الناس على دين ملوكهم
روى أصحاب التواريخ في كتبهم قالوا: كان الناس إذا أصبحوا في زمان الحجاج وتلاقوا يتساءلون: من قتل البارحة؟ ومن صلب؟ ومن جلد؟ ومن قطع؟ وأمثال ذلك.
وكان الوليد بن عبد الملك صاحب ضياع واتخاذ مصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع والضياع، وشق الأنهار وغرس الأشجار.
ولما ولي سليمان بن عبد الملك، وكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يتحدثون في الأطعمة الرفيعة، ويتوسعون في الأنكحة والسراري، ويغمرون مجالسَهم بذكر ذلك.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز كان الناس يتساءلون، كم تحفظ من القرآن؟ وكم وردك في كل ليلة؟ وكم يحفظ فلان؟ ومتى يختم؟ وكم يصوم من الشهر؟ وأمثال ذلك (1).
يهرب الكثير من العلماء والدعاة والوعاظ من واجهة الباطل فيعودون باللوم إلى النفس وإلى الشعوب؛ لا للتغيير بل للهروب؛ بينما تأثير الحكام بالغ التأثير على الناس والأجيال.
في زمن المستبد تُرغِّب السلطة الناس بما تعتقد وتؤمن: إذا غنى غنوا، وإذا جزع وبكى جزعوا وبكوا.
تتردد عبارة كيفما تكونوا يولى عليكم بين الشعوب، خاصةً عند بعض الشعوب المنهزمة نفسيًا التي تجلد ذاتها نظرًا لفساد حكامها؛ بل وكثيرًا ما يرددها علماء ودعاة كنصيحة للأمة للانشغال بإصلاح أنفسهم؛ وكأن الحل الفعال والمؤثر لصلاح حكامهم هو صلاح شعوبهم.
إن معركة الإصلاح في جوهرها معركة حكم وسلطة.. إلى الحكم والسلطة ترنو كل حركات الإصلاح والإفساد، فمن وصل إليها وغلب عليها ألزمَ الناسَ أفكارَه وأخلاقَه وطباعه.
ولذلك وجد كل نبيٍّ ملأ في وجهه، هم مَنْ تولَّوْا حربه ومواجهته والتضييق عليه، فإذا غلبهم اتبعه الناس، وإذا غلبوه هلكوا ومعهم الناس.
عن قيس بن أبي حازم، قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت، فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش، قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رءوس وأشراف، يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس (2).
قال ابن حجر: قوله: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح -أي دين الإسلام- وما اشتمل عليه من العدل واجتماع الكلمة ونصر المظلوم ووضع كل شيء في محله، ما استقامت بكم أئمتكم، فإن ضلالهم سبب لضلال الرعية، لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال (3).
وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قال عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه:
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله.
وأحبار السوء، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك.
والرهبان وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس.
فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة! وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل! وقال أصحاب الذوق إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف (4).
وقال ابن كثير رحمه الله: عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعدما أن أرسل إليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غنائم الفرس على كثرتها وعظمتها، إن عمر لما نظر إلى ذلك قال: إن قومًا أدوا هذا لأمناء، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت (5).
والناس على دين مليكهم؛ إن كان خمارًا كثر الخمر، وإن كان لوطيًا فكذلك، وإن كان شحيحًا حريصًا كان الناس كذلك، وإن كان جوادًا كريمًا شجاعًا كان الناس كذلك، وإن كان طماعًا ظلومًا غشومًا فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك. وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص والله أعلم (6).
يقول الشيخ رشيد رضا: وقد مضت سنة الاجتماع في تقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج في سوقهم يروج في أسواق الأمة، وإذا كان حديث «الناس على دين ملوكهم» لم يُعرف له سند يصل نسبه ويرفعه، فمعناه صحيح وهو ضروري الوقوع في الحكومات المطلقة الاستبدادية (7).
تبعية الشعوب لدين ملوكهم:
فرعون:
هذا الحاكم المستبد الظالم، استعبد قومه، وتجبر عليهم؛ قتل أطفالهم، واستحيا نساءهم، ثم نجد القرآن في آيات كثيرة يبين تبعية قومه له، وطاعتهم له، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]، وقال تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ} [طه: 79]، وقوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98].
واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه، فهم يعزلون الجماهير أولًا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين! ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ} (8).
بل حتى عندما أتاهم نبي الله موسى ليخرجهم من ذلك الذل والاستضعاف والهوان ويأمرهم بعبادة الله وحده، نجد أن القرآن يبين رضاهم بذلك المستبد الذي يحكمهم، حيث أن له القوة الظاهرة والملك والحكم، فلا يؤمنون لدعوة موسى كما بيّنت الآيات: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83].
الصحابي سعد بن معاذ:
أسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه بدعوة مصعب بن عمير قبل الهجرة بعام، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد قومه ورئيسًا للأوس وزعيمًا لقبيلة بني عبد الأشهل، وقد كان مصعب بن عمير في المدينة داعيًا.
فلما أتاه سعد ليمنعه من دعوة الناس، قال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فجلس سعد رضي الله عنه يستمع لمصعب حتى أسلم.
فلما رآه قومه قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال لهم سعد: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًّا.
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام، حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا ودخل في الإسلام.
وقال سعد لبني عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تسلموا، فأسلموا فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام (9).
الصحابي الطفيل بن عمرو الدوسي:
كان الطفيل سيدًا في قومه، خرج رضي الله عنه إلى مكة في موسم الحج وكانت قريش قد حذّرته من سماع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاهد ألا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ما سعه من أكاذيب قريش عن النبي وأن لكلامه سحرًا، ولكن يأبى الله إلا أن يُسمعه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة يقول رضى الله عنه: فقلت في نفسي: والله إن هذا لَلعجز، والله إني امرؤ ثبْت ما يخفى علي من الأمور حسنها ولا قبيحها؛ والله لأستمعن منه فإن كان أمره رشدًا أخذت منه وإن كان غير ذلك اجتنبته (10).
فاستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم.
وكان من قوله رضي الله عنه في دعوته لقومه: يا رسول الله إني أرجع إلى دوس وأنا فيهم مطاع، وأنا داعيهم إلى الإسلام؛ لعل الله أن يهديهم، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونًا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل له آية تعينه على ما ينوي من الخير» ومكث بين أظهرهم يدعوهم حتى رُوي عنه أنه أتى يوم الخندق ومعه من قبيلة دوس ثمانون أو تسعون (11).
وروى الطبراني: إن لكل زمان ملكًا يبعثه الله على قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم بعث عليهم مصلحًا، وإذا أراد إهلاكهم بعث فيهم مترفيهم (12).
وقال الطيبي رحمه الله: لأن تغير الولاة وفسادهم مستلزم لتغير الرعية (13).
قال ابن الطقطقي: واعلم أنّ للملك أمورًا تخصّه يتميز بها عن السوقة، فمنها: أنه إذا أحبّ شيئًا أحبه الناس، وإذا أبغض شيئًا أبغضه الناس، وإذا لهج بشيء لهج به الناس إمّا طبعًا أو تطبّعًا، ليتقربوا بذلك إلى قلبه، ولذلك قيل: الناس على دين ملوكهم، فانظر كيف كان زيّ الناس في زمن الخلفاء، فلما ملكت هذه الدولة- أسبغ الله إحسانها وأعلى شأنها- غيّر الناس زيّهم في جميع الأشياء، ودخلوا في زيّ ملوكهم بالنطق واللباس، والآلات والرّسوم والآداب، من غير أن يكلّفوهم ذلك أو يأمروهم به أو ينهوهم عنه، ولكنهم علموا أن زيّهم الأوّل مستهجن في نظرهم، مناف لاختيارهم فتقرّبوا إليهم بزيّهم وما زال الملوك في كلّ زمان يختارون زيّا وفنّا، فيميل الناس إليه ويلهجون به، وهذا من خواصّ الدولة وأسرار الملك.
ومن خواصّ الملك: أن صحبته تورث التيه والكبر، وتقوّي القلب وتكبّر النفس، وليس صحبة غير الملك تفعل ذلك، ومن خواصّه: أنه إذا أعرض عن إنسان وجد ذلك الإنسان في نفسه ضعفًا، وإن لم ينله بمكروه، وإذا أقبل على إنسان وجد ذلك الإنسان في نفسه قوّة، وإن لم يصبه منه خير، بل مجرّد الإعراض والإقبال يفعل ذلك، وليس أحد من الناس بهذه المنزلة غير السّلطان (14).
فإذا كان الإمام عدلًا عادلًا فإن الأمة كلها على خير، وكما يقال: الناس على دين ملوكهم، وهذا من نتائج عدالة الإمام في ذاته، وعدله في رعيته، وإقراره للحق وإبطاله للباطل، ونشره للفضيلة، وقضائه على الرذيلة.
وكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة لكل المسلمين حكّامًا ومحكومين في جميع الأعصر؛ فإن رئيسهم يجب أن يكون مثلهم في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والخضوع لأحكام الدين الذي اختير لحراسته؛ لأن الناس على دين ملوكهم فإذا فسق الرئيس أو جار وهو القائم على قمة السلطة التنفيذية في الدولة؛ فإن إيمان الناس بالفضيلة والعدل قد يهن، وقد يتخذه من لم يتمكن الإسلام من نفوسهم في سلوكهم مثلًا وقدوة، وفي هذا أعظم الضرر على الدين وعلى الأمة (15).
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
قال الإمام الرازي: «لأن الجنسية علة الضم» فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية.
ثم قال: والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالمًا مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم (16).
وقال ابن كثير: معنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم (17).
وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالمًا ينتقم من ظالم، فقف وانظر فيه متعجبًا (18).
فالآية الكريمة تصور لنا مشهدًا واقعًا في حياة الأمم، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضًا، ويناصر بعضهم بعضًا، بسبب ما بينهم من صلات في المشارب والأهداف والطباع، وأن الأمة التي لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها عادة على شاكلتها؛ لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة في مجتمع أفراده تسودهم العدالة والشجاعة في الحق (19).
إن الأمة الصالحة لا تقبل الأمراء والحكام الفاسدين الظالمين، بل تسقطهم إذا نزوا على مصالحها وتولي الخيار، ولا سيما إذا كان صلاحها بقواعد الإسلام الذي جعل أمر الناس شورى بينهم، فأهل الحل والعقد من زعماء الأمة هم الذين يولون الإمام الأعظم، ويراقبون سيره في إقامة الحق والعدل، ويعزلونه إذا اقتضت المصلحة ذلك (20).
والحق الذي يشهد له التاريخ هو ما قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن (21)، وهو ما جرى في أمثال العرب قديمًا في أقوالهم الكثيرة التي فاضت بها كتب الأدب ودواوين الشعر: الناس على دين ملوكهم، الناس أتباع من غَلب، إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان، حتى قال أبو العتاهية:
ما الناسُ إِلا مَعَ الدُنيا وَصاحِبِها فَكَيفَ ما اِنقَلَبَت يَومًا بِهِ اِنقَلَبوا
يُعَظِّمونَ أَخـــا الدُنيا وَإِن وَثَبَت يَومًا عَلَيهِ بِمــا لا يَشتَهي وَثَبوا
لكل هذا وغيره، كان من أسباب خشية النبي، صلى الله عليه وسلم، على المسلمين حُكم الأئمة المضلين كما في الحديث: «…وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» (22)، وكذا قال عمر رضي الله عنه لزياد بن حدير: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين (23).
وإذا كان الحاكم في الممالك القديمة يستطيع التأثير بما يصبغ المملكة على نمطه حتى في الممالك القديمة، فكيف يبلغ التأثير الآن بعد أن أعطت الدولة المركزية للسلطة قوة خارقة لم يُعطَها ملِك أو سلطان من قبل، فصارت السلطة تمتلك من وسائل التأثير عبر الإعلام والقوانين ما يمكّنها من دخول كل بيت.
رحم الله ابن خلدون الذي قال بصريح العبارة: المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده (24).
هل يكفي صلاح الحكام دون الشعوب؟
بالرغم من حقيقة تأثير الحكام على شعوبهم، فإنه أيضًا من الضروري عدم إهمال دور الشعوب في ذلك التغيير، فالعمل على تغيير نظام أو حاكم مع تهميش دور الشعوب أو عزلهم عن ذلك التغيير خطأ كبير، فمن سنن الله عز وجل الماضية في عباده والتي لا تتبدل ولا تتحول أن الأمة إذا فشى فيها الظلم والمعاصي بين أفرادها؛ ولا سيما المعاصي الظاهرة، وقَلّ الإنكار لها فإن الله عز وجل يسلّط عليهم ظالمًا أقوى منهم؛ يظلمهم ويضيق عليهم في عيشهم وأرزاقهم، ويمنع عنهم حقهم، ويضرب عليهم الضرائب والمكوس التي تسبب لهم المشقة والعناء والعنت في حياتهم.
ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} [الشورى: 30]، وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
والصحيح أن يكون التحرك على شقين كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، بأن تكون الدعوة ونشر الوعي وتوضيح المنهج الصحيح للشعوب، والعمل معهم على التغيير (25).
---------
(1) سير الملوك للطرطوشي (ص: ١٩١).
(2) أخرجه البخاري (3834).
(3) فتح الباري لابن حجر (7/ 151)، بتصرف.
(4) شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص: 204).
(5) البداية والنهاية (10/ 17).
(6) البداية والنهاية (9/ 186).
(7) الخمر أم الخبائث/ مجلة المنار (4/ 881).
(8) في ظلال القرآن (5/ 3194).
(9) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 267).
(10) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 760).
(11) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 760).
(12) الفوائد المجموعة (ص: 210).
(13) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3429).
(14) الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية (ص: 32).
(15) السياسة الشرعية (ص: 587).
(16) مفاتيح الغيب (13/ 150).
(17) تفسير ابن كثير (3/ 340).
(18) تفسير القرطبي (7/ 85).
(19) التفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 180).
(20) تفسير المنار (8/ 89).
(21) البداية والنهاية (2/ 9).
(22) أخرجه أبو داود (4252).
(23) أخرجه الدارمي (220).
(24) تاريخ ابن خلدون (1/ 184).
(25) ما استقامت بكم أئمتكم/ ناصحون.