ماذا بعد رمضان
ليس للطاعة زمن محدود تنتهي بانتهائه، ولا للعبادة أجل معين؛ بل العبادة هي حق الله على العباد، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات:56-58].
والعبادة هي حق لله، يقوم بها العباد في جميع الأوقات، ويشغلون بها فرص الحياة، ويقطعون بها سويعات العمر، فالعبد الذي يقطع مرحلة الحياة في طاعة الله، وفي مرضاة الله هو من أوليائه المتقين، الذين وعدهم الله بعظيم الأجر وسابغ الفضل؛ حيث يقول وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)} [المرسلات:41-44]، هكذا يجزيهم المولى جل وعلا، هكذا يجزيهم رب العالمين وأحكم الحاكمين وأعدل العادلين؛ لأنهم عاملوه معاملة العارفين، الذين عرفوه حق المعرفة، فقدروه حق قدره، وقاموا بحقه حق القيام، فجازاهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جازاهم في دار الكرامة، في دار النعيم، في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، فهنيئًا لهم تلك الكرامة في جوار إله الأولين والآخرين.
قال ابن رجب في وداع رمضان: «يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق.
عسى وعسى من قبل يوم التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي
فيجـــــــبر مكـــــسور ويقـــــــبل تائـب ويعتق خطاء ويسعد من شقي(1)
مضى رمضان وانقضى بلياليه الزاهرة، وأيامه العامرة، وأجوائه العاطرة، فأشفى من شدة اللوح والظما، وأزال ما شفى من حرقة الصدى، واستيقظت القلوب بعد غفوة، ونامت بعد قسوة، ورجعت بعد سهوة، أما القبول فعلاماته لامحة، وأماراته لائحة، وآياته واضحة؛ حسنة تتبعها حسنة، وطاعة تؤكدها طاعة، وإحسان يتلوه إحسان، وذاك دأب العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته، الراجين لثوابه وجنته، الذين قويت محبتهم لله عز وجل ومحبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فأخبتت نفوسهم لله وسكنت، ورضيت به واطمأنت {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].
وأما من انحلت أطنابه، ووهت أركانه، وانعكس سيره بعد رمضان، فأبطل ما قدم، ونقض ما أحكم، وبدل الحسنات بالسيئات، وحار بعد ما كان، وأرخى لنفسه العنان، وعاد إلى الفسوق والعصيان، فذلك الخاسر المغبون، والغاوي المفتون، الذي أذهب بهاء طاعته، وأحبط أجر عبادته.
قال الله جل في علاه: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيمَ ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ}؟»، فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «ضُرِبت مثلًا لعمل»، قال عمر: «أي عمل؟»، قال ابن عباس: «لعمل»، قال عمر: «لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله»(2).
إن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن مِلاك الأعمال خواتيمها، يقول جل في علاه: {وَلا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92].
امرأة حمقاء خرقاء ملتاثة العقل، تجهد صباحَ مساءَ في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًا ومحكمًا قويًا عادت عليه تحل شعيراته وتنقض محكماته، وتجعله بعد القوة منكوثًا، وبعد الصلاح محلولًا، ولم تجنِ من صنيعها إلا الإرهاقَ والمشاقَّ، فإياكم أن تكونوا مثلها، فتهدموا ما بنيتم وتبددوا ما جمعتم.
إن من علامات قبول الطاعة الطاعةَ بعدها، والحسنة تنادي أختها، وقد قال أهل العلم رحمهم الله تعالى: «إن من علامة قبول طاعة الصيام والقيام في شهر رمضان أن تكون حال العبد بعد رمضان حال سكينةٍ ووقار وشكرٍ لله تبارك وتعالى، وإحسانٍ في الإقبال على الله عز وجل، فإذا كان العبد كذلك فإن ذلك من أمارات القبول وعلامات الخيرية».
سُئِل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضانُ تركوا، قال: «بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان»(3).
وكما قال بعض السلف: «كن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا»؛ أي: لا تكن طاعتك لله وعبادتك له سبحانه وتعالى محدودة بهذا الشهر؛ بل حياتك كلها موسم لطاعة الله جل وعلا، قد قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]؛ أي: حتى يأتيك الموت، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
إياك وهبوط العزيمة:
من الأشياء التي تسر النظر وتفرح القلب وتشرح الصدر في رمضان منظر المسجد وهو مملوء بالمصلين في الخمس صلوات، فعينك تقع إما على راكع أو ساجد، أو مبتهل بالدعاء، وإما قارئ للقرآن.
تجد الكل مملوءًا بالطاقة والحيوية والعزيمة والنشاط، ومع أول أيام العيد يحدث الفتور والكسل والخمول؛ فمنا من يؤخر الصلاة، ومنا من يقوم بوضع المصحف في المكتبة لرمضان القادم، ويترك الدعاء حتى قيام الليل.
نحن لا نطلب أن نكون بعد رمضان كما كنا في رمضان، فهذا شيء صعب؛ فأيام رمضان لها ميزة خاصة وقدرة خاصة وطاقة خاصة، ولكن نأخذ من هذه الطاقة والقدرة ما يعيننا على الثبات بعد رمضان، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وهنا تتضح الحكمة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر»(4)، والحكمة أن تثبت على الطاعة، وتأكيد على الاستمرار في فعل الخيرات، وبأن رب رمضان هو رب كل الشهور.
رمضان نقطة بداية وليس نقطة نهاية:
شهر رمضان فرصة للتغيير، فرصه لكسب المزيد من المهارات، ففي رمضان نتعلم كيف ننظم الوقت؛ نأكل في موعد محدد، ونمسك عن الطعام في وقت محدد، وتتعلم منه أيضًا فن الاتزان؛ فنحن في رمضان نوازن بين غذاء الروح وغذاء البدن، ففي بقية شهور السنة نركز على غذاء البدن ونهمل غذاء الروح؛ فيحدث الكسل والفتور وعدم المقدرة على العبادة، أما في رمضان فيزيد تركيزنا على غذاء الروح؛ مثل الذكر وقيام الليل والقرآن، فتنشط الروح، وإذا نشطت الروح أصبح الجسد قادرًا على الطاعة والزيادة فيها، ونتعلم من رمضان أيضًا الصبر والمسامحة والإيثار، فلماذا بعد رمضان نترك كل هذا بعد أن تعودنا عليه(5).
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين:
هكذا يجب أن يكون العبد مستمرًا على طاعة الله, ثابتًا على شرعه, مستقيمًا على دينه, لا يراوغ روغان الثعالب, يعبد الله في شهر دون شهر, أو في مكان دون آخر, لا وألف لا!! بل يعلم أن رب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَك} [هود:112], وقال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] .
والآن بعد انتهاء صيام رمضان، فهناك صيام النوافل؛ كَسِتٍّ من شوال, والاثنين الخميس, وعاشوراء, وعرفه , وغيرها.
وبعد انتهاء قيام رمضان فقيام الليل مشروع في كل ليلة، وهو سنة مؤكدة، حث النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها بقوله: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، مطردة للداء عن الجسد»(6) .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل»(7)، وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، ولم يتركه سفرًا ولا حضرًا، وقام صلى الله عليه وسلم، وهو سيد ولد آدم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، حتى تفطّرت قدماه، فقيل له في ذلك فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»(8) .
قال رجل لإبراهيم بن أدهم: «إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟» فقال: «لا تعصه بالنهار وهو يُقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف»(9) .
وقال رجل للحسن البصري: «يا أبا سعيد، إني أبِيت معافى، وأحب قيام الليل، وأُعِدّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟»، فقال الحسن: «ذنوبك قيدتْك»(10).
وقال رحمه الله: «إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وصيام النهار»(11).
وقال الفضيل بن عياض: «إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فأعلم أنك محروم مكبَّل، كبلتك خطيئتك»(12).
وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله تعالى، وتجعله قادرًا على التغلب على مغريات الحياة الفانية، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات، ونامت العيون، وتقلب النّوام على الفرش؛ ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة، وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وهكذا، فالأعمال الصالحة في كل وقت وكل زمان، فاجتهدوا، أيها الأحبة في الله، في الطاعات، وإياكم والكسل والفتور.
فالله الله في الاستقامة والثبات على الدين في كل حين، فلا تدروا متى يلقاكم ملك الموت، فاحذروا أن يأتيكم وأنتم على معصية.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة وقال :«قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وكما قال ابراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وكما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، وكما قال ذو النون: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]»(13) .
أكثِروا من شكر الله تعالى أن وفقكم لصيامه وقيامه، فإن الله عز وجل قال في آخر آية الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [البقرة:185].
والشكر ليس باللسان فحسب، وإنما كذلك بالقلب والأقوال والأعمال، وعدم الإدبار بعد الإقبال .
إن الفائزين في رمضان كانوا في نهارهم صائمين, وفي ليلهم ساجدين, بكاء وخشوع, وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل, وذكر واستغفار, ما تركوا بابًا من أبواب الخير إلا ولجوه, ولكنهم، مع ذلك, قلوبهم وجلة وخائفة، لا يدرون هل قُبلت أعمالهم أم لم تقُبل؟ وهل كانت خالصة لوجه الله أم لا؟
فلقد كان السلف الصالحون يحملون هم قبول العمل أكثر من العمل نفسه, قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] .
هذه هي صفة من أوصاف المؤمنين؛ أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر، وهم يخافون ألَّا تقبل منهم أعمالهم.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا من العمل, ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين} [المائدة:27]».
فمن منا أشغله هذا الهاجس، قبول العمل أو رده, في هذه الأيام؟ ومن منا لهج لسانه بالدعاء أن يتقبل الله منه رمضان؟
فلقد كان السلف الصالح يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان, ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم.
داوموا على ما اعتدتم من الخير في رمضان ولا تنقطعوا عنه، وخذوا من العمل ما تطيقون ملازمته والثبات عليه، ولو كان قليلًا، فالقليل الدائم ينمو ويزكو، وبدوام القليل يدوم التعبد لله والذل له، والأُنس به والقرب منه والإقبال عليه، والكثير الشاق ينقطع ولا يدوم؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تُطيقون؛ فإن الله لا يَمَل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه وإن قل»، وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملًا أثبتوه(14).
وعن علقمة قال: «سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: لا؛ كان عمله ديمة، وأيُّكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟»(15).
وقال القاسم بن محمد: «وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته»(16).
وكره أهل العلم الانقطاع عن العمل الصالح، استنباطًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله، لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فترك قيام الليل»(17).
النفس مطية، يحول بينها وبين السير إلى الله تعالى خطفات الفتن وعقبات الشهوة وقحم الطريق، بَيدَ أن صبر ساعة وشجاعةَ نفس وثبات قلب تفضي بالعبد إلى قطع الطريق، واقتحام عقبته، وبلوغ قلته، والخروج من الموطئ الغث والأرض الوخيمة، والوصول إلى المنازل والمناهل، والمراتع والمرابع والأماني والضمان؛ فزموا المطية واخطموها وقودوها، وازجروها وتعاهدوها وأصلحوها، وتزودوا للنقلة وخذوا الأهبة للرحلة، وسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.
يقول الله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7]؛ أي إذا فرغت من عبادة وطاعة فابدأ في غيرها، وهكذا حتى تكون حياة المسلم كلها مشمولة بالطاعة وتحقيق العبودية الخالصة لله تعالى؛ فهو بين صلاة وصوم وزكاة وحج وذكر طوال اليوم والعام.
وتبرز تجليات هذا الدائرة التعبدية، بصورة كبيرة، في شهر رمضان بما فيه من عبادات وطاعات متنوعة ومتتابعة، حتى إذا انتهى شهر رمضان انتقل المسلمون لاستقبال ركن آخر من أركان الإسلام، وهو الحج، الذي هو أشهُرٌ معدودات، تبدأ بشهر شوال وتنتهي بذي الحجة.
ومن أهم طاعات شهر رمضان الدعوة إلى الله عز وجل؛ فالدعوة إلى الله تعالى والأخذ بيد الآخرين إلى الخير، بصورة عامة، يتعدى فيها الأجر والمنفعة حدود الشخص إلى مَن حوله من الناس؛ وهو ما يكون سببًا في تحقق الأجر مضاعفًا للداعية؛ مرة بقيامه بالطاعة بنفسه، ومرة أخرى بدلالته الناس على هذا الخير، هذا في الأيام العادية، أما في شهر رمضان فيكون الأجر مضاعفًا أكثر وأكثر.
الفتور الدعوي بعد رمضان:
ولكن مع ما يحدث في رمضان، من زخم وحضور دعوي كبير، سرعان ما يخفت ويختفي بصورة كبيرة فور الإعلان عن عيد الفطر؛ فالملاحظ أن الدعاة بمجرد انتهاء شهر رمضان يتقلص دورهم كثيرًا، وربما يختفي بعضهم فلا يجده الناس بينهم كما في رمضان؛ وهو ما يترك أثره السلبي على الناس؛ فيحدث لبعضهم انقلاب للقلوب وانفلات للشهوات، وكأنهم كانوا في سجن وخرجوا منه، مع أنه ينبغي أن يكون الأمر عكس ذلك؛ فالحسنة تجر أختها، ومن ذاق حلاوة الطاعة ولذتها في رمضان فعليه أن يحافظ عليها أو يزيد منها؛ وهو ما يجعل العبء على الدعاة بعد رمضان مضاعفًا في استمرار الناس على طاعتهم.
الدعوة منهاج حياة:
إذا كان عمل الخير مضاعفًا وقويًا في شهر رمضان، كما ذكرنا فيما سبق؛ فيجب إدراك أن الدعوة إلى الله تعالى ينبغي أن تتحول إلى منهج حياة، تصاحب الداعية في كل صولاته وجولاته، وفي كل حركاته وسكناته؛ فكما أنه لا يجوز له أن يتخلى عن أي فريضة؛ فكذلك لا يجوز له أن ينفك عن الدعوة في أي وقت وفي أي مكان.
وربما يكون هناك بعض العوامل التي تساعد على تنامي النشاط الدعوي خلال شهر رمضان؛ مثل:
- استعداد الناس وتهيؤهم لهذه الفرصة العظيمة، وأقصد بالاستعداد هنا الاستعداد النفسي والإيماني؛ فالنفوس في رمضان تكون أكثر تقبلًا للنصيحة، وأكثر إقبالًا على الطاعة من غيره من الأيام، ثم نجد الناس يقلصون ساعات عملهم، وربما يؤجلون أشياء كثيرة، ويفرغون رمضان للطاعة فقط؛ وهو ما لا يمكن القيام به في غير رمضان.
- تصفيد الشياطين في رمضان، وعدم نشاطها كما في الأيام العادية، له دوره أيضًا في هذه الظاهرة.
- الطاعة الجماعية والتنافس بين الناس في الخير يحمس بعض المقصرين في الأيام العادية، ويأخذ بأيديهم للطاعة.
- الاستعداد الدعوي المنظم من قبل بعض الجماعات والمنظمات، وإدارة المساجد بالقراء ذوي الصوت الحسن، والخطباء المميزين، وغير ذلك من المحفزات على الطاعة والتكاثر على المساجد.
- لا نريد أن نقصر الطاعة على الذهاب للمسجد فقط؛ فمفهوم الطاعة والعبادة أشمل بكثير من الذهاب للمسجد والتزاحم على الصلاة، مع اقتناعنا بأهمية ذلك.
نصائح عامة:
1- حرص الدعاة على الاستمرار والتواجد بين الناس بعد رمضان كما كانوا في رمضان.
2- الارتباط (بالرمضانيين)؛ أي الذين يأتون للمسجد خلال شهر رمضان فقط، والاهتمام بهم بصورة فردية ومباشرة، والأخذ بأيديهم للطاعة بعد رمضان.
3- التأكيد على أهمية الثبات على الطاعة والاستمرار عليها.
4- ربط الناس بروح الطاعة والعبادة، وليس بوقتها؛ فرَبُّ رمضان هو رب غيره من الشهور.
5- عمل برامج ولقاءات مسجدية منظمة، بنفس الروح والاهتمام الذي يوجد خلال شهر رمضان.
6- تنمية روح شمولية العبادة لدى الناس، وأن يكون لهم نية صالحة في كل عمل يقومون به، حتى ولو كان عملًا دنيويًا؛ حتى يكون لهم فيه أجر، فالإنسان وجد لاستخلاف الأرض وعمارتها، وليس للعبادة فقط.
7- توعية الناس من مصائد الشيطان ومكائده، خاصة بعد أيام الطاعة والعبادة، ومحاولته إفسادها على الناس.
8- تنظيم قوافل دعوية منظمة لبعض الأماكن التي يقل فيها عدد الدعاة لتوعية الناس، ودعوتهم للاستمرار على طاعة.
9- عمل بعض البرامج وأوراد المحاسبة، وتوزيعها على الناس في المسجد والعمل، يراعى فيها المحافظة على بعض النوافل بعد رمضان؛ مثل: الاستمرار على تلاوة القرآن، وصلاة القيام، وصيام التطوع، والصدقة، مع مراعاة أن ذلك يكون بنسبة أقل مما كان يحدث في رمضان.
10- الاستفادة من الأفراد المحافظين على الصلاة، وتفعيلهم في دعوة المقصرين، والأخذ بأيديهم للطاعة(18).
11- استشعار المسئولية العظمى المناطة بكل مسلم تجاه دينه وأمته، وخصوصًا الشباب الصالح، الذي تربى على الخير واغترف من معين الحق؛ فهو أجدر مَن يتصدى للنهوض بأمته، ورفع الجهل عنها، ورأب صدعها، ومعالجة عللها وأدوائها، ويزيد من عظم الأمر أن واقع الأمة الإسلامية اليوم بحاجة ملحة إلى دعاة كثيرين؛ بل إلى استنفار عامٍّ من قِبَل كل طالب علم وصاحبِ غَيرةٍ ليؤدي دوره، وبخاصة أن الدعاة الموجودين اليوم لو اجتمعوا في بلد واحد لما سدوا الحاجة القائمة، فكيف مع قلتهم وتوزعهم؟
ثم على فرض وجود من يكفي ألا يسر المرء أن يكون من جملة قافلة الدعاة وركاب سفينة النجاة؟
12- معرفة حقارة الدنيا، وأنها لا تستحق انصراف القلب إليها وانهماك البدن في الاشتغال بها، وأن قيمتها الحقيقية تكمن في كونها ميدانًا للأعمال الصالحة والجهود المباركة التي تنفع المرء في آخرته، ومن ذلك العمل الدعوي ونفع الخلق بجميع صور النفع.
13- مجانبة المتقاعسين، والبعد عن مخالطة القاعدين؛ فالمرء على دين خليله؛ فإذا بُليت بمثل أولئك فكن معهم ببدنك لا بقلبك، ولا تكترث بتثبيطهم، واحمد الله الذي عافاك مما ابتلاهم به، من غير أن يصيبك الإعجاب بالنفس؛ فالله هو المانُّ عليك بذلك(19).
***
______________
(1) لطائف المعارف، ص217.
(2) أخرجه البخاري (4538).
(3) مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (2/ 283).
(4) أخرجه مسلم (1164).
(5) الثبات بعد رمضان، موقع: صيد الفوائد.
(6) أخرجه الترمذي (3549).
(7) أخرجه ابن خزيمة (1134).
(8) أخرجه البخاري (1130).
(9) فصل الخطاب (7/ 99).
(10) المصدر السابق (8/ 287).
(11) المصدر السابق (8/ 651).
(12) المصدر السابق (9/ 399).
(13) لطائف المعارف، ص56.
(14) أخرجه مسلم (782).
(15) أخرجه مسلم (783).
(16) أخرجه مسلم (783).
(17) أخرجه البخاري (1152).
(18) حصاد الدعوة بعد رمضان، موقع: مهارات الدعوة.
(19) الفتور الدعوي عند الشباب، الأسباب والحلول، موقع: صيد الفوائد.