أساليب الارتقاء بالنفس
أهمية الارتقاء بالنفس:
إن تزكية النفس والارتقاء بها إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه، والمشاركة الإيجابية في الإصلاح، يحتاج من الإنسان المسلم الإيجابي أن يُقدِم وبجديَّة على التغيير، وأن يبدأ من داخل نفسه، وأن يجاهد نفسه ويأخذ بالأسباب التي تعينه على ذلك -بعد الاستعانة بالله- ويصبر عليها حتى يتم التغيير بإذن الله تعالى.
إن تزكية النفوس والارتقاء الفكري والأخلاقي هو أساس أي نهضة؛ فالله تعالى لا يغير ما بنا من ذل ودمار وتأخر عن بقية الأمم، حتى نغير ما بأنفسنا لنرتقي بها إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه، والقاعدة الربانية تقول: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
القرآن يحدثنا عن النفس:
لقد تحدث القرآن عن النفس وصعودها وهبوطها، وعن جنوحها واعتدالها، وعن ضعفها وعجزها، وعن تقواها وفجورها، وعن زكاتها وطهارتها، وعن تمردها ومكابرتها، وعن حرصها وشحها، كما لفت الأنظارَ إلى أن التفكر في النفس هو أحدُ وسائلِ إدراكِ الحقِ والاعتبارِ، فقال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53], إن القرآن يخاطب الإنسان في ذات نفسِه، باعتبار أن النفس هي القوة العاقلة المدركة فيه، فيقول سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8].
ويقول جل شأنه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30].
ويقول سبحانه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، ويقول: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18], ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1], ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6], وغيرها من الايات الكريمة
مظاهر الارتقاء بالتفس:
أولًا: قوة الصلة بالله:
وهي أمر أساس في بِناء المسلم في المراحل الأوْلَى من عُمْره؛ حتى تكون حياته خالية من القَلَق والاضطرابات النفسيَّة، وتتم تقوية الصلة بالله بتنفيذ ما جاء في وصيَّة الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: «يا غلام، إني أعلمك كلمات؛ احفظِ الله يحفظك، احْفظِ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعْلمْ أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أنْ يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصُّحف» (أخرجه الترمذي ().
ثانيًا: الثبات والتوازن:
إن الإيمان بالله يشيع في القلب الطمأنينة والثبات والاتزان، ويَقِي المسلم من عوامل القلق والخوف والاضطراب؛ قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].
ثالثًا: الصبر عند الشدائد:
يربِّي الإسلام في نفس المؤمن روح الصبر عند البلاء، عندما يتذكَّر قولَه تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبرَ، فكان خيرًا له» ().
رابعًا: المرونة في مواجهة الواقع:
وهي من أهم ما يحصِّن الإنسان نفسه من القلق أو الاضطراب حين يتدبر قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
خامسًا: التفاؤل وعدم اليأس:
فالمؤمن متفائل دائمًا، لا يتطرَّق اليأس إلى نفسه؛ فقد قال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87], ويطمْئِنُ الله المؤمنين بأنه دائمًا معهم إذا سألوه، فإنه قريبٌ منهم ويجيبهم إذا دعوه؛ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
سادسًا: توافق المسلم مع نفسه:
حيث انفرد الإسلام بأن جَعَلَ سنَّ التكليف هي سنَّ البلوغ للمسلم، وهذه السنُّ تأتي في الغالب مُبكِّرة عن سنِّ الرشد الاجتماعي الذي تقرِّره النُّظم الوضعيَّة، وبذلك يبدأ المسلم حياته العمليَّة، وهو يحمل رصيدًا مناسبًا من الأُسس النفسيَّة السليمة التي تمكِّنه من التحكُّم والسيطرة على نزعاته وغرائزه، وتمنحه درجة عالية من الرضا عن نفسه؛ بفضل الإيمان والتربية الدينيَّة الصحيحة التي توقظ ضميره، وتقوِّي صِلته بالله.
سابعًا: توافق المسلم مع الآخرين:
الحياة بين المسلمين حياة تعاون على البرِّ والتقوى، والتسامح هو الطريق الذي يزيد المودة بينهم ويبعد البغضاء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس دليل على تقوى الله، وقوة التوازن النفسي؛ {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت : 34 – 35].
عندما تسقط النفس:
إن تَدْسِيَة النفس وتدنيسها مرض قديم جديد في حياة الناس، تأتي به وتجلبه آفات كثيرة ومسببات متعددة، تتنوع وتتغير بتغير المكان والزمان، غير أن أشدها أثرًا وأسوأها تأثيرًا الكفر والشرك، والنفاق والشك، والخوف من غير الله، واتباع الهوى والكبر والشح، والجبن والحسد والجزع، والغرور وحب الرياسة، والتقصير والغلو، والعجلة والشكوى، والطمع والهلع، والعلو في الأرض والحمية للنفس والغضب لها.
وإذا رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنه قد مسخ، ومتى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حب المخلوق والرضا بالدنيا والطمأنينة بها فاعلم أنه قد خسف به، ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وإن أبعدَ القلوب من الله تعالى القلب القاسي.
ولذا كان لزامًا على كل عبد ناصح لنفسه يرجو النجاة والفوز يوم الحسرة أن يسعى لتزكية نفسه وتطهيرها وتنقيتها وتنظيفها، وأن يتعاهد قلبه بذلك دائمًا وأبدًا، فإنه هو ملك الأعضاء ورئيسها، إن صلح وزكا صلحت الجوارح وزكت، وإن فسد وتدَسَّى، فسدت الجوارح كلها وتَدَسَّت، وخاب الإنسان وخسر، قال: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» ()).
لذلك فالإنسان هوالمسؤول المحاسَب: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
العوامل التي تساعد على الارتقاء بالنفس
ثمة وسائل وخطوات معينة بإذن الله على الارتقاء بالنفس:
أما الخطوة الأولى فهي معرفةُ موقع ِالنفسِ ودرجتِها، لقد وصف الله سبحانه تعالى النفس في القرآن الكريم وجعلها على ثلاث مراتب:
فأدنى وأخس درجة:
هي النفس الأمارة، وهي التي تأمر صاحبها بما تهواه من شهوة فائرة أو ظلم أو حقد أو فخر إلى آخره، فإن أطاعها العبد قادته لكل قبيح ومكروه قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف: 53] .
أما المرتبة الثانية:
والتي يمكن للنفس أن تعلو إليها فهي النفس اللوامة، وهي النفس التي تندم على ما فات وتلوم عليه، وهذه نفس رجل لا تثبت على حال فهي كثيرة التقلب والتلون، فتتذكر مرة وتغفل مرة، تقاوم الصفات الخبيثة مرة، وتنقاد لها مرة، ترضي شهواتهِا تارة، وتوقفُها عند الحد الشرعي تارة, وفيها قال تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2].
أما أعلى مرتبة:
والتي يمكن أن تصل إليها نفسك وترقى هي النفس المطمئنة، وهي تلك النفس التي سكنت إلى الله تعالى واطمأنت بذكره وأنابت إليه وأطاعت أمره واستسلمت لشرعه واشتاقت إلى لقائه، وهذه النفس هي التي يقال لها عند الوفاة {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30] [19][20]
الخطوة الثانية في الارتقاء بالنفس: هي الاعتراف بعيوبها، وإن مما يجعلك ترفض الاعتراف بالعيب الشعور بأنك قد بلغت مرحلة من الصلاح لا تحتاج فيها إلى تذكير ونصح لكثرة ما قرأت وعلمت في إصلاح النفوس...
الخطوة الثالثة: في الارتقاء بالنفس المجاهدة, {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين} [العنكبوت: 69].
الخطوة الرابعة في الارتقاء بالنفس: هي تنميةُ الصفات الطيبة ورعايتُها حتى يكون لها الغلبة, قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الحلم بالتحلم».
الخطوة الخامسة في الارتقاء بالنفس: وهي من أهمها الدخول على الله من باب العبودية المحضة، وباب العبودية المحضة المقصود هو باب الانكسار والافتقار إلى الله تعالى، والذل، ذلك بأن يستشعر الإنسان أنه ذو صفاتٍ تقتضي الحاجة إلى رحمة ربه.
و يلازم الدعاء كما ورد أنّه صلى الله عليه وسلم علَّم حصينا أن يقول: «اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي».