية، تقول أم سلمة رضي الله عنها وهي تصف الموقف: فبكى والله ‌النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم (2)، وحتى المنافق يقرأ القرآن وهو كافر به، فيظهر عليه شيء من آثاره، كما قال صلى الله عليه وسلم: «‌ومثل ‌المنافِق ‌الذي ‌يقرأ ‌القرآن: كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر» (3).

ولكن الأمر الذي قد يسترعي اهتمام الداعية إلى الله تعالى، هي تلك الآيات القليلة التي استمع إليها الصحابة رضي الله عنهم أول إسلامهم، وإذا بهم ينطلقون نحو هدف واحد فقط؛ ألا وهو الدعوة إلى الله تعالى، ومن أمثلة ذلك: ما حدث للطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، حيث أسلم ثم رجع إلى قومه داعية إلى الله تعالى؛ وهو لم يسمع إلا بضع آيات، ثم جاء بعد مدة وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن دوسًا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: «اللهم ‌اهد ‌دوسًا وأت بهم» (4).

وهكذا النفر من الجن الذين سمعوا آيات من القرآن الكريم، فرجعوا إلى قومهم يدعون إلى صراط مستقيم: قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف: 29- 31].

عن عامر، قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة، أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن» قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا وكل بعرة علف لدوابكم»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» (5).

فسياقة قصة النفر من الجن الذين استمعوا لهذا القرآن، فتنادوا بالإنصات، واطمأنت قلوبهم إلى الإيمان، وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الله ويبشرونهم بالغفران والنجاة، ويحذرونهم الإعراض والضلال، سياقة الخبر في هذا المجال، بهذه الصورة، وتصوير مس القرآن لقلوب الجن هذا المس الذي يتمثل في قولهم: {أَنْصِتُوا} عند ما طرق أسماعهم، يتمثل فيما حكوه لقومهم عنه، وفيما دعوهم إليه، كل هذا من شأنه أن يحرك قلوب البشر، الذين جاء القرآن لهم في الأصل، وهو إيقاع مؤثر ولا شك، يلفت هذه القلوب لفتة عنيفة عميقة (6).

{فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}، وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن. فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية، فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به، وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دفعًا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام: {قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.

ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم: إنا سمعنا كتاب جديدًا أنزل من بعد موسى، يصدق كتاب موسى في أصوله، فهم إذن كانوا يعرفون كتاب موسى، فأدركوا الصلة بين الكتابين بمجرد سماع آيات من هذا القرآن، قد لا يكون فيها ذكر لموسى ولا لكتابه، ولكن طبيعتها تشي بأنها من ذلك النبع الذي نبع منه كتاب موسى.

وشهادة هؤلاء الجن البعيدين- نسبيًا- عن مؤثرات الحياة البشرية، بمجرد تذوقهم لآيات من القرآن، ذات دلالة وذات إيحاء عميق.

ثم عبروا عما خالج مشاعرهم منه، وما أحست ضمائرهم فيه، فقالوا عنه: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}، ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم، لا يقف له قلب غير مطموس ولا تصمد له روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامح اللئيم. ومن ثم لمس هذه القلوب لأول وهلة، فإذا هي تنطق بهذه الشهادة، وتعبر عما مسها منه هذا التعبير (7).

فإذا سمعت هذه المواقف وغيرها الكثير، على مر السنين والدهور، بل حتى في وقتنا الحاضر، فلا تملكُ إلا أن ترجع إلى نفسك وتقول: يا ترى ما سر القرآن في تعزيز جوانب التربية الدعوية؟

عندما نتدبر القرآن ونتأمل في آياته، نجد فيه معالم كثيرة تربي المسلم في جميع جوانب الحياة، بل هي أفضل وأحسن وأقوم سبل التربية، قال تعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، يقول السعدي رحمه الله في تفسيره: يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره (8).

ومن جوانب الهداية التي يهدي لأقومها القرآن، جوانب التربية الدعوية حيث تتغلغل في قلبه وروحه الآيات، فتصنع الفرد المكتمل فكريًا وعقائديًا وجسديًا وأخلاقيًا ووجدانيًا، وهذا من الحكم في نزوله مفرَّقاً لأجل أن يربي الأفراد تربية تدريجية حتى يصل بهم إلى الكمال، ذكر الزرقاني في كتاب مناهل العرفان في الحكمة من نزول القرآن منجمًّا: (‌‌الحكمة الثانية: التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علمًا وعملًا (9)، فكانوا يتعلمون العلم والعمل من القرآن، حتى اكتمل بتمام نزوله الإيمان، فأصبحت تلك الأمة التي يشار لها بالبنان، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله: بهذا الإيمان الواسع العميق والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة (10).

وتعالوا لنلقي الضوء على بعض معالم التربية الدعوية في القرآن الكريم:

التربية الدعوية وتحديد الغاية:

الإنسان مفطور على العبودية، فعندما يعلم الإنسان أن الغاية من وجوده في هذه الحياة هي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وينطبع في قلبه وجوارحه هذا المعنى العظيم، ثم يجعل شعاره في الحياة: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، فعندها لا تسل عن الجهود والتضحيات التي تبذل في سبيل تحقيق الغاية من الوجود، يقول ابن القيم رحمه الله: العبودية هو ‌بتكميل ‌مقَام ‌الذل ‌والانقياد، وأكمل الخلق عبودية، أكملهم ذلًا لله وانقيادًا وطاعة، والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لعزه، وذليل لقهره، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه اليه، وإنعامه عليه، فإن من أحسن إليك فقد استعبدك وصار قلبك معبدًا له وذليلًا (11).

والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين، وإلى الاعتقاد بإله؛ بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهًا إلى إله واحد، وإحساسًا قويًا بوجود هذا الإله الواحد.

ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه، فهذا مركوز في الفطرة؛ ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره.

تعريفه بحقيقته وصفاته، لا تعريفه بوجوده وإثباته، ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته- وهي الربوبية والقوامة والحاكمية- والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها، وهذا التعطل لا يعالج- إذن- بالجدل، وليس هذا هو طريق العلاج! «إن هذا الكون، كون مؤمن مسلم، يعرف بارئه ويخضع له، ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي- عدا بعض الأناسي! - و«الإنسان» يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام، وأصداء التسبيح والسجود، وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء، وتخضع في حركتها الطبيعة الفطرية للنواميس التي قدرها الله، فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها، ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية، كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية، ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه، لعلها تتحرك، وتأخذ في العمل من جديد.

ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض، وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني لعله ينبض ويتحرك، ويتلقى ويستجيب (12).

التربية الدعوية وتحديد المحبة الكبرى محبة الله تعالى:

الحب: من الحاجات النفسية التي ينبغي أن تشبع في الإنسان، ولذلك نزل القرآن بتحديد المحبة العظمى والتي لا ينبغي لأي محبة أخرى أن تطغى عليه، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: 165]، فتمتزج محبة الله تعالى في شغاف القلب، ويعلم علم يقين أنه لا شيء يحب لذاته إلا الله، وأن ما سوى الله لا يحب إلا لله، وأن كل محبة فينبغي تكون بأمره، وفي رضاه، وتحت طاعته، وأن لا تشغل عن محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، عندها سيكون الأمر من الله هو عين الرضا، وانشراح الصدر.

إن المؤمنين لا يحبون شيئًا حبهم لله، لا أنفسهم ولا سواهم، لا أشخاصًا ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيمًا من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}.

أشد حبًا لله، حبًا مطلقًا من كل موازنة، ومن كل قيد، أشد حبًا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه.

والتعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنه تعبير صادق، فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب.

صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي، صلة المودة والقربى، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود (13).

يقول ابن القيم رحمه الله: بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم، فقرة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسرره ونعيمه في ذَلِكَ وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأَما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إِلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم (14).

التربية الدعوية وتحديد الهدف:

الإنسان لا بد له من أهداف يسعى إلى تحقيقها في هذه الدنيا، ومن يقرأ قوله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، فيؤمن بها حق الإيمان، ويعرف أن هدفه الذي ينبغي أن يسعى لتحقيقه: هو الدعوة إلى الله تعالى وحده لا شريك له، على علم وبصيرة، مقتديًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أمره الله تعالى بذلك في قوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ويلامس قلبه فضل هذا العمل، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، ويتمنى أن يكون من هؤلاء الذين أثنى عليهم رب العزة والجلالة، ويعلق على صدره وسام الداعية إلى الله تعالى، بل ويعلم أن خيرية هذه الأمة إنما كانت بدعوتها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}، ويعلم حاجة العالم لدعوته، عندها ستكون الدعوة إلى الله تعالى هو الهم الأكبر في حياته، يقول محمد إقبال: أن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار، ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار، بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه، فليس مقامه مقام التقليد والإتباع، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة، ومقام الإرشاد والتوجيه، ومقام الآمر الناهي (15).

وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي، فهذه الدعوة لا تؤدي شيئًا ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة الإسلامية، لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضًا! إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة.

وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين.. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس.. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ! والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام.. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب (16).

التربية الدعوية وتحديد الأسلوب:

لقد اعتنى القرآن بالتربية الدعوية حتى أنه أشار للأساليب التي ينبغي للداعية أن يستعملها في دعوته، فيقول الله تعالى: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، ويقول سبحانه: {وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، بل ويبعث موسى وهارون عليهما السلام إلى من ادعى الربوبية والألوهية ويقول لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه: 44]، وهكذا في توجيه متكرر إلى الأساليب المناسبة لكل مقام ومقال، لأن طريقة وفن الدعوة أمر مهم، وله أثر كبير في استجابة المدعوين وقبولهم للحق، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: قال الله سبحانه في نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فعلم بذلك أن الأسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون الداعي حكيمًا في الدعوة، بصيرًا بأسلوبها، لا يعجل ولا يعنف، بل يدعو بالحكمة، وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث، وبالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لك في الدعوة إلى الله عز وجل، أما الدعوة بالجهل فهذا يضر ولا ينفع ... لأن الدعوة مع الجهل بالأدلة قول على الله بغير علم، وهكذا الدعوة بالعنف والشدة ضررها أكثر (17).

وهكذا لا تكاد تخلو سورة أو آية في تربية المسلم ليكون داعية لله تعالى، فنرى آيات القرآن الكريم تتدفق على قلوب المسلمين، فتحول المسلم من مجرد فاعل لأعمال الإسلامِ إلى داعية إليها، وهكذا من أحب شيئًا دعا إليه، وهذا هو السر الذي يجعل من يقرأ القرآن ينطلق داعيًا إليه وإلى ما فيه كما فعل الصحابة الكرام رضي الله عنهم (18).

_________________

(1) سيرة ابن هشام (1/ 294).

(2) فتح القدير للشوكاني (3/ 378).

(3) أخرجه البخاري (5059)، ومسلم (797).

(4) أخرجه البخاري (2937).

(5) أخرجه مسلم (450).

(6) في ظلال القرآن (6/ 3269).

(7) في ظلال القرآن (6/ 3274).

(8) تيسير الكريم الرحمن (ص: 454).

(9) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 55).

(10) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص: 102).

(11) مفتاح دار السعادة (1/ 289).

(12) في ظلال القرآن (3/ 1823).

(13) في ظلال القرآن (1/ 154).

(14) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 58).

(15) شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال (66- 68).

(16) في ظلال القرآن (4/ 2034).

(17) كتاب الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة (ص: 28).

(18) بعض معالم التربية الدعوية في القرآن الكريم/ موقع بصائر.