علاقة الإنسان بالكون
عن أبي حميد، قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: «هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه» (1).
جبل من حجارة – جماد - لكن له شعور وأحاسيس ومشاعر قد لا يشعر بها بعض الناس، فالجبل يشعر بما يشعر به الإنسان من الحب والبغض؛ لكنه يظل عاجزًا عن التعبير عن مشاعره حتى تتاح له الفرصة ويمكن من ذلك ولو بهزات أو اضطرابات يحدثها معبرًا عن مشاعره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله، قال: «اثبت أحد فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيدان» (2).
وقد ثبت في صحيح البخاري في القصة المشهورة الصحيحة: أن الجذع الذي كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تحول عنه إلى المنبر وافتقد الجذع النبي صلى الله عليه وسلم حن حنين العشار، والصحابة يسمعون، حتى جاءه صلى الله عليه وسلم يسكته كما تسكت الأم ولدها (3).
وذلك الحنين بإدراك خلقه الله في ذلك الجذع لا نعلمه، ولكن نرى أثره في صوت الشجي والبكاء كبكاء الصبي أو حنين العشار، أو حديث كحديث الناس بعضهم لبعض، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث»، فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم، فقال: «فإني أومن بهذا، أنا وأبو بكر، وعمر، - وما هما ثَمَّ - وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب، فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب هذا: استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري»، فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، قال: «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، - وما هما ثم -» (4).
وقد جاء في القرآن الكريم: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود.
إن الكون بالنسبة للإنسان هو مجاله، وهو بيئته، وهو مخلوق من أجله، وإن جماله وأهميته وعطاءه الحق لن يتجلى إلا إذا سخَّره الإنسان وأعمَلَ فيه عقلَه ويده، إنه من غيره جمادٌ وفوضى وتدمير أحيانًا.
قال تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 32- 34].
وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمرات، وأجناس المعادن. وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له وأن رسله صادقون فيما جاءوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة لا تقبل ريبًا ولا شكًا (5).
إن هذا المخلوق الصغير الإنسان يحظى من رعاية الله سبحانه بالقسط الوافر، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة، وينتفع بها على شتى الوجوه، وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها، والذي تسير وفقه ولا تعصيه، ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة؛ بل ما استطاع أن يعيش معها وهو هذا القزم الصغير، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام.
فكل شيء في هذا الوجود منه وإليه وهو منشئه ومدبره وهو مسخره أو مسلطه، وهذا المخلوق الصغير – الإنسان - مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية، يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات تفوق قوته وطاقته بما لا يقاس، وكل ذلك من فضل الله عليه، وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر ويتبع بقلبه وعقله لمسات اليد الصانعة المدبرة المصرفة لهذه القوى والطاقات.
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، والفكر لا يكون صحيحًا وعميقًا وشاملًا، إلا حين يتجاوز القوى والطاقات التي يكشف سرها، إلى مصدر هذه القوى والطاقات وإلى النواميس التي تحكمها وإلى الصلة بين هذه النواميس وفطرة الإنسان، هذه الصلة التي تيسر للإنسان الاتصال بها وإدراكها، ولولاها ما اتصل ولا أدرك، ولا عرف ولا تمكن، ولا سخر ولا انتفع بشيء من هذه القوى والطاقات (6).
إن الإنسان في القرآن الكريم هو المحور والغاية في عالَم الطبيعة، ومن أجله سُخِّرت الكائنات كلُّها؛ يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20].
ونحب هنا أن نبيِّن أن كلمة تدافُع ليستْ من نوع الصراع، ولا سيما بمحتواه الفلسفي الجدلي، فإن التدافع ليس إلا قمة الاستثارة ليبقى - في النهاية - ما ينفع الناس: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].
وكيف يكون الأمر صراعًا مع أن الأرض في الإسلام إنما جُعِلت كلها مسجدًا؟!
ولهذا؛ فعندما أطلق الله للإنسان حريته، أطلَقَها في حدود الحفاظ على نظام المرور الكوني بإشاراته وعلاماته، التي تَحُول دون الصدام والموت المحقَّق.
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، من غير أن تَنضبِط حركته بقوانين وسُنن، وأوامر ونواهٍ؟ كلا، إنه لن يترك هَمَلًا يرعى كما ترعى السوائم، بل لا بد له من قيود وضوابط يرعى في حدودها، ويتحرك في مجالها.
وكيف يكون الأمر صراعًا، مع أن الكون كله يسبح بحمد الله ويتَّجه إلى عبادته؟!
وكل ما في الكون – ابتداءً - إنما خلقه الله ومهَّده؛ لكي يكون في خدمة الإنسان فما ضرورة الصراع إذًا؟! {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت: 9 - 12]، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)} [الزخرف: 10- 13] (7).
إن العقيدة الإسلامية جاءت بتصور واضح للكون ولوظيفة الإنسان فيه، تصور تتكامل فيه الروح مع المادة، وينسجم فيه الغيب مع الشهود في وسطية تنساق بأريحية مع فطرة الإنسان، تحث على العمل والأخذ بالأسباب في ذات الوقت الذي توقن بعالم غيبي رُفع فيه القلم؛ ولذلك كان الإسلام حاثًا على طلب العلم وإعمار الأرض.
كيف لا والاستخلاف هو ركيزة الوجود الإنساني الذي ينطلق منها، وسفك الدماء وأكل أموال الناس بالباطل هو الخطوط الحمراء التي ينهى عنها.
وإن المتدبر لآيات الله سبحانه وتعالى في القرآن، التي تتحدث عن الكون، يدخل في صداقة عميقة معه، حيث يصبح التفكر فيه طريقًا للإيمان بصانعه، ومصدرًا للتعلم من دقته ونظامه، ومجالًا رحبًا للاستلهام من جماله وإحسانه، فيصبح الكون مؤنسًا ومعلمًا، ومرتعًا للتدبر والتأمل، ورفيقًا في التبتل والعبادة..
ولنتأمل أيضًا قوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]، وقوله: {انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].
هذه الآيات كلها وغيرها، تدعوا للتدبر في الكون الفسيح، تدبرا يفضي للإيمان بخالقه، وهيامًا به ومعه في رحلة الإيمان والعمل، حيث أن هذا الكون مسخر للإنسان ليعمل فيه ويحقق الخلافة المنوطة به بإعماره.
ومن هنا يمكن القول إن علاقة الإنسان بالكون في الرؤية الحضارية الإسلامية تدور حول ثلاث نقاط أساسية هي: تسخير، استخلاف، إعمار.
ولكم هو رائع أن يفهم الإنسان حقيقة المهمة المنوطة به ويدرك أنه خليفة مكلف بالإعمار لا بسفك الدماء، فيا ليتنا نتذوق جمال الإدراك الإسلامي لهذا الإعمار الذي هو هدف في حد ذاته يجسد حقيقة الوجود الإنساني على هذه البسيطة: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل» (8).
ومن كل هذا الذي سبق، فإن الأسس والقواعد التي تعاملت بها الحضارة الإسلامية مع الإنسان والكون ترسم لنا خارطة محددة المعالم، واضحة المآرب، بحيث لا تتداخل الأدوار ولا تتناقض فيما بينها، فالإنسان هو الفاعل، والكون هو مجال الفعل، ويجتمع الفاعل ومجال الفعل، في كونهما مفعول بهما من قبل الموجد لهما معًا سبحانه.
توجد ميزة مهمة جدًا في رؤية الحضارة الإسلامية، وهي الشمولية والتوازن، فهي لا تعتمد على علاقة الإنسان بالكون فقط- كالحضارة المادية- وتغفل الجانب الغيبي، فتصنع بذلك إنسانًا طاغية؛ في نفس الوقت الذي لم تتجه نحو تعميق الانشغال بعالم الغيب كما استغرقت الفلسفة الإغريقية واليونانية بعالم الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة.
بل وجهت البحث والعلم إلى ما ينفع الناس في واقعهم واهتمت بالعلوم المادية في ذات الآن الذي أثبتت فيه وجود عالم الغيب الذي تستمد منه مصدر تشريعها.
في الوقت الذي نجد فيه الحضارة المادية انشغلت بالإجابة على سؤال علاقة الإنسان بالجماعة والمجتمع، ولكنها عجزت عن خوض غمار علاقة الإنسان بالكون وبقيت رؤيتها في هذا الباب غامضة.
هذا الكون المتناسق المنظم الدقيق وكل ما فيه أشياء مخلوقة، متعلقة في وجودها بوجود أعلى وأسمى منها، وهو وجود الله الخالق المبدع لها سبحانه.
والكون كله في حالة عبادة لله، وهو سبحانه المدبر له المتصرف فيه المتحكم في كل متغيراته.
والإنسان يندرج ضمن هذا الكون المعبود لله، فهو جزء منه، ولكنه مع ذلك يتمتع بخصوصية كبيرة تجعله مستقلًا بداخله، فهو الخليفة فيه، والكون هو المجال خلافته المسخر له.
كما أن الإنسان يتميز عن سائر المخلوقات بالعقل، مما يجعل الكون مجالًا خصبًا للتفكر والتأمل في دقائقه، مرة للاعتبار، ومرة للتعلم من دقته نظامه وجماله، ومرة أخرى للزيادة في الإيمان ومشاركته في التسبيح لله الواحد القهار..
إن علاقة الإنسان بالله، هي السعة التي تخرج من ضيق التفكير المحدود، وهي الارتفاع الذي يرتقي بالطموح الدنيوي إلى الأخروي، وهي الغاية التي تحقق معنى الوجود، إن هذه العلاقة هي وحدها ترتقي بالمجتمع الإنساني وتوجه سلوكه وتقومه، وهذا ما عبر عنه مالك بن نبي عندما قال: فالعلاقة بين الله والإنسان هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذا بدوره يربط ما بين الإنسان وأخيه الإنسان…فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الاجتماعية والعلاقة الدينية معًا من الوجهة التاريخية على أنهما حدث، ومن الوجهة الكونية على أنهما عنوان على حركة تطور اجتماعي واحد (9).
علاقة الإنسان بالكون علاقة تسخير:
الغاية من التسخير هي أن يعلم الإنسان من خلاله قدرة الله وعلمه المطلق ورحمته المطلقة، فالكون مختبر يتحقق الإنسان فيه من صحة ما أخبر به الوحي، ويطمئن إلى صدق ما جاء به الرسول محمد صلي الله عليه وسلم، فالوحي والكون جزءان في سفر إلهي واحد أحدهما يقدم آيات الله في القرآن والثاني يقدم آيات الله في الآفاق والأنفس.
وهذا التكامل بين النوعين من الآيات هو معجزة الرسول الخالدة، وهو أمر أساسي في منهاج التربية الإسلامية، فحين طلبت قريش من رسول الله صلي الله عليه وسلم معجزة مادية وشواهد حسية لصدق ما جاء به تنزل الوحي بأن في مقدور أولي الألباب والأذكياء الموهوبين أن يدخلوا مختبر الكون ويشهدوا المعجزات والبراهين التي طلبوها، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
ولقد ازداد التسخير في آيات الآفاق في الكون بازدياد العلم بقوانين هذا الكون، وهو ما نسميه بتقدم التكنولوجيا.
أما التسخير في آيات الأنفس فما زال أقل وضوحًا وتقدمًا، والذي تريده فلسفة التربية الإسلامية من الحض على النظر في آيات الأنفس هو اكتشاف قوانين الله في النفس والرسوخ في فهم هذه القوانين، بغية إقناع الانسان على أن مخالفة قوانين الله في الأنفس كمخالفة قوانينه في الكون.
ومعرفة أن الذين لا يراعون قواعد الإيمان بالله واليوم الآخر فسوف يتحطمون ويتكسرون كما يتكسر الذين يقفزون من الطائرات دون مراعاة قوانين الجاذبية، وأن المجتمع الذي لا يراعي الناس فيه مسؤولياتهم التي أمر الله بها في علاقات الناس بعضهم ببعض فسوف يتحطم بسبب خروجهم على قوانين الأخلاق، أو قوانين الله في البشر، كما يتحطم الذي يخرج على قوانين الطبيعة في الجاذبية والإحراق.
ميادين التسخير:
حددت فلسفة التربية الإسلامية ميادين التسخير التي يجب أن تتوجه إليها أجهزة الوعي في الإنسان: العقل والسمع البصر، وقيمة هذا التحديد هو حفظ هذه الأجهزة من التوجه إلى ما لا يمكن البحث فيه، ومن تبديد الطاقات فيما لا طائل تحته من – الميتافيزيقا – التي لا برهان عليها ولا شواهد لها.
ولقد تحددت ميادين التسخير المذكورة في ميدانين رئيسيين هما: ميدان الكون، وميدان النفس، وتتحدد جوانب التسخير في ميدان الكون في عناصر الكون الرئيسية الثلاثة: الفضاء المحسوس، واليابسة الملموسة، والماء الكائن في المحيطات والبحار وما يتفرع عنهما.
ومن هذه الميادين الثلاثة تتفرع ميادين فرعية لا حصر لها، {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32- 33].
وتحذر فلسفة التربية الإسلامية تحذيرًا شديدًا من الخروج علي – علاقة التسخير – مع الكون والخروج بها عن أهدافها وغاياتها؛ لأن الخروج علي هذه الغايات والأهداف يجعل علاقة التسخير تنقلب على الإنسان بعد أن كانت له؛ فمثلًا: الماء المسخر للإنسان قد ينقلب تسخيره علي الإنسان فتفيض الأنهار وتعصف البحار والمحيطات والأمطار؛ فتكتسح ما في طريقها من المنشآت والكائنات، والقرآن يورد الأمثلة لذلك منها: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} [الحاقة: 4- 12].
ونحن اليوم نري آثار الخروج على – علاقة التسخير – في الحضارة المعاصرة في ميادين العلوم والتكنولوجيا الذرية والهيدروجينة وعلوم الفضاء، وهي تتحول علي يد الانسان الذي لا يهتدي بعلاقة التسخير إلى أهوال وأخطار مسخرة على الإنسان تنذر بتدمير حياته كاملة على الأرض، بدل أن تكون مسخرة له ترقى به إلى الرسوخ في معرفة الله والتنعم بنعمه.
وليسهل على الإنسان ممارسة علاقة التسخير بالشكل الذي تطرحه التربية الإسلامية أمده الله بالمؤهلات والقدرات التي تمكنه من إقامة هذه العلاقة المشار إليها، وهذه المؤهلات هي:
المؤهل الأول: القدرة على تسخير الكون ومنحه منزلة الخلافة على الأرض.
المؤهل الثاني: أمد الإنسان بالقابلية للتعلم والقدرات التي تمكنه من كشف أسرار الكون وقوانينه ومكوناته وعناصره.
المؤهل الثالث: تناسق تكوين الإنسان مع طبيعة الخلافة.
الصراع مع الطبيعة في الفلسفات التربوية المعاصرة:
لعل من أكبر الأخطار التي تمثلها – فلسفات التربية المعاصرة – أن هذه الفلسفات بتأثير الداروينية الاجتماعية قد خرجت بعلاقة الإنسان مع الكون عن مفهوم التسخير وقلبتها إلى علاقة الصراع والسيطرة على الطبيعة، حيث يصارع الإنسان الطبيعة للسيطرة عليها وانتزاع ثرواتها دون هدف ولا غاية إلا هدف الاستهلاك والاستمتاع الدنيوي.
ومع تقديرنا واحترمنا للجد والمعاناة الشاقة، والصبر على متطلبات البحث والدراسة التي اتصف بها العقل الغربي، والتي انتهت بأمثال رينه دوبوا، وأبراهام ماسلو إلى نقد الصراع مع الطبيعة، وإلى الاقتراب من التفسير الإسلامي، وخرجت بأمثال موريس بوكاي ورجاء جارودي إلى نور الإسلام، فإننا نصارح العقل الغربي بأنه قد آن الآوان لأن يتخلص من العقد النفسية التي عاشتها عقول أسلافه في العصور الوسطي وجعلتهم ينظرون إلى الإسلام تلك النظرة السلبية التي جانبت الموضوعية.
وإنه لمن الازدراء للفكر وأهله أن يبقي الفكر وأهله مستأجرين لأهواء أصحاب المال وأهواء الساسة، وأن تتشكل مواقف المفكرين إيجابيًا وسلبيًا طبقًا للمصالح المتلونة المتقلبة.
وإنه لمن العار أن يقتصر اهتمام العقل الغربي علي شهود الثروات المادية المخزونة في باطن الأرض العربية الإسلامية أو الكائنة فوقها؛ ثم لا يبحث في الثروات الفكرية والعقائدية المخزونة في أسفارها، خاصة وأن حاجة الغرب إلى هذه الثروات الفكرية والعقائدية أشد من حاجته إلى الثروات المادية.
إن للعقل الغربي دورًا كبيرًا في إبراز مظهر من أعظم مظاهر الإعجاز في القرآن وهو الإعجاز العلمي؛ ذلك أن مظاهر الإعجاز في القرآن تتوازي في البروز مع التطورات التي يمر بها المجتمع البشري، ومع القدرات والاستعدادات التي تتسم بها الأمم والأجناس؛ ففي طور العلم للأمم التي تتصف بالنظر العلمي دور في إبراز الإعجاز العلمي للقرآن، وللأمم التي اتصفت بطابع الفقه التشريعي دورًا في إبراز الاعجاز التشريعي فيه، وللأمم التي اتصفت بطابع الفقه اللغوي والأدبي دورًا في إبراز الاعجاز اللغوي والأدبي فيه وهكذا (10)
____________________
(1) أخرجه البخاري (4422).
(2) أخرجه البخاري (3686).
(3) أخرجه البخاري (3585).
(4) أخرجه البخاري (3471).
(5) تيسير الكريم الرحمن (ص: 936).
(6) في ظلال القرآن (5/ 3226- 3227).
(7) الكون صداقة للإنسان ودلالة على الخالق/ شبكة الألوكة.
(8) أخرجه أحمد (12981).
(9) الكون والإنسان أسس وقواعد/ يقظة فكر.
(10) نموذج العلاقات بين الإنسان والخالق والكون في فلسفة التربية الإسلامية/ المنتدى الإسلامي العالمي للتربية.