logo

فقه واقع الدعوة


بتاريخ : الجمعة ، 17 صفر ، 1435 الموافق 20 ديسمبر 2013
بقلم : تيار الاصلاح
فقه واقع الدعوة

لا يخفى على كل داعية، نذر نفسه لتحمل هذه الأمانة العظيمة، مدى الحاجة إلى دعوة راشدة تنهض بهذه الأمة، وتستند إلى قواعد صلبة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهدي السلف الصالح.

ولا ريب أن من أهم السمات المطلوبة في الداعية إلى الله هي البصيرة بمفهومها الواسع، والتي تشمل غير العلم بموضوع الدعوة معاني أخرى كثيرة، من أهمها: وجود الفهم الشامل لدى الداعية بأهداف دعوته ومقاصدها، وإدراكه للوسائل الشرعية التي ينبغي أن يسلكها لتحقيق هذه الأهداف، والتنبؤ بما قد يعترضه من عوائق ومشكلات، وهذا الوعي والإدراك لمثل هذه الأمور.

إن قضية الدعوة من القضايا ذات القيمة العليا في ميزان الشريعة؛ كونها مرتبطة بمقصد من المقاصد العليا في القرآن، وهو مقصد التوحيد، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، «والآية دالة على مقام الدعوة، وهي ظاهرة المعنى في أنه لا أحد أحسن مقالًا ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى، وكان من الصالحين المؤتمرين، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد، وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل؛ لكونه أشرف المراتب، ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي، وإلا لما صحت الدعوة»(1).

ولا شك أن قضية الدعوة إلى الله تعالى ليست شأنًا خاصًا لفئة محدودة من الناس، ولكنها من القضايا المركزية لهذه الأمة؛ فنحن أمة رسالتها الأساسية في هذه الحياة هداية الخلق، ونشر أعلام الحق والعدل والخير، وتعبيد الناس لرب العالمين، كما أن إصلاح المجتمعات الإسلامية وتخليصها من حالة الوهن والغثائية، من الهموم العامة لمعظم أبناء الأمة على اختلاف أوضاعهم(2).

والحق أن قضية الدعوة تزداد خطورة في هذه الأزمنة؛ كون الأمة تمر بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل بهذه الدرجة، حيث الضعف والخور الذي ساد جماهير الأمة، والبعد عن الشرعية الذي اتسمت بها النخب السياسية والفكرية، ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها في الظروف السابقة، فلم تعد مجرد تذكير؛ بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذي تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، في الوقت الذي تداعت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل جانب(3).

وهو الذي حذرنا منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها»، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت»(4).

الآثار السلبية لغياب فقه الواقع في العمل الدعوي المعاصر(5):

إن المتأمل لأشكال الخطاب، وأنواع الفعل الدعوي المعاصر بأبعاده المختلفة؛ تنظيميًا، وتربويًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، وسياسيًا، لا يجد كبير عناء في الوصول إلى استنتاج مؤسف مفادُه: ضعف حضور فقه الواقع في الأوراق والتصورات، وفي البرامج والخطط، وفي الأنشطة والأعمال، هذا الضعف يؤثر لا محالة على مردودية العمل، يَسِمُه بسمة الارتجال والعفوية، ويقلل من ثماره ونتائجه في الواقع، هذا على سبيل الإجمال، وأما على سبيل التفصيل فمن الآثار السلبية لغياب فقه الواقع في العمل الدعوي المعاصر:

1- الاشتغال بالقضايا الهامشية على حساب القضايا المركزية:

إن من أهم ما يميز العمل الإسلامي المعاصر خاصية الشمول؛ ذلك أنه يشتغل على كل الجبهات، ويسعى إلى إقامة الدين في كل مجالات وميادين الحياة العامة؛ في التربية، والثقافة، والإعلام، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع وغيرها.

غير أن هذه المجالات، وما يبذل فيها من جهود، لا تكون على نفس الدرجة من الأولوية والأهمية دائمًا، وإنما يكون بعضها، أحيانًا، أولى وأهم من بعض، حسب ما تمليه وتقتضيه ظروف الزمان والمكان والإنسان، ومن ثم فلا بد للعمل الإسلامي المنظم من سلّم أولويات يحدد مجالات العمل، ومرتبة كل مجال، ويضع برنامجًا لما يَلزم من الأنشطة والأعمال في كل مجال، ومرتبة كل عمل أو نشاط، حسب ظروف ومعطيات الفئة البشرية المستهدفة، واللحظة التاريخية، والبيئة الجغرافية.

وكل ذلك يتأسس في المقام الأول، وبالدرجة الأولى، على مدى القدرة على فقه الواقع، ورصد معطياته بكل دقة وموضوعية.

ولعل الناظر في الواقع الراهن للعمل الدعوي يلحظ اختلالًا واضحًا في سلّم الأولويات، وارتجالًا بيّنًا في توزيع الجهود والمبادرات، والأمثلة في ذلك أظهر وأكثر من أن تُحصر، وأصل الداء في ذلك كله هو غياب فقه الواقع، الذي عليه ينبني فقه التنزيل.

2- التيه وعدم تحديد الوجهة، وعدم امتلاك الرؤية المبصرة، واستراتيجية العمل:

لكل عمل من الأعمال رؤية واستراتيجية تناسبان طبيعة ذلك العمل، وتأخذان بعين الاعتبار خصوصياته، وظروفه في الزمان والمكان والإنسان.

ويقصد بالرؤية في مجال العمل الإسلامي: التصور العام الذي يحدد منطلقات العمل، وأهدافه، ووسائله، ومجالاته، وضوابطه العامة، في حين يقصد بالاستراتيجية: الخطة العامة التي تحدد منهج وكيفية تنزيل الرؤية، وتصريفها في الواقع، وذلك من خلال برنامج أولويات، يرتب مجالات العمل حسب الأهمية، ويتكون من مراحل، وأهداف، ووسائل دقيقة ومحددة وقابلة للقياس.

فإذا كانت الرؤية تكتسي طابعًا تصوريًا نظريًا عامًا؛ فإن الاستراتيجية تتميز بطابعها المنهجي الإجرائي والعملي، فإذا كان نجاح وفعالية الرؤية العامة يقاس بمدى قدرتها على معالجة مشاكل الواقع، والاستجابة لمطالبه وتحدياته؛ فإن نجاح الاستراتيجية ومردوديتها، إنما تقاس بمدى قدرتها على تكييف الرؤية مع معطيات الواقع التفصيلي وحسن تنزيلها عليه، أي أن فقه الواقع يظل مصدرًا أساسًا ومرجعًا مهمًا في تكوين كل من الرؤية والاستراتيجية، إلا أنه بالرجوع إلى العمل الدعوي المعاصر فإن الضعف الواضح، والفقر الكبير في الأوراق والأدبيات المتعلقة بفقه الواقع، أفرغ الرؤى والاستراتيجيات من محتواها، وحَدّ من فعاليتها وأثرها في توجيه الواقع والتأثير على أحداثه ومجرياته.

3- تحول العمل الدعوي المنظم إلى عمل نخبوي:

النخبوية من أبرز سمات العمل الدعوي المعاصر، ومعنى النخبوية: انحصار العمل الدعوي في فئة أو فئات معينة من الناس ذات خصائص، وانتماءات عرقية، أو جغرافية، أو ثقافية، أو اجتماعية، أو مهنية، واحدة أو متقاربة دون باقي فئات المجتمع؛ مما يضيق من آفاق العمل، ويحد من انفتاحه على أوسع مجال بشري، حين يطبعه بلون عرقي، أو جغرافي، أو اجتماعي، أو ثقافي، أو مهني واحد.

وظاهرة الفئوية أو النخبوية في العمل الدعوي ترجع في الغالب إلى افتقار العاملين فيه إلى القدرات والكفايات التواصلية التي توصلهم إلى الآخر، وضعف درايتهم بالمداخل والمفاتيح التي توصلهم إلى مختلف فئات وتشكيلات المجتمع، وإنما يرجع ذلك في نهاية المطاف إلى ضعف استيعاب الواقع الاجتماعي، من حيث مكونات المجتمع وفئاته، والعوامل الموجِهة له والمؤثرة فيه، وأنماط التطلعات والاتجاهات الحاكمة لسلوك الجماهير، والمُحدِّدَة لأشكال العلاقات بينهم، وهذا بدوره يرجع إلى أحد سببين أو إليهما معًا، وهما:

أولًا: ضعف الانخراط الميداني والمشاركة الفعلية في الواقع الاجتماعي، بما يؤدي إلى مراكمة الخبرات الميدانية والمعارف الصحيحة حوله، باعتبارها المدخل إلى تكوين تصور كلي شامل للواقع الذي اصطلحنا على تسميته بـ(فقه الواقع).

ثانيًا: الافتقار إلى الأدوات المنهجية، والآليات النظرية التحليلية الكفيلة بحسن قراءة الواقع، وتدبر مجرياته، وتحليل بُنياته، وسبر أغواره(6).

كيف نفهم الواقع الدعوي؟

نظرًا لأن العمل الإسلامي اليوم بكل أشكاله وألوانه يمر في مرحلة غاية في الدقة والحرج، وبما أن الواقع الدعوي واقع متغير، فكان لا بد من فهم هذا الواقع وفقهه؛ لما يترتب على ذلك من نتائج وثمار في الحقل الدعوي، ولذا كان ينبغي أن توضع قواعد محددة لفقه هذا الواقع، وكيفية التعامل معه بطريقة صحيحة؛ لأن الخطأ في فهم الواقع يتولد عنه أخطاء أخرى في التصور ووضع الهدف والتخطيط، بعيدًا عن ضيق الأفق والانغلاق المخزي، والتقوقع في جانب من جوانب العمل الدعوي؛ لذا، كانت هذه القواعد لفهم الواقع الدعوي، والمنهج الأمثل في التعامل معه.

1- اعتبار الواقع مجالًا للتفاعل بين الوحي والعقل:

لا يمكن بحال من الأحوال أن يتعارض نص صريح مع عقل صحيح؛ لأن النص من الله والعقل صناعة الله تعالى، فإذا استقام العقل فلا يتعارض مع المنهج، ولكن عندما ينحرف العقل، وينجرف مع أهوائه وضلالاته يحدث الاضطراب والخلل في فهم النص أو التعامل معه.

لقد أعطى الوحي الإلهي العقل البشري كل ما يحتاجه من تفسير شامل وكامل للحياة التي يعيش فيها، والكون الذي يتعامل معه.

لقد جاء الوحي بتصور شامل ومتكامل للحياة البشرية، بكل أبعادها ومناحيها، وهو يسعى بذلك إلى التأسيس لواقع اجتماعي إنساني، ينسجم مع نظرته إلى الوجود والحياة والإنسان، ولكن الوحي لا ينظر إلى الواقع نظرة نمطية واحدة؛ بل يميز فيه بين ظواهر وجوانب إيجابية، تنسجم مع تصوراته، وتتماشى مع مقاصده، يمكن التعايش معها والبناء عليها، كما يتجلى من خلال الحديث: «إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»(7)، وأخرى سلبية لا بد من إصلاحها أو تغييرها.

وبما أن الإنسان في التصور الإسلامي هو خليفة في أرض الله، والعقل هو مناط التكليف بذلك؛ فإن الإنسان العالم هو المكلف شرعًا بتنزيل تصور الوحي للحياة البشرية في الواقع، وتصريفه فيه، والانتقال به من حيز القوة إلى حيز الفعل، ولن يتأتى ذلك إلا بتوفر ثلاثة شروط:

أولًا: فقه العقل للوحي فقهًا عميقًا أفقيًا وعموديًا.

ثانيًا: تمثُّل العقل للواقع تمثلًا صحيحًا شاملًا ومستوعبًا.

ثالثًا: نجاح العقل في حسن تنزيل الوحي على الواقع، وحسن تصريفه فيه.

وبذلك يتبين أن الواقع هو مجال خصب وواسع للتفاعل بين الوحي والعقل.

2- اعتبار فهم الواقع مقدمة لإنتاج فقه الواقع والعمل والإنجاز فيه.

ما أحوج الداعية لمعرفة واقعه وفهمه ومعايشته؛ فالداعية لا ينجح في دعوتهما لم يعرف مَن يدعوهم، ويعرف كيف يدعوهم، وماذا يقدم معهم وماذا يؤخر.

فقه الواقع مركب اصطلاحي، يعبر عن مستوى من إدراك الواقع يتميز بقدرٍ كبيرٍ من الدقة والإحاطة والوضوح، بعيدًا عن العموميات والانطباعات والآراء المسبقة، ولإنتاج فقه راشد وناضج للواقع؛ لابد من المرور من مرحلتين:

الأولى: مرحلة الفهم:

وتتجلى في رصد ظواهر الواقع المختلفة، وتجميع معطياته، واستقراء جزئيات أحداثه، وتفاصيله اليومية في الزمان والمكان، وفي مختلف الميادين؛ في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق، والثقافة، والإعلام، وغيرها.

الثانية: مرحلة الفقه:

وتُعنى بفرز المعطيات، وتصنيف الظواهر والوقائع، حسب معايير ومقاييس دقيقة ومحددة، كما تُعنى بالبحث عن الخيط الناظم للأحداث، والأسباب الكامنة وراءها، والسنن والقوانين الحاكمة لنشأتها، وتطورها، واختفائها، وصولًا في نهاية المطاف إلى صياغة الجزئيات في الكليات، والخروج بقواعد نظرية، وقوالب تصورية تمثل التصور النظري العام للواقع.

ولبلوغ مستوى الفقه لا بد من إتقان الفهم؛ وعلى قدر درجة الفهم من الإحاطة والدقة والوضوح تكون درجة الفقه.

على أن فقه الواقع في العمل الدعوي المعاصر ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود منه هو الفعل والإنجاز في الواقع، وفقًا للقاعدة المقاصدية الشرعية التي عبّر عنها الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات) بقوله: «كل علم لا ينبني عليه عمل فهو باطل شرعًا».

إذا كان الأمر كذلك فإن فقه الواقع في مجال الدعوة إلى الله يجب أن يكون مدخلًا نحو إنجاز فعل دعوي راشد متنوع، وكاف لرفع الدعوة والدعاة إلى مستوى الخيرية والإمامة في كل مجال، على أن مستوى الفعل والإنجاز الدعوي في الواقع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى الفقه، الذي يرتبط بدوره بمستوى الفهم، اتساعًا وضيقًا، دقة وضعفًا، وضوحًا وغموضًا.

3- اعتبار التجربة التاريخية مدخلًا أساسيًا لفقه الواقع، والوقوف على عناصر التأثير فيها:

يتميز الواقع بحيثياته وأحداثه وظواهره بأنه ليس وليد لحظته التاريخية الآنية، وإنما هو عبارة عن تراكم تاريخي ممتد ومستمر للوقائع والأحداث، خلال فترة زمنية تمتد بين الماضي والحاضر؛ ولذلك فإن فهم حقيقة الواقع، والوقوف على بنياته، من الوقائع والأحداث، بشكل علمي صحيح يستلزم الرجوع إلى الماضي؛ للبحث في امتدادات الواقع فيه، ودراسة نشأة الوقائع وتطورها، والعوامل الكامنة وراءها، ومعنى ذلك أنه لا بد لفهم واقع مجتمع ما من استحضار (تجربته التاريخية) في الزمان والمكان، ولا بد لفهم حدث أو ظاهرة ما من الوقوف على (السياق التاريخي) لذلك الحدث، أو لتلك الظاهرة، وبكلمة: إن الدعاة إلى الله، وأنصار المشروع الإسلامي في كل مجال مطالبون، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بتحصيل قدر من (الوعي التاريخي) يُمَكِّنُهم من فقه صحيح للواقع، وإنجاز راشد فيه(8).

4- التأني وعدم التعجل حتى تنضج الثمرة:

العجلة وعدم التثبت والتأني والتبصر أو التباطؤ والتقاعس، كل ذلك يؤدي إلى كثير من الأضرار والمفاسد، والداعية أولى الناس بالابتعاد عن ذلك كله، فمقتضى الحكمة أن يعطي كل شيء حقه، ولا يعجله عن وقته، ولا يؤخره عنه، فالأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر.

يقول الأستاذ محمد قطب: لقد بين الله لنا طريق التمكين: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ...} [الأنفال:62-65]، فتلك شروط أربعة في أربع آيات متواليات من سورة واحدة، تبين الشروط الأساسية للنصر: وجود مؤمنين صادقي الإيمان، متآلفة قلوبهم، متجردين لله، مستعدين للقتال حين تقتضي ذلك ظروف الجهاد.

فإذا نظرنا إلى واقع الدعوة في ضوء هذه الشروط فسنجد، ولا شك، أننا قطعنا شوطًا، ولكننا استعجلنا الطريق! هناك ثلاثة أسباب رئيسة أدت إلى التعجل في الحركة المعاصرة:

أولًا: عدم التقدير الدقيق لمدى بعد الأمة عن حقيقة الإسلام.

ثانيًا: الانخداع بحماسة الجماهير، والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهي قريبة المنال.

ثالثًا: عدم التقدير الكافي لرد فعل الأعداء(9).

5- فقه مآلات الأفعال:

فقه المآلات من أنواع الفقه الدقيقة؛ لأنه ينبني على قراءة عميقة للواقع، والبحث في القرائن، والأمارات، والعلامات الدالة على كون الفعل يئول إلى مصلحة راجحة أو مفسدة راجحة، ذلك أن النظر في المصلحة يجب أن يمتد إلى ما تئول إليه من نتائج مصلحية أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ للمصلحة على وقتها دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان دون اعتبار الأماكن الأخرى، أو على شخص دون اعتبار بقية الناس، وخصوصًا في الفتاوى والأنظمة العامة، مما قد يكون وسيلة أو ذريعة إلى مفسدة، أو الوقوع في محظور، مع اعتبار الأولى من المصالح، فالأولى تقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعًا والأطول بقاءً على غيرها من المصالح، وأنت ترى أن هذا الفقه مندرج في فقه المصالح والمفاسد، وعلى الرغم من مقاصد الخير التي تغلب على العاملين في الساحة الدعوية، إلا أن كثيرًا من أفعالهم كانت مغايرة للمقصود والمبتغى، فكانت النتائج خلاف المقاصد، وحسن القصد لا يغني عن سلامة المنهج، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الفقه في تعريفه للمصلحة حيث قال: «أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة»(10).

وقد فصل الشاطبي هذه الأحوال في النظر إلى المآلات، وزادها بيانًا باستقراء الأدلة الشرعية، فقال رحمه الله بعد أن نص على القاعدة المتقدمة في المآلات: «وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل؛ مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف مما قصد منه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك»(11).

عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تسر إليك كثيرًا، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم»، قال ابن الزبير: بكفر، «لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس وباب يخرجون»(12)، قال الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث: «ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه إنكار ترك المنكر خشية الوقوع في أنكر منه»(13).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وهريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»(14).

6- الحكمة والبصيرة في الدعوة إلى الله:

إن الحكمة تجعل الداعي إلى الله يُقدَر الأمور ويُعطيها ما تستحقه، فلا يزهد في الدنيا والناس في حاجة إلى النشاط والجد والعمل، ولا يدعو إلى الانقطاع والانعزال عن الناس، والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم وأعراضهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيُعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المُنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم(15).

البصيرة في الدعوة إلى الله هي أعلى درجات الحكمة والعلم، وحقيقتها الدعوة إلى الله على علم ويقين وبرهان عقلي وشرعي، وترتكز البصيرة في الدعوة إلى الله على ثلاثة أمور:

الأول: أن يكون الداعية على بصيرة، وذلك بأن يكون عالمًا بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه.

الثاني: أن يكون على بصيرة في حال المدعو حتى يُقدَم له ما يُناسبه.

الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة.

العلم النافع المقرون بالعمل الصالح، والحلم والأناة من أعظم الأسُس التي تقوم عليها الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، ولا يكون المرء حكيمًا حتى يجمع هذه الأسس الثلاثة(16).

7- التخطيط للدعوة وترك العفوية:

قد يختار الداعية أساليب للدعوة لا تؤدي إلى نجاح برنامجه؛ إما لعدم مناسبتها لأهداف البرنامج، أو لطبيعة البرنامج وأهدافه، أو لعدم مناسبتها لإمكانات من يتولى تنفيذ البرنامج وقدراته الدعوية، أو أنها غير ملائمة لبيئة الدعوة أو نوع المدعوين وطبيعتهم، وقد (يجتهد) الداعية أحيانًا في اختيار وسيلة غير منضبطة بضوابطها الشرعية.

لذا كان من أهم السمات المطلوبة في الداعية إلى الله وجود الفهم الشامل بأهداف دعوته ومقاصدها، وإدراكه للوسائل الشرعية التي ينبغي أن يسلكها لتحقيق هذه الأهداف، والتنبؤ بما قد يعترضه من عوائق ومشكلات، وهذا الوعي والإدراك لمثل هذه الأمور هو ما نسميه بلغة الإدارة: (التخطيط).

إننا في أمس الحاجة إلى التخطيط في برامجنا الدعوية؛ لأن ضعف جانب التخطيط أحيانًا وانعدامه في أحيان أخرى أسهم في إضاعة الكثير من جهود الدعاة، وأضعف ثمار أعمالهم الدعوية، وأضحى الكثير من البرامج تنفذ لمجرد التنفيذ فقط، أو لتكون أرقامًا تضاف إلى أعداد البرامج المنفذة.

إن التخطيط يحدد أهداف الدعاة وغايات البرامج والمشروعات الدعوية، كما يفيد في حسن الأداء أثناء التنفيذ والتقويم الدقيق بعد ذلك، ويساعد التخطيط في اختيار طرق الدعوة المناسبة والملائمة لكل داعية، بحسب قدراته وإمكاناته، والمتوافقة مع طبيعة البرنامج والأهداف المرسومة له، وفي تحديد الرأي الأقرب للتقوى لكل برنامج(17).

8- تقويم العمل الدعوي:

تقويم النشاط الدعوي أمر غاية في الأهمية، فمن خلاله يمكن الحكم على استراتيجيات الدعوة وأنشطتها ووسائلها، وما إذا كانت تسير في الاتجاه الصحيح أم تحتاج إلى إعادة نظر وتغيير للمسار، وبالرغم من ذلك فإن الواقع الدعوي يؤكد إهمال جانب المتابعة والتقويم!!.

والدعوة كما أنها تحتاج إلى تخطيط وتنظيم، تحتاج إلى متابعة دائمة وتقويم مستمر، وهذا الأمر تعترضه صعوبات عملية ومنهجية كثيرة، وقد تكون هي التي أدت إلى إهمال عملية التقويم، ومن أهم هذه المعوقات اتساع ميادين الدعوة، وكثرة وسائلها وبرامجها وأنشطتها.

إن عملية التقويم هي حكم كيفي على أنشطة الدعوة الإسلامية، وهي إحدى المقومات الأساسية لنجاح الدعوة الإسلامية.

إن إهمال التقويم على المستوى المؤسسي، وإهمال الإنفاق عليه، والتأخر في إنشاء المراكز المتخصصة له، أو التحجج بأن التقويم قد يفضح سلبيات الدعوة الإسلامية، أدى إلى تفاقم المشكلات، وتأخر الدعوة، وعجزها عن سد الفراغ الديني والثقافي داخل المجتمعات الإسلامية، وعن ملاحقة التيارات والدعاوى الفاسدة، والتحديات والتهديدات التي أصبحت جلية، والتي لا تهدد الدعوة الإسلامية فقط، وإنما المجتمعات الإسلامية برمتها، في وجودها واستقلالها وحياتها وأمنها.

والتقويم ينقسم إلي قسمين أساسين:

الأول: هو تقويم أداء الدعاة؛ ويقصد به قياس مدى تحقيق الدعاة للأهداف المحددة لهم.

الثاني: هو تقويم البرامج؛ ويقصد به قياس النتائج التي تحققت من تنفيذ برنامج ما أو نشاط معين، سواء كان الإنجاز مرحليًا أم نهائيًا.

ويمكن تحقيق ذلك من خلال تشكيل لجان تقويم مشتركة، تُمثَّل فيها المؤسسات الدينية والدعوية، وكذلك كبار العلماء والدعاة، ورجال الإعلام، وتقوم هذه اللجان بتقييم أداء الدعاة.

وتقويم الدعاة يكون من خلال عدة أمور، منها: الاستعداد الشخصي للقيام بالمهام المطلوبة منه، واستعداده للتضحية والإيثار والعطاء المستمر، وتمتعه بالصبر وسعة الصدر والرفق واللين في التعامل مع الناس، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، ومعرفته بعلوم القرآن الكريم والتفاسير، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعلوم الفقه، وكونه قدوة لغيره وعاملًا بما يدعو إليه.

كما يجب أن يتم رصد طريقة مناقشته للقضايا المعاصرة، وكيفية تناوله لها، وهل هو على دراية بالمشكلات والتحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية أم غافل عنها، وما مدى سلامة لغة الخطاب لديه، وقدرته على إيصال المعلومة للمتلقي، وشكل علاقته به، كما يجب القيام بتحليل المحتوى الدعوي الذي يقوم بتقديمه للجمهور للوقوف على مدى تكامل جوانبه المختلفة.

ويمكننا الاستعانة بمراكز البحث، وقياس الرأي في عملية تقويم الدعوة الإسلامية، فيتم وضع خطة متكاملة لعمل أبحاث ميدانية، فالبرامج الدعوية يتم تحديد فترة زمنية لإنجازها، يمكننا بعدها أن نبدأ في عمل الأبحاث الميدانية؛ للوقوف على مدى النجاح في تحقيق الأهداف التي صُممت هذه البرامج من أجلها، ومعرفة الإيجابيات التي حققتها، والسلبيات كذلك، والوقوف على نقاط الضعف والقوة فيها، كما يتم رصد المعوقات التي صادفته، للعمل على تلافيها في البرامج المستقبلية، كما يمكننا من خلال تلك الأبحاث تحديد مدى كفاءة الدعاة وقدراتهم في إنجاح مسيرة الدعوة الإسلامية(18).

أخيرًا:

إن نجاح الداعية الحقيقي يوم أن ينال رضاء الله وتوفيقه في الدنيا والآخرة، والإخلاص أول الدرجات للوصول إلى ذلك، كما عليه أن يتعامل مع الأحداث بإيجابية ويبث الهمة بين الناس، ويكون لسان حاله سابقًا للسان مقاله، وأن يتجرد فيما يقوم به، ويتعاون مع الآخرين فيألفهم ويألفونه، كما على الداعية ألا يتوان عن خدمة الناس في كل أحواله، وألا ينظر للناس على أنه من أهل الجنة وأنهم من أهل النار، أو أنه أفهمهم أو أتقاهم أو أحرصهم، كما عليه أن ينزل الناس منازلهم من غير نفاق، ويتصف بالحلم والصبر وسعة الأفق وسعة الصدر، والصفح عن الناس وتجاوز العثرات، وأن يركز في تعامله معهم على الصفات الإيجابية فيمن يتعامل معهم، وأن يتدرج بهم ويحسن إليهم، وينصت ويستمع بشكل يتيح لهم التعبير له، وعرض مسائلهم ومشاكلهم واحتياجاتهم، وباختصار أقول عليه أن يتبنى قضايا الإسلام والمسلمين، وكأنه أكثر من سيسأل عنها ويحاسب عليها.

_______________

(1) تفسير القاسمي، محمد جمال الدين القاسمي (8/338).

(2) مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د. عبد الكريم بكار، ص7.

(3) كيف ندعو الناس؟، محمد قطب، ص5.

(4) أخرجه أبو داود، كتاب: الملاحم، باب: في تداعي الأمم على أهل الإسلام، عن ثوبان.

(5) فقه الواقع في العمل الإسلامي ضرورة حضارية، عبد الكبير حميدي، موقع المختار الإسلامي.

(6) المصدر السابق.

(7) سلسلة الأحاديث الصحيحة (46).

(8) فقه الواقع في العمل الإسلامي ضرورة حضارية.

(9) كيف ندعو الناس؟، ص49.

(10) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (11/342).

(11) الموافقات، ص773.

(12) رواه البخاري، كتاب: العلم، باب: من ترك بعض الاختيار.

(13) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر (1/225).

(14) نحو رؤية أصولية للواقع الدعوي المعاصر، د. فارس العزاوي، والحديث رواه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد.

(15) الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، المؤلف: د. سعيد بن على بن وهف القحطاني (1/ 11).

(16) المصدر السابق (2/567).

(17) التخطيط في خدمة الدعوة إلى الله، خالد الصقير، موقع: صيد الفوائد.

(18) التقويم الدعوي.. أهداف ووسائل، أميرة إبراهيم، موقع: إسلام اون لاين.