فقهاء الذل والهوان
مع كل نازلة أو حادثة تحدث للأمة ستجد من يتكلم بمنطق الانهزامية والذل والهوان، يبرر لنفسه التقاعس والخذلان، كحال من سبقه يوم قال: {ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]، وهو غارق فيها متشبع بها، {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]، يروجون الكذب وينشرون السلبية والانهزامية، يريدون خلخلة الصف وزعزعة الاستقرار {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47]، ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فالأجر يأخذون والعمل يضيعون، يحبطون الهمم ويوهنون العزائم، يجعلون الدنيا فوق رؤوسهم والعلم تحت أرجلهم، آثروا الحظ الأدنى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة؛ {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].
اشتروا الدنيا بالآخرة، والعذاب بالمغفرة، وتقربوا إلى الملوك والأمراء والوزراء، بالفتاوى الكاذبة، والأقوال المخترعة، والآراء الشاذة المنكرة التي نسبوها إلى الشريعة، واستعذبوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إرضاء للأهواء الشخصية، ونصرًا للأغراض السياسية، فاستحبوا العمى على الهدى، كما فعل غياث بن إبراهيم النخعي الكوفي الكذاب الخبيث، فإنه دخل على أمير المؤمنين المهدي، وكان المهدي يحب الحمام، ويلعب به، فإذا قدامه حمام، فقيل له: حدّث أمير المؤمنين، قال: حدثنا فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح»، فأمر له المهدي ببدرة (صرة فيها دنانير)، فلما قام قال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم قال المهدي: أنا حملته على ذلك، ثم أمر بذبح الحمام، ورفض ما كان فيه (1).
الذين يفتون بغير المشهور، وينشرون الشاذ من المدثور، لحظ يأخذونه من الدنيا، يحكمون بالهوى، ويعتمدون على الأقوال الواهية، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، لهم عمائم كالأبراج، وكمائم كالأخراج.
يتكلم كما يتكلم السوقة والرعاع، فتصدر عنه فتاوى مضادة تمامًا لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين، وفيها تحليل لما حرم الله، ومع ذلك يتكلم كما يتكلم الرعاع والسوقة فيقول: اتبعوني وأنا سأتحمل عنكم الوزر؛ وهذا هو منطق السوقة والغوغاء من الناس، وليس منطق من ينتسب إلى العلم الشريف؛ لأنه يأتسي في ذلك بمن قالوا: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 12] (2).
قال ابن كثير: إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة، أنهم يوم القيامة يحملون أوزار أنفسهم، وأوزارا أخر بسبب من أضلوا من الناس، من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئًا، كما قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] (3).
قال المناوي: قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة، فالواحد منهم أسير الشيطان، أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته، ومن هذا حاله فضرره على الأمة من وجوه كثيرة: منها الاقتداء به في أفعاله وأقواله، ومنها تحسينه للحكام ظلم الأنام، وتساهله في الفتوى لهم، وإطلاقه القلم واللسان بالجور وبالبهتان، استكبارًا أن يقول فيما لا علم عنده به لا أدري.
قال الغزالي: آفة العلم الخيلاء، فلم يلبث العالم أن يتعزز بالعلم، ويستعظم نفسه ويحتقر الناس، وينظر إليهم نظره إلى البهائم، ويستجهلهم ويترفع أن يبدأه بالسلام، فإن بدأ أحدهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده وبرًا عليه يلزمه شكره، واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقونه، وأنه ينبغي أن يخدموه شكرًا له على صنيعته؛ بل الغالب أنهم يبرونه ولا يبرهم، ويزورونه ولا يزورهم، ويستخدم من خالطه منهم ويسخره في حوائجه، فإن قصر استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه، وكأن تعلمه العلم صنيعة منه لديه، ومعروف إليه، أو استحقاق حق عليه (4).
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم العلم ليباهي به العلماء، ويجاري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم» (5)، أي يطلبه بنية تحصيل المال والجاه وإقبال العامة عليه.
قال الحكيم: علماء السوء ضربان؛ ضرب مكب على حطام الدنيا لا يسأم ولا يمل، قد أخذ بقلبه حبها، وألزمه خوف الفقر، فهو كالهمج يتقلب في المزابل من عذرة إلى عذرة ولا يتأذى بسوء رائحتها، وإكبابه عليها كإكباب الخنازير، فمسخوا في صورة الخنازير، وضرب أهل تصنع ودهاء ومخادعة وتزين للمخلوقين، شحًا على رياستهم، يتبعون الشهوات، ويلتقطون الرخص، ويخادعون الله بالحيل في أمور دينهم، فاطمأنوا إلى الدنيا وأسبابها، ورضوا من العلم بالقول دون الفعل، فإذا حل بهم السخط مسخوا قردة، فإن القردة جبلت على الخداع واللعب والبطالة، وشأن الخنزير الإكباب على المزابل والعذرة (6).
قال ابن كثير: المقصود التحذير من علماء السوء، وهذا مما ينتبه له، وإن كانت النفوس قد لا تقوى على أن تصف عالمًا بأنه عالم سوء، أو بأنه فاسق، لأنه قد يقع في نفسه أنه قد أوتي علمًا، فيستدل بالعلم على الحق، لا ليس كل من أوتي علمًا وحفظًا وفهمًا وإن حفظ ما حفظ، أو وصل إلى المنازل ما وصل لا يلزم من ذلك أن يكون مطيعًا لربه، لا يلزم من ذلك ألا ينفى عنه وصف الضلال، أو وصف البدعة، أو وصف الفسق، بل قد يكون عالمًا مبتدعًا، وقد يكون عالمًا ضالًا، بل قد يكون عالمًا ويرتد عن الإسلام، والعياذ بالله، لماذا؟ لأنه قد ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام ومجرد التزكية بإيتاء العلم بالنظر إلى العلم والمحفوظ وما تلقاه عن أهل العلم نقول: هذا الحكم فيه شبه من الجاهليين؛ لأن الذي يقف مع العلم والحفظ والفهم دون نظر إلى النتيجة هو على طريقة أهل الجاهلية فانتبه إلى هذا، حينئذٍ يقوى في نفسك أنه لا مانع أن يوصف عالم بأنه عالم سوء، أو يوصف داعية بأنه داعية ضلالة، أو أنه فاسق، أو أنه مبتدع، لماذا؟ لأنه لا يلزم من ثبوت العلم نفي ذلك الوصف الذي ذكرناه (7).
قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: 56- 57]، أي: يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرهًا لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام؛ ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة؛ فلهذا كلما سر المؤمنون ساءهم ذلك، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين (8).
وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء، لا يرسمها إلا هذا الأسلوب القرآني العجيب، الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق (9).
لما جاء الخديوي بالقانون الفرنسي عرضه على بعض علماء السوء، فقالوا: كل ما في هذا القانون من مواد لا تخرج عن المذاهب الأربعة، ولا بد أن توافق أحد المذاهب الأربعة ولو بوجه من الوجوه، ولو برأي أو قول ضعيف في مذهب أحمد أو الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة، فلا مانع من أن يقرَّ في بلاد المسلمين، فأقر هذا القانون بناءً على ذلك، فاتفق أصحاب السياسة، وعلماء السوء على إقرار هذا القانون وإدخاله إلى بلاد المسلمين.
والدولة العثمانية أدخلت النظم الغربية شيئًا فشيئًا، وكان أول ما أدخل قانون القناصل ومحاكم القناصل، فقد كانت لأوروبا قناصل في العالم الإسلامي، وكان القناصل يحكمون بين رعاياهم فقط، ولكن أحكامهم وقوانينهم توسعت حتى أصبحت تحكم بين المسلمين، ثم جاء السلطان سليمان، وكان من أكبر وأعظم السلاطين في الحرب والقوة العسكرية، لكنه أتى من باب الجهل بالدين، ومن باب أيضًا سكوت علماء السوء، فأدخل القوانين، ولهذا سماه الغربيون، سليمان القانوني، وأدخلها باسم "تنظيمات" تحاشيًا من أن يُقال قانون، فيُقَالُ: القوانين كفر، أو القوانين لا تجوز، فسموها تنظيمات، وجعلوها أنظمة، نظام التجارة، حتى نظام العقوبات الجنائية، بدَّل فيه كثيرًا من الأحكام عن غير ما أنزل الله تبارك وتعالى، ثم استمر الوضع شيئًا فشيئًا حتى جَاءَ الأوروبيون الصليبيون الجدد واحتلوا العالم الإسلامي وفرضوا القوانين بالقوة وألغوا الشريعة الإسلامية (10).
ومن شأن علماء السوء في كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم وكاشفًا عن سوء حالهم، أو يحرّفوه بحمله على غير ظاهر معناه، جبناء يتملقون للأعداء {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52].
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
فكان علماء السوء يبدلون ويحتالون على دين الله كما في قصة القرية التي كانت حاضرة البحر كما قال الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] فماذا فعلوا؟ وكيف المخرج؟ جاء علماء السوء المفتون، وَقَالُوا: الأمر بسيط! ألقو الشباك يوم الجمعة ولا تصطادوا يوم السبت ثم خذوها يوم الأحد.
قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى (11).
عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه»، قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى قال: «فمن» (12).
والحاصل التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم؛ ولهذا قال تعالى: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34]، وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله صلوات الله وسلامه عليه استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم، طمعًا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات، فأطفأها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها، وعوضهم بالذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله.
قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني من أهل دين، قال: «أنا أعلم بدينك منك»، قال: قلت: أنت أعلم بديني مني، قال: «نعم، أنا أعلم بدينك منك»، قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: «نعم»، قال: «ألست ركوسيًا؟»، قلت: بلى، قال: «أولست ترأس قومك؟» قلت: بلى، قال: «أولست تأخذ المرباع»، قلت: بلى، قال: «ذلك لا يحل لك في دينك»، قال: فتواضعت من نفسي (13).
وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي: وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق، ويلبسون الحق بالباطل، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير، وليسوا كما يزعمون، بل هم دعاة إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون (14).
كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من آخرته وهو في الدنيا أفضل رغبة؟ كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أشهى إليه مما ينفعه؟ وكيف يكون من أهل العلم من سخط واحتقر منزلته وهو يعلم أن ذلك من علم الله وقدرته؟ كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله تعالى في قضاءه فليس يرضى بشيء أصابه؟ كيف يكون من أهل العلم من طلب الكلام ليتحدث ولم يطلبه ليعمل به؟ (15).
إن لفظ (علماء السوء) يشمل أصنافًا:
الصنف الأول: العلماء الذين يفتون بغير علم، أو يفتون عن هوى، فإما أن يتابعوا الظلمة في ظلمهم أو يسايروا الناس فيما يريدونه من الشهوات والملذات، أو يطاوعوا أنفسهم، فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون.
والصنف الثاني: الذين يتلقون العلم من غير مصادره الشرعية، ويزعمون أن ذلك علمًا شرعيًا وينسبونه للإسلام، وهؤلاء في هذه الأمة طوائف: أولها: الذين أخذوا علم الفلاسفة وزعموا أنه علم يفوق علم الكتاب والسنة، أو يحكم فيما يرد من الكتاب والسنة، وأحيانًا يجعلونه هو العلم الفاضل الذي يتطلع إليه العقلاء، ومن هذا الصنف من يضعون القواعد العقلية من عند أنفسهم، أو ما يسمى بالرأي أو المعقولات، ويجعلونها أصولًا يُرجِعون إليها نصوص الكتاب والسنة ويجعلونها هي المحكمة فيهم.
والصنف الثالث: الرهبان، والمقصود بهم العباد الجهلة، وإنما عبر بالرهبان؛ لأن أفسد العباد الذين ظهروا في الأمم هم عباد النصارى، فقد أفسدوا الدين والدنيا، كما أنه عبر عن الفرقة الثانية بالأحبار؛ لأن أحبار اليهود هم أفسد من ينتسب للعلم من أتباع الأنبياء.
فالرهبان المقصود بهم العباد المتنسكة الذين يعبدون الله على غير هدى، يعبدونه بشرائع وضعوها لأنفسهم وتعبدوا بما لم يتعبدهم الله به، بترك أشياء لم يأمر الله بتركها، أو بفعل أشياء لم يأمر الله بفعلها، فلذلك تركوا ما لا يستقيم بدونه دين الناس ولا دنياهم، سواء رهبان النصارى وغيرهم من رهبان الهندوس والمجوس وغيرهم، وكذلك عباد هذه الأمة الأوائل الذين انبثق منهم المتصوفة، فإن هؤلاء وضعوا لأنفسهم من العبادات ما لم يشرعه الله من الصيام والصلاة والأذكار وغيرها، ثم إنهم أيضًا تركوا ما شرع الله فحرموا على أنفسهم وعلى غيرهم الحلال، بل تركوا ما لا تستقيم الحياة إلا به، وأعرضوا عن العلم الشرعي، بل عن العلوم كلها، وتعبدوا الله بالجهل، وظنوا أن هذا هو الصراط المستقيم، فبذلك ضلوا وأضلوا، فتعبدوا الله بترك الزواج مثلًا، وهذا مما تفسد به الحياة، ولو أن الناس كلهم تركوا الزواج لانقطعت الحياة.
وتركوا مخالطة الناس بدعوى الانفراد لعبادة الله عز وجل؛ مع أن مخالطة الناس وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل والصبر على الأذى في هذه الدعوة هو الحق الذي أراده الله، فاعتزلوا الناس بدعوى أن ذلك للعبادة، فكان في اعتزالهم شر عليهم وعلى الأمة، فتركوا الجهاد، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركوا تعليم الناس والتعلم من الناس، وغير ذلك من الأمور التي أدخلها الرهبان والتي أوجدتها الطرق الصوفية التي هيمنت اليوم على أكثر الأمة الإسلامية وأوقعتها في الذل والهوان والانتكاس والجهل والبدع والخرافات، والمتصوفة قرينة الرافضة، تجتمعان على أصول كثيرة من الجهل والحمق والتعبد بغير ما شرعه الله وترك ما شرعه الله، وغير ذلك مما هو معروف.
إذًا: هذه الأصناف الثلاثة تشمل جميع فرق الأهواء، وهي الأسباب الرئيسة الأولى في انحراف الأمم عمومًا وانحراف هذه الأمة على وجه الخصوص، سياسات جائرة من السلاطين، ثم أحبار السوء الذين يزينون الشر للسلاطين وللناس، ويصدون عن الخير باسم الشرع، ثم المتعبدة الرهبان الذين لبسوا على عوام المسلمين وعلى كثير من أبنائهم بما يظهرونه من زهد وتورع، وهو زهد كاذب وتورع كاذب (16).
وإذا فسد العالم لم يكن فساده مقصورًا على نفسه بل هُو فاسدٌ، مفسِدٌ، وهو فتنة على النَّاس وضرر عليهم إن كان في محل الاقتداء به لا سيَّما إذا استعمل ما علمه الله تعالى أو ما أعطاه من الجدل، والحجاج، والتفقه في استنباط الباطل، أو المراء في الدِّين، وتدقيق الحيل في بلوغ المقاصد والتقدم عند الأكابر بإنالتهم أغراضهم وتشبيه الباطل بالحق، وتلبيسه على النَّاس، أو المغالبة في المناظرة، وكيف يقال في هذا العالم أنه أفضل من صدِّيق، أو شهيد، أو أحد من المؤمنين المطيعين، كلا بل هو أشبه بإبليس حين غرَّ آدم، وحواء، بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، والأحاديث، والآثار في تمييز علماء الآخرة من علماء السوء كثيرة، والذي استقرَّ من ذلك أنَّ العلم النَّافع في الآخرة من الفضائل العظيمة.
وليس كل عالم به مستحقًا للتفضيل، والعالم المستحق للتفضيل المطلق هو الذي يعلم العِلم النَّافع شرعًا في الدُّنيا والآخرة وقام بحق علمه من عمل، أو نفع، أو هداية، أو غير ذلك من حقوق العِلم النافع فذلك هو العَالم المفضل بعلمه (17).
خرج الحسن من عند ابن هبيرة يومًا فإذا هو بالقراء على الباب فقال: ما يجلسكم هاهنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما واللَّه ما مجالستهم مجالسة الأبرار، تفرقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فرطحتم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجززتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم اللَّه، واللَّه لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم، أبعد اللَّه من أبعد (18).
وهذا الموقف حكيم عظيم؛ لأن الداعية إلى اللَّه ينبغي أن يستغني عن الناس وعن أموالهم وصدقاتهم، وخاصة الأكابر والسلاطين، فلا يقف على أبوابهم ولا يسألهم، حتى يكون لدعوته ولعلمه الأثر في نفوسهم وفي نفوس غيرهم، ولهذا وجَّه الحسن القراء لذلك؛ لأن من استغنى باللَّه افتقر الناس إليه (19).
قال ابن القيم: لكلِّ عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذُّل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذابًا يعذب به في قلبه (20).
قال الله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26].
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنَّ لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة.. {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أي: قتام وسواد في عرصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة، {وَلَا ذِلَّةٌ} أي: هوان وصغار، أي: لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، أي: نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم (21).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أَظْلِم أو أُظْلَم» (22).
قال الطِّيبي: قوله: «والذلة» أي من أن أكون ذليلًا في أعين الناس؛ بحيث يستخفونه ويحقرون شأنه، والأظهر أن المراد بها الذلة الحاصلة من المعصية، أو التذلل للأغنياء على وجه المسكنة، والمراد بهذه الأدعية تعليم الأمة (23).
إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء، وإياك أن تخدع، ويقال ترد مظلمة وتدفع عن مظلوم، فإن هذه خدعة إبليس اتخذها القراء سلمًا.
قال القاري: هو من قول الثوري، وكذا من قوله: إني لألقى الرجل أبغضه فيقول لي: كيف أصبحت فيلين له قلبي، فكيف بمن أكل ثريدهم ووطئ بساطهم، ومن ثم ورد اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة يرعاه قلبي، وقيل: ما أقبح أن يطلب العالم فيقال: هو بباب الأمير (24).
عن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين فأتاني فخرجت مسرعًا، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فانظر لي رجلًا أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه فأتيناه فقرعنا الباب، فقال: من ذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعًا، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له رحمك الله فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ فقال: نعم، قال: أبا عباس اقض دينه فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئًا انظر لي رجلًا أسأله، قلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام قال: امض بنا إليه فأتيناه فقرعنا الباب فخرج مسرعًا، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له فحادثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئًا، انظر لي رجلًا أسأله.
قلت: هاهنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي ولأمير المؤمنين، فقلت: سبحان الله أما عليك طاعة؟ أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس للمؤمن بذل نفسه»، فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله عز وجل، فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام من تقى قلب تقي فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم الدنيا وليكن إفطارك منها الموت، وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أبًا وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدًا فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.
وإني أقول لك: فإني أخاف عليك أشد الخوف يومًا تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله مثل هذا أو من يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدًا حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين فقال: يا ابن الربيع تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا، ثم أفاق، فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز شكي فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل.
قال: فبكى هارون بكاء شديدًا، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل» فبكى هارون بكاء شديدًا، فقال له: زدني رحمك الله، قال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح لهم غاشًا لم يرح رائحة الجنة».
فبكى هارون، وقال له: عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي، قال: إنما أعني من دين العباد قال: إن ربي لم يأمرني بهذا إنما أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره فقال جل وعز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56- 58].
فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا سلمك الله ووفقك، ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب، قال هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه، فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه، فأكلوا لحمه، فلما سمع هارون هذا الكلام، قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء، فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة فانصرف رحمك الله، فانصرفنا (25).
قال الزهري رحمه الله: قدمت على عبد الـملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة. قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية، قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قال قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: إنه لينبغي. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قال قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قال قلت: مكحول، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي عبد نُوبي أعتقته امرأة من هُذيل، قال فمن يسود أهل خراسان؟ قال قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي قال قلت: من الموالي، قال فمن يسود أهل البصرة؟ قال قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: ويلك! فمن يسود أهل الكوفة؟ قال قلت: إبراهيم النخغي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من العرب.
قال: ويلك يا زهري! فرجت عني، والله لتسودَن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال قلت: يا أمير المؤمنين! إنما هو أمر الله ودينه، من حفظه ساد ومن ضيعه سقط (26).
--------------
(1) الحديث في علوم القرآن والحديث (ص: 220).
(2) تفسير القرآن الكريم- المقدم (62/ 16)، بترقيم الشاملة آليًا.
(3) تفسير ابن كثير (6/ 266).
(4) فيض القدير (6/ 369).
(5) أخرجه ابن ماجه (260).
(6) فيض القدير (6/ 369).
(7) شرح مسائل الجاهلية للحازمي (5/ 16)، بترقيم الشاملة آليًا.
(8) تفسير ابن كثير (4/ 163).
(9) في ظلال القرآن (3/ 1666).
(10) شرح الطحاوية لسفر الحوالي (ص: 539)، بترقيم الشاملة آليًا.
(11) تفسير ابن كثير (4/ 138).
(12) أخرجه البخاري (3456).
(13) أخرجه ابن أبي شيبة (36606).
(14) تفسير ابن كثير (4/ 138).
(15) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 209).
(16) شرح الطحاوية لناصر العقل (36/ 6- 7)، بترقيم الشاملة آليًا.
(17) قوت المغتذي على جامع الترمذي (2/ 681).
(18) انظر: حلية الأولياء (٢/ ١٥٠)، وسير أعلام النبلاء (٤/ ٥٨٦).
(19) انظر: حلية الأولياء (٢/ ١٧٣)، والبداية والنهاية (٩/ ١٠٠).
(20) روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 483).
(21) تفسير القرآن العظيم (4/ 263).
(22) أخرجه أبو داود (1544).
(23) عون المعبود وحاشية ابن القيم (4/ 282).
(24) كشف الخفاء (1/ 102).
(25) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 107).
(26) تحفة الأحوذي (1/ 63).