logo

مضمون التربية ومجالاتها


بتاريخ : الأحد ، 1 ذو القعدة ، 1436 الموافق 16 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
مضمون التربية ومجالاتها

التربية هي العملية التي تهدف إلى الوصول بالمتربي إلى الكمال البشري، وذلك في حدود المنهج الرباني، أو ترويض النفوس ومساعدتها على تطبيق ما تعلمته من دين الله، ويتبين هذا المفهوم بالتفريق بين التربية والبلاغ.

 

وبالنظر إلى بعض الآيات، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، ففرق بين التلاوة أو التبليغ وبين العلم وبين التربية أو التزكية، وقوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران:146]، وتفسير ابن عباس للعالِم الرباني بأنه الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره، وفيه إشارة إلى معنى التدرج في التربية والمتابعة، والوصول بالمتربي إلى الكمال البشري المناسب له.

 

والتربية لكي تؤدي رسالتها بنجاح كان لا بد لها أن تتضمن عدة أمور:

 

1- التربية على المنهج العلمي المتزن:

إننا أمة المعرفة، والوحي المعصوم الخالد، الذي صُدر بـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)} [العلق:1-5].

 

قال صلى الله عليه وسلم: «والله، ليعلمن قومٌ جيرانَهم، ويفقهونهم، ويفطنونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلّمن قومٌ من جيرانِهم، ويتفقهون، ويتفطنون، أو لأعاجلنّهم العقوبة في الدنيا»(1).

والعلم المطلوب هو كل علم نافع في أمور الدنيا والدين، يبني الفرد، ويبني المجتمع، ويفيد الإنسانية، أمّا العلم الذي لا ينفع فقد حذرنا منه المعلم الأول فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع»(2).

 

وعن أبي بن كعب قال: «تعلموا العلم واعملوا به، ولا تتعلموه لتتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه»(3).

وتزخر سيرة السلف الصالح بالمواقف الجادة في طلب العلم، حيث يقول الصحابي الجليل معاذ بن جبل، وقد حضرته سكرات الموت واقترب الوعد الحق، وأتاه اليقين من ربه، يقول وهو ينظر إلى سقف منزله، مناجيًا ربه سبحانه وتعالى: «اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور، وإنما كنت أحب الحياة لثلاث: مزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، وتعفير وجهي في التراب ساجدًا لله، وصيام الهواجر».

 

فما أعظم هؤلاء الرجال الذين تربوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ومن حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالًا فَسُلِّطَ على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»(4).

وهذا يضع على التربية العلمية مسئولية إعداد المتعلم المثقف علميًا، الذي يجب أن يمتلك قدرًا من المعرفة والوعي بأمور علمية عامة، تتعلق بشتى مجالات الحياة، حتى يتمكن من اتخاذ القرار المناسب بشأن ما يواجهه من مواقف ومشكلات في مجتمع دائم التغير والتطور.

ومن ضوابط المنهجية العلمية ما يلي:

أولًا:أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، المتون ألفها أهل العلم معتصرة لتحفظ، والشروح ألفوها وبسطوها وكتبوا عليها الحواشي لتفهم، فهناك طريقة لحفظ المتون، وهناك طريقة لقراءة الشروح وسرد المطولات.

 

فعلى الإنسان أن يجد ويجتهد، ويحرص على التعلم بصغار العلم قبل كباره؛ لأن هذه الطبقات وهذه التدرجات والدرجات التي جعلها أهل العلم للمتعلمين مثل السلم الذي تصعد بواسطته إلى السطح(5).

 

ثانيًا:اختيار العالِم الذي يتلقى عنه: ليس كل إنسان يصلح أن يتلقى عنه، قال الإمام ابن حزم: «لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون»(6).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«ولا يحل لأحد أن يتكلم في الدين بلا علم، ولا يعين من تكلم في الدين بلا علم، أو أدخل في الدين ما ليس منه»(7)، وقال كذلك: «فمن تكلم بجهل، وبما يخالف الأئمة، فإنه ينهى عن ذلك ويُؤدَّب على الإصرار، كما يُفعل بأمثاله من الجهال، ولا يقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة، وإن كان مشهورًا عنه العلم، كما قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك»(8).

 

وقد ثبت عند أحمد من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون»(9).

 

قال النخعي رحمه الله: «كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل نظر في صلاته وفي حاله وفي سمته، ثم يأخذ عنه».

 

وكم من مدَّعٍ للعلم، متعالم مع جهل، ينظر لنفسه نظر الكبر والغرور، فيظن أن جمع العلم يكون من قراءته للكتب فحسب، فلا حاجة ليقرأ العلم على أهله، ولا ليثني ركبه عند أهل العلم، قال الأوزاعي: «كان هذا العلم شيئًا شريفًا؛ إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره، وصار إلى غير أهله».

ثالثًا:اختيار الكتاب المناسب لواقعه وحاجاته، فإن اختيار الكتب يختلف باختلاف القارئ وهدفه من القراءة.

 

رابعًا:الاستمرار بأن يضع برنامجًا علميًا طويلًا يستمر عدة سنوات، وإلا هذا الانقطاع والتقطع من بعض الشباب قد أحدث خللًا، فحضور دورة في السنة فقط لا يكفي لتكوين طالب العلم المتمكن، العلم إذا أَعطيتَه كُلَّك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك ماذا يعطيك؟ لن يعطيك شيئًا، ولن تحصل على شيء، فالمسئولية هي مسئولية المربين أن يوجهوا الشباب توجيهًا مهمًا.

خامسًا:أن يربط بين الجانب العلمي والتربوي، الجانب العلمي الصرف فقط، مجرد النصوص، لا تخرج عالمًا معبرًا؛ بل قد يقع خطأ وخلل كما حدث من البعض الذين اقتصروا على الكتب فقط أو على الحفظ فقط، ولما دخلوا في المجتمع فإذا هم لا يستطيعون أن يتجاوبوا مع مشكلات المجتمع وظروفه وواقعه، فوقعوا في خلل كبير مع إمكاناتهم الكبيرة في الحفظ والقراءة والاطلاع، فلا بد من التوازن والتناسق، والتمازج والتناغم بين العلم والتربية من أولى الخطوات.

 

سادسًا: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء، وجالب كل خير، ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عبد الله بن عباس، لما رأى ما يدل على ذكائه: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»(10).

 

وهكذا بلغ حَبْر الأمة ابن عباس مكانته التي نالها بدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

سابعًا: الصبر وتحمل الشدائد، ولذا كان من كلام الإمام ابن الجوزي عن الشدائد التي نالته في بدء طلبه للعلم، وعن محامد صبره على تلك الشدائد: «ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى في بغداد، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم»(11).

 

قال الأصمعي لرجل: «ألا أدلك على بستان تكون منه في أكمل روضة، وميت يخبرك عن المتقدمين، ويذكرك إذا نسيت، ويؤنسك إذا استوحشت، ويكف عنك إذا سئمت؟»، قال: نعم، قال: «عليك بالكتاب».

 

فلا يخلو كتاب من فائدة؛ تنفع من يعمل بها، أو تحذر من أمر ما، كما إنها تُعَد خير وأجمل جليس وأحسنه وأكرمه وأنفعه للفرد وللمجتمع.

 

قال أحد العقلاء: صحبت الناس فملوني ومللتهم، وصحبت الكتاب فما مللته ولا ملني .

2- التربية على السلوك الإسلامي:

مفهوم تعديل السلوك في التربية الإسلامية مفهوم ذو مدلول واسع، ولعل من أهم المفاهيم التي تحقق هدفه وغايته مفهوم تزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

المربي، أبًا كان أو معلمًا، يؤدي أمانة عظيمة، وسيُسأل عنها أمام الله تعالى، فليحرص أن يكون في ظاهره وباطنه مُرضيًا لله تعالى، فإنْ فعل خيرًا فله أجره وأجر من اقتدى به في ذلك من تلامذته، وإن كانت الأخرى فعليه إثمه وإثم من اقتدى به فيه، وإن ارتكب الإثم سرًا، فإن هذا الإثم لا يتعدى إلى التلميذ، ولكن يوشك أن يرشح منه ما يقلل من شأنه أمام تلميذه.

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ  وإن خالَها تخفى على الناس تُعْلَمِ

 

يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: «من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبّخ نفسه».

ويقول مالك بن دينار: «العالم إذا لم يعمل بعمله زلَّتْ موعظته عن القلب كما يزل الماء عن الصفا»، والصفا: الحجر الأملس.

 

فالسلوك مفتاح شخصية الإنسان، وهو لسان حالها والمعبر عنها، والكاشف عن مكنوناتها، والناطق بأسرارها، وهو القالب الذي تتجسد فيه المشاعر والأحاسيس والعواطف والانفعالات والغرائز، وفي السلوك تتحد الجوانب العقلية والنفسية والاجتماعية لمواجهة الحياة البشرية؛ لذا، كان السلوك القويم عنوانًا للشخصية السوية، والسلوك المعتل المتذبذب عنوانًا للشخصية العليلة المهترئة، فدراسة السلوك الإنساني هي دراسة هامة؛ لأنه الجانب الحقيقي للإنسان، والانعكاس الصادق لمشاعره وانفعالاته.

 

الهدف من تعديل السلوك في التربية الإسلامية تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة، وجعل الإنسان يسير بخطوات ثابتة نحو الغاية التي خلق لأجلها.

 

ويتأتى انحراف السلوك من ابتعاد الإنسان عن منهج الله سبحانه وتعالى، سواء أكان هذا الأمر خاصًا به أم بغيره.

 

وتستمد أهداف تعديل السلوك الإنساني في التربية الإسلامية من أهداف الإسلام بعامة، وهي أهداف ليست دينية محضة، ولا دنيوية؛ بل دينية ودنيوية في آنٍ واحد.

 

وكذلك فإن خصائص تعديل السلوك في التربية الإسلامية تستمد، بصورة عامة، من خصائص ومميزات الإسلام؛ فالفرع يأخذ ويكتسب من الأصل(12).

 

3- التربية الروحية:

إن التربية الروحية نواة التربية الإسلامية وجوهرها، وقد قامت على قواعد قوية، وأسس متينة، من شأنها توطيد أواصر الصلة بين المسلم وربه، وربط أسباب دنياه بأسباب آخرته.

إن كانت روحنا نفخة من روح الله {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]، فهي لا تهنأ إلا بالقرب منه، ولا تشتاق إلا للأنس به، ولا تطمئن إلا لمناجاته، ولا تتطلع إلا لنيل رضاه، والتعلق بالله له صور كثيرة، منها:

 

المداومة على ذكر الله والدعاء: فذكر الله هو قوام الحياة الروحية، يُبقى النفس متصلة بخالقها، متعلقة به، شاعرة بقربها منه.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «ذكر الله»(13).

 

وعن عبد الله بن بسر أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثُرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله»(14).

 

وعن يزيد بن المعلى أنه ذهب إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد، أجد قساوة في قلبي، فماذا أصنع؟ قال له الحسن: «أَذِبْها بذكر الله».

 

وجاء في القرآن الكريم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

 

الإكثار من العبادات: من صلاة، وصيام، وإنفاق في سبيل الله، وقراءة القرآن، وقيام ليل، فهي تُحْيي القلب، وتنقي الروح، وتطهر النفس، وتربط الإنسان بربه وبآخرته، فيزهد في الدنيا إلى ما عند الله، والعبادة التي يقبلها الله هي تلك التي يستشعر المؤمن فيها القرب منه، ويحضرها قلبه، وعليه أن يؤديها باستكانة وتواضع ولين؛ لتزرع في قلبه الرقة، وفي نفسه الوداعة، وفي سيرته الطيبة، لا الاستكبار، ولا الأنَفَة، ولا التباهي.

عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهرٍ جارٍ غَمرٍ على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات»(15).

فالتربية الروحية أصل أصيل في الشريعة الإسلامية، ولولا هذه التربية الروحية لتحول الناس إلى نيوب وأشباح لا إلى قلوب وأحباب، لأصبحوا ذئابًا يفترس بعضهم بعضًا، لكن هذا الغذاء الروحي هو الذي يجعله هينًا لينًا سمحًا حبيبًا خاضعًا: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]،كل هذا في الغذاء الروحي، حتى إن الغذاء الروحي يجعل المسلم منضبطًا انضباطًا عجيبًا لا يوجد مثله في العالم، كما قال سبحانه في صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].

 

في نفس اللحظة التي يكون فيها شديدًا قمة الشدة على الكافر، كما يفعل المجاهدون الأفغان عندما يحاربون الروس، تجد الواحد منهم إذا صاح: الله أكبر، ينخلع قلب الروسي من الرعب والخوف، لكن انظر فيما بينهم عندما يعيشون في الخنادق والمخيمات والجبهات هادئين، يؤذنون على قمم الجبال، ويصلون صلاة الجماعة، يرحم بعضهم بعضًا، يعطف بعضهم على بعض، فترى القائد الكبير يجلس بجوار الجندي الصغير، فإذا صار مريضًا قرأ عليه المعوذتين، ووضع رأسه على فخذه، ويمسح على صدره، كما تفعل الأم بأولادها، وهذا شاهدته بعيني:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29].

 

فالتربية الروحية في الركوع وفي السجود، في التعظيم لله، في التسبيح لله، في الحفاظ على صلاة الجماعة، في قيام الليل، في لزوم الذكر، يزيد الإيمان وتنتعش الروح: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17](16).

4- التربية على الطبيعة الدعوية:

 

كالبذل والعطاء من أجل الدين، والتعاون مع الآخرين، وإنكار الذات، وأدب الاختلاف، والتأني والرزانة، والاستشارة والحكمة، وحسن القدرة على التوجيه، وعدم الثرثرة أو الكلام في غير وقته المناسب أو مع غير أهله.

التربية الدعوية يجب أن تركز على كسر القوقعة، والخروج إلى الحياة الفسيحة، والتفاعل الاجتماعي، وتحقيق الكتلة البشرية الإسلامية الضاغطة في معترك الحياة.

 

لقد دأب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، في منهاجه التربوي الدعوي، على ترسيخ ذلك الارتباط بالقرآن وسنته الشريفة، يقول صلى الله عليه وسلم: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبوا به، أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني»(17)، ومن حديث جابر أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب صلى الله عليه وسلم... الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم:«فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»(18).

 

إنما يتحقق ذلك من خلال عزمات البشر في العلم والتعلم، والتزكية والتربية، والعبادة والدعاء، والمجاهدة والاجتهاد، والصبر على البلاء، والوقاية من التدسية، واحتمال الشدائد، والثبات على الحق، والرجوع عن الباطل، وشيوع المناصحة في العلاقات الفردية، والشورى في الحكم، واعتماد الخبرة والتخصص في العلم، وممانعة الشهوات والرغائب، وعدم الخلط بين الأمنيات والإمكانيات في تحقيق الأهداف، وتنمية المهارات، وتحقيق الرؤية الإسلامية في مجالات الحياة، والدلالة بالفعل الملتزم بالشرع على واقعية القيم الإسلامية، وإمكانية تجسيدها في حياة الناس، والعمل على اكتساب المهارات اللازمة لحمل هذه الأفكار، وترجمتها إلى أعمال وأفعال(19).

 

أتعجب من بعض القائمين على بعض المحاضن التربوية، وطريقتهم في تحزيب المتربين؛ بل وتنشئتهم من تحت أيديهم على ذلك!

فأصبح من السهل؛ بل والمعتاد أحيانًا، أن تقع أذنك على اثنين من صغار المتربين في إحدى المناسبات، وجُلُ حديثهم عن المؤسسة والمحضن الذي ينتميان إليه، وما لدى الآخر من مساوئ وعيوب.

 

فهل جاء السبب في حقيقته من فراغ وتزجية للوقت؟ أو من باب الممازحة والتسلية؟ أو جاء بناء على تفريط المربين في معالجة هذا الأمر؟ أو بسبب نابتة نشأت داخل المحضن التربوي فحصل ما حصل؟

5- التربية البدنية:

حين يقول الرسول الكريم: «إن لبدنك عليك حقًّا»(20)؛ من إطعام وإراحة وتنظيف وتقويم، فهو يدعو إلى هذه العناية الشاملة بالجسم كله، ليأخذ الإنسان بنصيب من المتاع الحسي الطيب الحلال، الذي أمر الله به في توجيهاته الكثيرة: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] أي: لغاية نفسية مقامة على قاعدة جسمية؛ ثم ليوفر الطاقة الحيوية اللازمة لتحقيق أهداف الحياة، وهي أهداف تشمل كل كيان الإنسان.

 

وكذلك توجيهات الإسلام المختلفة في هذا الباب، فالرماية والفروسية، أو الرياضة البدنية عامة، هي جزء من منهج التربية الإسلامية، تنص عليه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقصد بها تقوية الجسم ورياضته على احتمال المشاق وبذل الجهد، كما يقصد بها قوة الأخذ بنصيب الإنسان من الحياة، والاستمتاع به، فالجسد الهزيل المريض لا يأخذ نصيبه الحق من المتاع، فوق أنه لا يوصل شحنة الحياة إلى النفس توصيلًا صحيحًا، تقوم عن طريقه بمهمتها المفروضة عليها؛ وفوق أن جهاد الحياة، والحياة كلها جهاد، في حاجة إلى جسم وثيق متين البنيان.

 

الإسلام لا يكبت طاقة من الطاقات؛ لأنه لا يريدها أن تموت، إنه في حاجة إلى كل طاقة حية في كيان الإنسان، وهو في حاجة إلى كيان سليم قوي فياض متحرك متمكن من الحياة، إن رسالته هي رسالة القوة، القوة في الحق، القوة في البناء والتعمير، القوة في حمل الأمانة، القوة في القيام بمقتضياتها، القوة في الجهاد في سبيلها، وقوة الرغبة في الحياة.

 

والنفس المتكاملة تأخذ انطلاقها الكامل في كل اتجاه بقوة وإصرار وتمكن، وفي الوقت ذاته تخلع نفسها بقوة من كل متاع حين تريد، إنه التحرر القوي، وهو كذلك التحرر الحقيقي، التحرر الذي تتمثل فيه حرية الرغبة وحرية الامتناع، فلا تصبح الرغبة مالكة لقياد الإنسان، توجهه كما تشاء وهو إليها منقاد، ولا يصبح الامتناع موتًا وتهاويًا وانخذالًا ولا مبالاة.

 

وذلك هو منهج الإسلام في تربية النفس؛ إنه لا يكبت رغائبها فيقتل حيويتها ويبدد طاقتها ويشتت كيانها، فلا تعمل، ولا تنتج، ولا تصلح لعمارة الأرض وترقية الحياة، وفي الوقت ذاته لا يطلق رغائبها بلا ضوابط؛ لأن ذلك يبدد طاقتها من جانب آخر، يبددها في نشاط الحيوان، وعلى مستوى الحيوان(21).

 

__________________

(1) جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن، لابن كثير (5/460).

(2) رواه مسلم (2722).

(3) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/693).

(4) رواه البخاري (73)، ومسلم (815).

(5) تعلم صغار العلم قبل كباره، عبد الكريم الخضير.

(6) الأخلاق والسير في مداواة النفوس، لابن حزم، ص23.

(7) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (22/240).

(8) مجموع الفتاوى (22/227).

(9) رواه أحمد (27485).

(10) رواه البخاري (143).

(11) صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص248.

(12) تعديل السلوك الإنساني في التربية الإسلامية، عماد عبد الله محمد الشريفين، رسالة ماجستير.

(13) رواه الترمذي (3377).

(14) رواه الترمذي (3375).

(15) رواه مسلم (667).

(16) التربية الروحية، أحمد القطان.

(17) أخرجه أحمد (15156).

(18) رواه أبو داود (4607).

(19) مهارات التربية الإسلامية، العدد: 106، من سلسلة كتاب الأمة الصادرة في قطر.

(20) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي (7/239).

(21) منهج التربية الإسلامية، تربية الجسم، محمد قطب.