دعاة التثبيط
المثبطون هم أشخاص عجزوا عن تحقيق هدف أو عدة أهداف في حياتهم، وفي كثير من الأحيان هم أعجز من أن يكون لديهم طموح أو أهداف, فيقومون بتثبيط أو إحباط الآخرين عن الوصول لهذه الأهداف؛ لأنهم لم يصلوا إليها.
والمثبّط شخص حسود، لا يريد لغيره تحقيق أي هدف لم يتمكن هو من تحقيقه، فهذا المرض لم يقتل صاحبه فحسب؛ بل إنه يحاول الانتقال بالعدوى الى الآخرين (الناجحين) ليسقط من هممهم وإراداتهم.
وهنالك صنف آخر من المثبطين يحاولون الوقوف في طريق أحلامك، ليس حسدًا؛ بل بطيب نية، بحجة أن أحلامك سوف تضيع حياتك، وهذا الصنف من المثبطين هم الحمقى، الذين لم يعوا معنى الإبداع، وأن الكائن البشري كائن خلق ليتميز في حياته، ويتطور مع مرور الزمن، وليس كباقي الحيوانات التي تولد على همة البقاء على الحياة إلى أن تموت.
وكما قيل: لا تصاحب الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.
تراهم في كل مكان حولك فانتبه منهم, واجعل بينك وبينهم حاجزًا معنويًا وحسيًا, فهم أشد خطرًا عليك من وسوسة الشيطان, لهم أساليب كثيرة وعديدة, يكون ساعة في قالب مدح مبطن, أو استهزاء مع ابتسامة، أو يظهر على شكل غمز ولمز, ومنه الظاهر للعيان الذي لا يحتاج إلى بيان، وهم على كل شكل ولون من حولنا, فقد يكون رئيسك أو مرءوسك, أو من تعتبره صديقًا مقربًا, أو قد يكون من أقرب الأقارب، إنهم المثبطون من حولنا فاحذرهم.
إن مجرد تفكيرهم في محاولة انتقادك سلبيًا يعتبر بمثابة شهادة لك بأنك موجود، وأنك مثمر، فهم لا يرمونك بالحجر إلا في محاولة لقطف ثمارك, فهم قد يحسدونك على ما أنت فيه, ومن حيث يشعرون أو لا يشعرون، وقد قيل: لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله ومن أساليبهم أنهم إذا لم يستطيعوا أن يجدوا عليك مدخلًا نسبوا الفضل لغيرك،فلا تلتفت لهم وامض في طريقك, فلو كان الطريق سهلًا لفعلوا مثلما فعلت، ولكن شقّ عليهم الأمر, وخارت العزيمة, فكان الأسهل لهم أن يثبطوا غيرهم.ولعل أكبر المثبطين الحسودين وأغباهم في هذا الكون هو إبليس؛ حيث طرده الله من رحمته، فأراد إبليس تثبيط الإنسان عن المعالي وبلوغ الجنان، ويريده أن يذهب معه إلى الجحيم!!
نعم, نحن بشر، وقد يتأثر بعضنا بما يقال حولنا, ولكن لا تقف، واجعل من كلامهم
وهمزهم دافعًا لك يشحنك إلى الأمام.
إن التثبيط داء قديم صحب الإنسان منذ عهده الأول, ولا يزال مصاحبًا له، وهو إنما ينمو ويشتد ويقوى بين الأقرباء أو بين المعارف والمجاورين والمنافسين.
ينقسم التثبيط إلى نوعين:
نوع يثبط بدافع الجهل، بمعنى أنه لا يمتلك وعيًا وإدراكًا بفوائد العمل الذي يقوم به الإنسان المتحفز النشط؛ بل قد يتصور أن لتلك الأعمال عواقب وخيمة؛ لقصوره في الاطلاع والمعرفة، وهذا دافع للتثبيط.
والحل لمثل هذا النوعأن يعالج عبر حوار مفتوح هادئ؛ لكي يطلع على وجهات النظر الأخرى, ولكي يدرك أهمية النشاط الذي يقوم به الإنسان المتحفز، ومن ثم قد يتوقف عن التثبيط ولو جزئيًا.
أما النوع الآخر من المثبطين فيثبط بدوافع نفسية غير سليمة؛ كالغيرة والحقد والحسد، والمثبط مع ادراكه التام وعلمه بفوائد الأعمال التي يقوم بها فاعل الخير، ويقينه الكامل بمردوداتها الإيجابية على المجتمع وأفراده؛ ولكنه يتحيز لأهوائه النفسية، فيطلق عبارات تهد جبال الهمة والنشاط في نفوس الناشطين.
والحل لهذا النوع:
أن يتخذ الشخص المثابرة والهمة إلى الأمام؛ ليحصد النتائج التي تنعكس على المجتمع والفرد، ويراها تترعرع وتنمو دون أن ينظر إلى هذه النوعية من المثبطين(1).
أراد ابن عباس رضي الله عنه أن يطلب العلم في صغره, فسأل رجل من الأنصار أن يرافقه في دربه, فقال له مثبطًا: يا عجبًا لك يا ابن عباس، أترى أن الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟, ودارت الأيام والسنون, فصار الناس يكتظون في مجلس ابن عباس، فقال ذلك الأنصاري عندما رأى ابن عباس قد تربع على عرش العلماء: ذلك الفتى من قريش كان أعقل مني.
وهم في كل زمان ومكان على سواء, وقد يختلف المظهر والشكل؛ ولكن أفئدتهم صنف
واحد لا يتغير(2).
قال الحميدي: «وأخبرني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد قال: كان ابن أبي عامر يومًا جالسًا مع ثلاثة من أصحابه من طلبة العلم، فقال لهم: ليختر كل واحد منكم خطة أوليه إياها إذا أفضى إليّ الأمر! فقال أحدهم: توليني قضاء كورة رَيَّة، وهي مالقة وأعمالها؛ فإنه يعجبني هذا التين الذي يجيء منها!
وقال الآخر: توليني حسبة السوق؛ فإني أحب هذا الإسفنج!
وقال الثالث: إذا أفضى إليك الأمر فأْمر أن يطاف بي قرطبة كلها على حمار، ووجهي إلى الذَّنَب، وأنا مطلي بالعسل ليجتمع عليَ الذباب والنحل.
وافترقوا على هذا؛ فلما أفضى الأمر إليه كما تمنى بلغ كل واحد منهم أمنيته على نحو ما طلب.
ولم تزل حاله تعلو منذ ورد قرطبة إلى أن تعلق بوكالة السيدة صُبح أم هشام المؤيد ابن الحكم، والنظر في أموالها وضياعها، فزاد أمره في الترقي معها إلى أن مات الحكم المستنصر؛ وكان هشام صغيرًا، وخِيف الاضطراب، فضمن لصبح سكون الحال وزوال الخوف واستقرار الملك لابنها، وكان قوي النفس، وساعدته المقادير، وأمدته المرأة بالأموال؛ فاستمال العساكر إليه، وجرت أحوال علت قدمه فيها، حتى صار صاحب التدبير والمتغلب على الأمور؛ وحجب هشامًا المؤيد، وتلقب هو بالمنصور، فأقام الهيبة، فدانت له أقطار الأندلس كلها وأمنت به، ولم يضطرب عليه شيء منها أيام حياته؛ لعظم هيبته وفرط سياسته.
واستوزر جماعة، منهم الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان، الملقب بالمصحفي، ومنهم الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري، ومنهم الوزير أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي، الذي اختصر كتاب العين، وكان قد ولاه شرطته، وكان الزبيدي هذا من بطانة الحكم المستنصر ووجوه أصحابه.
ولم يزل المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر طول أيام مملكته مواصلًا لغزو الروم، مفرطًا في ذلك لا يشغله عنه شيء، وكان له مجلس في كل أسبوع، يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته ما كان مقيمًا بقرطبة.
وبلغ من إفراط حبه للغزو أنه ربما خرج للمصلَّى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك؛ فلا يرجع إلى قصره؛ بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولًا فأولًا، فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم إلا وقد لحقه كل من أراده من العساكر.
غزا في أيام مملكته نيفًا وخمسين غزوة, ذكرها أبو مروان بن حيان كلها في كتابه الذي سماه بالمآثر العامرية، واستقصاها كلها بأوقاتها، وذكر آثاره فيها، وفتح فتوحًا كثيرة، ووصل إلى معاقل قد كانت امتنعت على من كان قبله، وملأ الأندلس غنائم وسَبْيًا من بنات الروم وأولادهم ونسائهم.
وفي أيامه تغالى الناس بالأندلس فيما يجهزون به بناتهم من الثياب والحلي والدور؛ وذلك لرخص أثمان بنات الروم، فكان الناس يرغبون في بناتهم بما يجهزونهن به مما ذكرنا، ولولا ذلك لم يتزوج أحد حرة.
بلغني أنه نُودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة، وكانت ذات جمال رائع،