عزة واستعلاء أهل الدين والدعاة
العزة والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في أنحاء المجتمع، وتعهد ثمارها بما شرع من عقائد، وسن من تعاليم، وإليها يشير الفاروق عمر بقوله: أحب من الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول بملء فيه: لا.
العزة: صفةٌ من أوصاف الله تعالى، واسمٌ من أسمائه؛ فهو العزيز؛ أي: الغالب القوي، وهو المعز الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده، وقد تكرر وصف الله بالعزيز في القرآن بما يقارب تسعين مرة.
والعزة: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب، وهي إحساسٌ يملأ القلب والنفس بالإباء والشموخ والاستعلاء والارتفاع، وهي ارتباطٌ بالله، وارتفاعٌ بالنفس عن مواضع المهانة، والتحرر من رِقِّ الأهواء ومن ذُلِّ الطمع، وعدم السير إلا وفق ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والغاية منها: الرفعة والفخر على الآخرين بلا تكبر، وهي نابعةٌ من الخيرية التي ينتج عنها الخير للبشر، من مناصرة للفضيلة، ومقارعة للرذيلة، واحترام للمثل العليا.
ذكر الخطابي رحمه الله أن العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه:
الأول: معنى الغلبة والقهر؛ أي: يكون بمعنى نفاسة القدر، فيتأول معنى العزيز على هذا، أنه لا يعادله شيء، وأنه لا مثل له ولا مثيل.
الثاني: عزة الامتناع؛ فإنه عز وجل الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه؛ بل هو الضار النافع، المعطي المانع سبحانه.
الثالث: عزة القهر والغلبة لكل الكائنات؛ فالله عز وجل غالبٌ على كل شيء، والكائنات مقهورة لله، خاضعةٌ لعظمته، منقادةٌ لإرادته، فجميع نواصي العباد بيده، لا يتحرك منها متحرك، ولا يتصرف فيها متصرفٌ إلا بحوله وقوته وعزته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله(1).
قال الإمام الغزاليّ: «هو الخطير الذي يقل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، فما لم يجتمع عليه هذه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز؛ فكم من شيء يَقِلُّ وجودُه ولكن إذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يُسَمَّ عزيزًا، وكم من شيء يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره، ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزًا؛ كالشمس مثلًا؛ فإنه لا نظير لها، والأرض كذلك، والنفع عظيم في كل واحد منهما، والحاجة شديدة إليهما، ولكن لا يوصفان بالعزة؛ لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما، فلا بد من اجتماع المعاني الثلاثة.
ثم في كل واحد من المعاني الثلاثة كمال ونقصان، والكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى واحد؛ إذ لا أقل من الواحد، ويكون بحيث يستحيل وجود مثله، وليس هذا إلا الله تعالى؛ فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليست واحدة في الإمكان، فيمكن وجود مثلها في الكمال والنفاسة، وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء في كل شيء، حتى في وجوده وبقائه وصفاته، وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل، والكمال في صعوبة المنال أن يستحيل الوصول إليه على معنى الإحاطة بكنهه، وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل، فإنا قد بينا أنه لا يعرف الله إلا الله، فهو العزيز المطلق الحق، لا يوازيه فيه غيره»(2).
وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن عزة الله عز وجل متضمنةٌ للأنواع السابقة كلها، وهي عزة القوة، الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهو وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت(3).
العزة في القرآن:
يقول ابن الجوزي رحمه الله: «قال بعض المفسرين: العزة في القرآن على ثلاثة أوجه:
الأول: العظمة، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82].
الثاني: المنعة؛ ومنه قوله جل وعلا: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء:139].
الثالث: الحمية؛ ومنه قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإثْمِ} [البقرة:206]، وقول الله عز وجل: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:2]»(4).
أقسام العزة:
1- عزةٌ شرعية: وهي التي ترتبط بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيعتز المرء بدينه، ويرتفع بنفسه عن مواضع المهانة، فهو لا يُريق ماء وجهه، ولا يبذل عرضه فيما يدنسه، فيبقى موفور الكرامة، مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، شامخ العرين، سالمًا من ألم الهوان، متحررًا من رق الأهواء، ومن ذل الطمع، لا يسير إلا وفق ما يمليه عليه إيمانه والحق الذي يحمله ويدعو إليه.
عن أبي عثمان الخياط يقول: «سمعت ذا النون يقول: ثلاثة من أعمال المراقبة؛ إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله، قال: وثلاثة من أعلام الاعتزاز بالله: التكاثر بالحكمة وليس بالعشيرة، والاستعانة بالله وليس بالمخلوقين، والتذلل لأهل الدين في الله وليس لأبناء الدنيا»(5).
2- عزةٌ غير شرعية: وهي التي ترتبط بالكفر والفسق والنسب والوطن والمال ونحوها، فكل هذه مذمومة.
ولها صور، منها:
● الاعتزاز بالكفار من يهودٍ ونصارى ومنافقين وعلمانيين وحداثيين وغيرهم.
● الاعتزاز بالآباء والأجداد. ● الاعتزاز بالقبيلة والرهط.
● الاعتزاز بالكثرة, سواءً كان بالمال أو العدد.
● الاعتزاز بالجاه والمنصب.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلّا لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم»(6).
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»(7).
عزة أهل الإيمان:
قال تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، يضم الله سبحانه رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويضفي عليهم من عزته، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله! وأي تكريم بعد أن يوقف الله سبحانه رسوله والمؤمنين معه إلى جواره، ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء، وهذا هو الصف العزيز! وصدق الله، فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن، العزة المستمدة من عزته تعالى، العزة التي لا تهون ولا تهن، ولا تنحني ولا تلين، ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان، فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة(8).
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه» قالوا: «وكيف يذل نفسه؟»، قال: «يتعرض من البلاء لما لا يطيق»(9).
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلًا قال له: «إن الناس يزعمون أن فيك تيهًا» قال: «ليس بتيه ولكنه عزة، فإن هذا العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه».
قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه، وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلها، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة؛ كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة، ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر، قال تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20]، وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر(10).
في غزوة أحد عصا الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانقلبت الدائرة على المسلمين، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق جبل أحد، وأشرف أبو سفيان فقال: «أفي القوم محمد؟»، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه»، فقال: «أفي القوم ابن أبي قحافة؟»، قال: «لا تجيبوه»، فقال: «أفي القوم ابن الخطاب؟»، فقال: «إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياءً لأجابوا».
فلم يملك عمر نفسه فقال: «كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك»، قال أبو سفيان: «اُعْلُ هُبَل»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه»، قالوا: «ما نقول؟»، قال: «قولوا: الله أعلى وأجل»، قال أبو سفيان: «لنا العزى ولا عزى لكم»، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه»، قالوا: «ما نقول؟»، قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»، قال أبو سفيان: «يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثْلةً لم آمر بها ولم تسؤني»(11).
لقد عاش نبينا صلى الله عليه وسلم عزيز النفس, عفيف القصد, شريف المسلك في كل خطوة خطاها, وفي كل لحظة عاشها, لم يحن الجبين إلا لله, ولم يضع حاجته إلا بين يدي ربه, وجاء بعده صحابته, يطلبون الأشياء بعزة النفوس؛ لأن الأمور تجري بالمقادير, ولقد حفظوا ما علمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم.
خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة فنزل عنها، وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: «يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟ تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك».
فقال عمر: «أَوَّهْ، لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمة محمد، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»(12).
وفي رواية قال: «يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟»، فقال عمر: «إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزة بغيره»(13).
العزة ليست في كثرة الأموال واعتلاء المنصب، وإنما بقدر اتصالك بالله، فالله هو المعز المذل، هو الذي يؤتي الملك من يشاء ويسلبه ممن يشاء، قال تعالى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]، وهو المعز لمن أطاعه، المذل لمن عصاه، وهو المانح للعز، {وَللهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، ومن أعزه الله فهو العزيز {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس، حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله، حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي، يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس، ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم، ومخاوفهم ومطامعهم، ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع، وعلى كل شيء، وعلى كل إنسان، وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان.
إن العزة ليست عنادًا جامحًا يستكبر على الحق، ويتشامخ بالباطل، وليست طغيانًا فاجرًا يضرب في عتو وتجبر وإصرار، وليست اندفاعًا باغيًا يخضع للنزوة ويذل للشهوة، وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح... كلا! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس، واستعلاء على القيد والذل، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله، ثم هي خضوع لله، وخشوع وخشية لله، وتقوى ومراقبة لله في السراء والضراء، ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه، ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه، ومن هذه المراقبة لله لا تغنى إلا برضاه(14).
عزة المؤمنين أمام الفرس:
جاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه حتى نزل القادسية، والمسلمون الذين معه نحو سبعة آلاف، والفرس يبلغون ثلاثين ألفًا أو نحوًا من ذلك.
فلما أدخل رسل المسلمين على كسرى يزدجرد، وعرض النعمان بن مقرن دعوة الإسلام على كسرى قال كسرى: «إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل عليكم القرى فيكفوننا إياكم، لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم زاد وكثر فلا تغتروا، وإن كان الجهد [أي: الفقر] دعاكم صرفنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم».
فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي فقال: «أيها الملك، إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا في الجاهلية أن يقتل بعضنا بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليقتل ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلًا صلى الله عليه وسلم نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا...، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك».
فقال: «أتستقبلني بمثل هذا؟!»، فقال: «ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به»، فقال: «لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم».
وقال: «ائتوني بوقر من التراب، واحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، وارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم حتى يدفنكم في خندق القادسية وينكل بكم، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور».
فتقدم عاصم بن عمرو واحتمل وقر التراب واعتبره فألًا حسنًا على الظفر بأرضهم، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يظفرهم بأرضهم، وقد تطير من ذلك رستم، وجعله علامة على أن الله سلبهم أرضهم وأبناءهم للمسلمين.
ثم إن سعدًا أرسل ربعي بن عامر رضي الله عنه، فدخل على رستم وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي من الحرير، وأظهر اللآلئ الثمينة العظيمة، وأراد أن يهزمه بهذه المظاهر، وكان عليه تاج، وأظهر غير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب.
ودخل ربعي بثياب مشققة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، فـربعي يريد أن يعلمه أن كل هذه المظاهر لا تساوي عندهم شيئًا؛ بل حقرها بالفعل، وذلك أنه نزل عن فرسه وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: «إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت»، فقال رستم: «ائذنوا له».
فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فمزق عامتها بالرمح، فقال له: «ما جاء بكم؟» فانظر إلى جواب رجل من جنود المسلمين، وانظر إلى فقهه لغايته من الحياة، وفهمه للرسالة التي يعيش من أجلها، وقارن بين شباب المسلمين اليوم لترى لأي شيء يعيشون، وما هدفهم وغايتهم.
فقال له: «ما جاء بكم؟»، فقال: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى ذلك قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله».
قال: «وما موعود الله؟»، قال: «الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي».
فقال رستم لرؤساء أهل فارس: «ما ترون؟ هل رأيتم كلامًا قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟!»، فقالوا: «معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟!»، فقال: «ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة».
وأقبلوا يسخرون من سلاحه ومن ملابسه ومن هيئته، فأبى الفرس دعوة الحق، واختاروا المنازلة، فنصر الله المسلمين وهزموا فارس وسبوهم.
وكان يزدجرد ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين ودعوتهم وما هم عليه، فأجابه ملك الصين: «إنه يمكنني أن أبعث لك جيشًا أوله في منابت الزيتون، يعني: في الشام، وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم وتعيش في ظلهم وظل عدلهم»(15).
ديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم نلبس إلا رديء الثياب، وديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم يكن لنا في الأرصدة دينار ولا درهم، يعلمنا أننا الأعزاء وإن لم ننل شيئًا من المناصب والرتب، ويعلمنا أننا الأعزاء وإن لم نرتبط بأنسابٍ وأحسابٍ يفاخر بها أهل الجاهلية، ديننا يعلمنا أن العزة فيمن تعلق بالعزيز وحده لا شريك له؛ فربنا يعلمنا الإقدام والثبات في مواطن اليأس، موقنين أن الله العزيز القوي معنا، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104]، ويقول سبحانه: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ} [محمد:35](16).
خوف قيصر ملك الروم:
في السنة الخامسة عشرة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن الشام إلى بلاد الروم، وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: «عليك السلام يا سورية، سلام مودع لم يقض منك وطرًا وهو عائد»، فلما عزم على الرحيل من الشام، التفت إلى بيت المقدس، وقال: «وعليك السلام يا سورية سلامًا لا اجتماع بعده»، ثم سار هرقل إلى القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلًا ممن اتبعه، كان قد أسر مع المسلمين، فقال: «أخبرني عن هؤلاء القوم».
فقال: «أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوه حتى يأكلوا عليه»، فقال: «لئن كنت صدقتني ليملكُن موضعي قدمي هاتين»(17).
لن نشعر بالعزة إلا عندما نتمسك بقيام الليل وصلاة الفجر.
يا من يريد العزة اطلبها ممن هي بيده، فإن العزة بيد الله، ولا تنال إلا بطاعته؛ لأنّ العزة كلها مختصة بالله؛ عزة الدنيا وعزة الآخرة، ثم اعلم أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح.
العزة في الأنس بالله:
في ذات سنة قدم سليمان بن عبد الملك مكة حاجًا، فلما أخذ يطوف طواف القدوم أبصر سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب يجلس في الكعبة في خضوع، فلما فرغ الخليفة من طوافه توجه إلى سالم، فأفسح له الناس الطريق حتى أخذ مكانه بجانبه، وكاد يمس بركبته ركبته، فلم ينتبه له سالم ولم يلتفت إليه؛ لأنه كان مستغرقًا فيما هو فيه، مشغولًا بذكر الله عن كل شيء، وطفق الخليفة يرقب سالًما بطرف خفي يلتمس فرصة يتوقف فيها عن التلاوة، فلما واتته الفرصة مال عليه وقال: «السلام عليك يا أبا عمر ورحمة الله».
فقال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته».
فقال الخليفة بصوت خفيض: «سلني حاجة أقضها لك يا أبا عمر»، فلم يجبه سالم بشيء، فظن الخليفة أنه لم يسمعه، فمال عليه أكثر من ذي قبل وقال: «رغبت بأن تسألني حاجة لأقضيها لك».
فقال سالم: «والله، إني لأستحي أن أكون في بيت الله ثم أسأل أحدًا غيره»، فخجل الخليفة وسكت، لكنه ظل جالسًا في مكانه، فلما قضيت الصلاة نهض سالم يريد المضي إلى رحله، فلحقت به جموع الناس، هذا يسأله عن حديث من أحاديث رسول الله، وذاك يستفتيه في أمر من أمور الدين، وثالث يستنصحه في شأن من شئون الدنيا، ورابع يطلب منه الدعاء.
وكان في جملة من لحق به خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك، فلما رآه الناس وسعوا له حتى حاذى منكبه منكب سالم بن عبد الله، فمال عليه وهمس في أذنه قائلًا: «ها نحن أولاء قد غدونا خارج المسجد، فسلني حاجة أقضها لك».
فقال سالم: «من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟».
فارتبك الخليفة وقال: «بل من حوائج الدنيا».
فقال له سالم: «إنني لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها، فكيف أطلبها ممن لا يملكها؟»، فخجل الخليفة منه وحياه، وانصرف عنه وهو يقول: «ما أعزكم آل الخطاب بالزهادة والتقى! بارك الله عليكم من آل بيت»(18).
إن مقام العبودية يحمل معنى العزة والرفعة، وإن الهروب من العبودية يعني الذلة والهوان للأعتاب والأحجار والأوثان، وكلما بعدت عن طاعة الله فأنت ذليلٌ بخلق الله، وكلما بعدت عن مرضاة الله فأنت ذليلٌ لشهواتك وملذاتك.
هل تفكر دائمًا في الآخرة أم في متطلبات الدنيا وكمالياتها؟
العز بن عبد السلام وعزة العلماء:
كان الشيخ الجليل عز الدين بن عبد السلام قد تولى منصب قاضي القضاة، وما إن تولى هذا المنصب حتى لاحظ أن أمراء البلاد وقادة الجيش ليسوا من أهل مصر، وليسوا أحرارًا على الإطلاق؛ بل هم مجلوبون اشتراهم السلطان من بيت المال وهم صغار، فتعلموا اللغة العربية وعلوم الدين والفروسية والحرب، وعندما شبوا عيَّنهم في مناصبهم، فهم أمراء مماليك عبيد، إذن فليس لهم حقوق الأحرار، ولهذا فليس لهم أن يتزوجوا بحرائر النساء، وليس لهم أن يبيعوا أو يتصرفوا إلا كما يتصرف العبيد.
بلغ الأمراء ذلك، فعظم الخطب فيهم واحتدم الأمر واشتد، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعًا ولا شراءً ولا نكاحًا، وتعطلت مصالحهم بذلك.
وكان منهم نائب السلطان فاستشاط غضبًا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقالوا له: «ماذا تريد؟»، فقال الشيخ: «نعقد لكم مجلسًا، وينادى عليكم للبيع لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي».
فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث السلطان إليه، فلم يرجع عن قوله، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار وأركب عائلته على حمير أخرى ومشى خلفهم خارجًا من القاهرة قاصدًا الشام، فلم يصل إلى نصف ما يريد حتى لحقه غالب المسلمين، ولم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل يتخلف، ولا سيما العلماء والصلحاء والتجار.
بلغ السلطان الخبر وقيل له: «متى راح الشيخ ذهب ملكك»، فركب السلطان نفسه ولحقه واسترضاه وطيب خاطره، فرجع الشيخ واتفق على أن ينادى على الأمراء لبيعهم، فأرسل إليه نائب السلطان بالملاطفة، فلم يقبل الشيخ ولم تفد الملاطفة معه، فانزعج نائب السلطان وقال: «كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي هذا»، وركب بنفسه، نائب السلطان، في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وحكى له ما رأى، فما اهتم الشيخ بذلك ولا تغير وقال: «يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله».
ثم خرج وكان قضاء الله قد نزل على نائب السلطان، فحين وقع بصر الشيخ على النائب يبست يد النائب وارتجف، وسقط السيف من يده، وارتعدت مفاصله، وبكى وسأل الشيخ أن يدعو له وقال: «يا سيدي الشيخ، خير أي شيء تعمل؟»، قال: «أنادي عليكم»، قال: «ففيم تصرف ثمننا؟»، قال: «في مصالح المسلمين»، قال: «فمن يقبضه؟»، قال: «أنا».
فوافق وتم للشيخ ما أراد، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير، وهذا لم يُسمَع بمثله عن أحد، رحمه الله تعالى ورضي الله عنه(19).
العزة ليست تكبرًا أو تفاخرًا، وليست بغيًا أو عدوانًا، وليست هضمًا لحقٍ، أو ظلمًا لإنسانٍ، وإنما هي الحفاظ على الكرامة، والصيانة لما يجب أن يصان، ولذلك لا تتعارض العزة مع الرحمة؛ بل لعل خير الأعزاء هو من يكون خير الرحماء، وهذا يذكرنا بأن القرآن الكريم قد كرَّرَ قوله عن رب العزة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تسع مرات في سورة الشعراء، ثم ذكر في كل من سورة يس والسجدة والدخان وَصْفَي: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} مرة واحدة.
إن هذا الشعور بالحرية والكرامة، أو لِنَقُل: استعلاء الإيمان، لا يتأتى إلا حين تكون العبودية في المجتمع لله وحده، ومن ثم تكون الحاكمية فيه لله وحده، فعندئذ فقط يكون هذا المجتمع متحضرًا.
أما المجتمع الذي تكون الحاكمية فيه لغير الله فهو مجتمع جاهلي متخلف؛ إذ لا حرية حقيقية ولا كرامة حقيقة للإنسان فيه، يؤكد هذا المعنى الأستاذ الدكتور يوسف العش في بحثه عن روح الحضارة الإسلامية إذ يقول: «إن أبرز اختلاف بين مفهوم الحضارة في الفكر الإسلامي ومفهومها في الفكر الغربي يقوم على تفسير التقدم، فالغرب يرى التقدم ماديًا خالصًا، بينما يرى الإسلام أن التقدم معنوي ومادي، وأنه إنساني أصلًا، وتوحيدي في أساسه، فكل تقدم في مفهوم الإسلام يجب أن يقوم على أساس التحرر من عبودية غير الله، فلا يؤمن بسلطان غير سلطانه، والأصل في الوحدانية هو التحرر من عبودية غير الله، ومن كل سلطان غير سلطانه»(20).
عزة ولو أسيرًا في يد عدوه:
أمر قيصر رجاله إذا ظفروا بأسيرٍ من أسرى المسلمين أن يبقوا عليه، وأن يأتوا به حيًا، وشاء الله أن يقع عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أسيرًا في أيدي الروم، فحملوه إلى ملكهم, وقالوا: «إن هذا من أصحاب محمد، السابقين إلى دينه، قد وقع أسيرًا في أيدينا فأتيناك به»، نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة رضي الله عنه طويلًا، ثم بادره قائلًا: «إني أعرض عليك أمرًا»، قال عبد الله: «وما هو؟»، فقال قيصر: «أعرض عليك النصرانية، فإن فعلت خليت سبيلك وأكرمت مثواك».
فقال عبد الله في أَنَفَةٍ وحزمٍ: «هيهات، إن الموت لأحب إليَّ ألف مرةٍ مما تدعوني إليه».
فقال قيصر: «إني لأراك رجلًا شهمًا، فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني»، فتبسم الأسير المكبل بقيوده وقال: «والله، لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عينٍ ما فعلت»، قال قيصر: «إذن أقتلك»، قال عبد الله: «أنت وما تريد»، ثم أمر به فصلب, وقال لقناصته: «ارموا قريبًا من يديه»، وهو يعرض عليه النصرانية فأبى، فقال قيصر: «ارموه قريبًا من رجليه»، وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى، عند ذلك أمرهم أن يكفوا عنه، وطلب أن ينزلوه عن خشبة الصلب، ثم دعا بقِدْرٍ عظيمةٍ فصُبَّ فيها الزيت، ورفعت على النار حتى غلت، ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين فأمر بأحدهما أن يُلقى فيها، فألقي فإذا لحمه يتفتت، وإذا عظامه تبدو عاريةً.
ثم التفت إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية، فكان أشد إباءً لها من قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القِدْر، فلما ذهب به دمعت عيناه, فقال رجال قيصر لملكهم: «إنه بكى»، فظن أنه جزع, وقال: «ردوه إليَّ»، فلما مثل بين يديه عرض عليه النصرانية فأباها، فقال قيصر: «ويحك فما الذي أبكاك إذن؟»، فقال عبد الله: «أبكاني أني قلت في نفسي: تُلقى الآن في هذا القدر فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعرٍ أنفس فتلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله».
فقال الطاغية: «هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟»، فقال له عبد الله: «وعن جميع أسارى المسلمين أيضًا؟»، قال: «وعن جميع أسارى المسلمين أيضًا»، قال عبد الله: «فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله أقبل رأسه فيخلي سبيلي وسبيل المسلمين، لا ضير في ذلك عليَّ»، ثم دنا وقبل رأسه، فأمر ملك الروم أن يجمعوا له أسارى المسلمين وأن يدفعوهم إليه، فدُفِعوا له(21).
عزة في وقت المحنة:
لما اشتد على الناس البلاء يوم الأحزاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة [المجاذبة]، فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: «يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟»، فقال: «لا؛ بل شيءٌ أصنعه لكم، والله، ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوسٍ واحدٍ، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما».
فقال له سعد بن معاذ رضي الله عنه: «يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةً واحدةً إلا قِرًى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا حاجة، والله، لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت وذاك»، فتناول سعد بن معاذ رضي الله عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال رضي الله عنه: «ليجهدوا علينا»(22).
معاوية والأسير:
ذكر ابن النحاس أن مسلمًا وقع في أسر الروم في زمن معاوية رضي الله عنه، فأدخل على قيصر، فتكلم المسلم أمام قيصر بعزة الإسلام وأنفته، فقام أحد بطارقته فلطم المسلم.
ولا عجب بالأسد إذا ظفرت بها كلاب الأعادي من عجم ومن عرب
فقال المسلم: «الله بيننا وبينك يا معاوية، وليت أمرنا فضيعتنا».
فبلغت المقولة إلى معاوية، فأرسل بفدائه فافتدي، ثم سأل عن اسم لاطمه فأخبر، ثم أرسل إلى قائد له حذق لبق، فقال له: «أريد أن تحضر لي ذلك اللاطم وسلني ما تريد؟»، فقال القائد: «أريد مركبًا بمجاديف خفية يَلحق ولا يُلحق».
فأمر معاوية صناعه فصنعوا له مركبًا بمجاديف خفية يلحق ولا يلحق، ثم قال للقائد: «اذهب كأنك تاجر وبع واشتر، ثم هاد الملك وخواصه ووزراءه وبطارقته إلا ذلك اللاطم، فلا تهاده وتكلمه، فإن عاتبك فقل له ما عرفتك، ومتى عدت إليك أضاعف لك»، فذهب القائد وفعل ما طلب منه، ثم رجع إلى معاوية وأخبره الخبر.
فزوده مرة أخرى وقال: «هذه للملك، وهذه لخواصه ووزرائه وبطارقته، وهذه لذلك اللاطم، فإذا هممت بالرجوع فقل له: إني أريد أن أصاحبك، فسلني شيئًا أحضره لك جزاء ما فرطتُ في أمرك».
فذهب القائد وفعل ما طلب منه، فلما هم بالرجوع قال لذلك اللاطم: «إني أريد أن أصاحبك فسلني شيئًا أحضره لك جزاء ما فرطت في أمرك»، فقال البطريق: «أريد بساطًا من الحرير، يحوز جميع صور الأطيار والأزهار والأنهار والأحجار، طوله كذا وعرضه كذا، كالحوت لا يكفيه من الماء فيغمى إلى الماء وفوه فيه».
فرجع القائد إلى معاوية وأخبره الأمر، فأمر معاوية حذاقه فصنعوا له بساطًا من الحرير، يحوز جميع صور الأطيار والأزهار والأنهار والأحجار، يسلب القلب ويأسر اللب، ثم قال معاوية لقائده: «اذهب به إلى فم البحر، ولا تنزل من المركب، فإن الطمع والشره سينزل به إلى المركب، فإذا نزل إلى المركب فأشغله، ثم ارفع الشراع وقيد الكراع والذراع، ثم الإسراع الإسراع».
فذهب القائد إلى فم البحر، ونشر البساط على المركب، وكان العلج على شرفة له مطلة إلى البحر، فلما رأى البساط، كاد عقله أن يذهب فنزل إلى المركب، فلما نزل إلى المركب أخذ القائد يلعب به لعب الأفعال بالأسماء، يرفعه ويضعه، ويعرض عليه البضائع والظرف والطرف، ثم أشار على أصحابه أن ارفعوا الشراع، فلما رأى العلج ذلك قال: «ما هذا؟»، فقال القائد: «وقعت أي يا لكاع، كابن آوى يصعب صيده، فإذا صيد لا يساوي خردلة، فقيدوا الكراع والذراع ثم الإسراع الإسراع».
فأدخل البطريق إلى معاوية، فلما رآه قال: «الحمد لله، إليَّ بالأسير المسلم، فلما جاء الأسير المسلم قال معاوية: «أهذا خصمك؟»، قال: «نعم»، قال: «قم فالطمه كما لطمك ولا تزد»، فقام المسلم فلطم البطريق، فحمد الله ثم شكر لأمير المؤمنين.
ثم قال معاوية للبطريق: «اذهب إلي ملكك فقل له: تركت أمير المؤمنين يقتص ممن هم على بلاطك، فاعرف قدرك وإياك غدرك».
انا ابن الليل والخيل المذاكي وبيض الهند والسمر اللداني
ثم قال معاوية للقائد: «اذهب به إلى فم البحر وارمه، وارم معه بساطه فقد استحقه»، فذهب القائد به إلى فم البحر، ثم رماه كالخنزير في الطرائد ليس لقاتله من حامد، ورمى معه بساطه.
فذهب البطريق إلى قيصر وأخبره الخبر، فقال قيصر: «إيه، لله دره، أمكر الملوك وأدهى العرب، قدموه فساس أمرهم»(23).
موقف المعتصم:
أغار نوفيل ملك الروم على حدود الدولة العباسية، وعلى زبطرة بالذات، وهي مسقط رأس المعتصم، وعلى أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين، وأسر مجموعة من المسلمين من الرجال والنساء والأطفال، فمثَّل بهم؛ فمنهم من سمل عيونهم، ومنهم من قطع أنوفهم وآذانهم، ومنهم من قتل، وكان من بين الأسرى امرأة هاشمية، كبر عليها الضمير، وعظمت عليها القسوة، فصاحت بأعلى صوتها: «وامعتصماه»، ونقل بعض الحاضرين هذه الصيحة إلى المعتصم، فما أن وصلت إلى مسمعه حتى صرخ بأعلى صوته في المجلس ونهض مرددًا: «لبيك، لبيك يا أختاه»، وأمر بالنفير العام، واستدعى القضاة والشهود، وأشهدهم على وصيته، أن ماله إذا استشهد في هذه المعركة يقسم إلى ثلاثة أقسام: ثلثه صدقة، وثلثه لأولاده، وثلثه لمواليه.
وسار بنفسه ومن معه من خيرة قواده ورجاله سنة (223هـ)، فحاصر عمورية، وهي عين النصرانية ومركز قوتها ومسقط رأس نوفيل ملك الروم، ففتحها بعد حصار شديد، رغم حصانة أسوارها، وقوة رماتها، فخرت صريعة بين يديه، وقد ملأت الغيرة لكرامة المرأة نفس كل جندي إباءً وحماسًا، فأنزلوا بالعدو شر هزيمة، واقتحموا قلاعه في أعماق بلاده، حتى أتوا عمورية، وهدموا قلاعها، وانتهوا إلى تلك الأسيرة وفكوا عقالها، وقال لها المعتصم: «اشهدي لي عند جَدك المصطفى صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك»(24).
وثأر المعتصم من أعداء الله ولمن نكل بهم من المسلمين والمسلمات، واسترد كرامة الأمة الإسلامية، وبين كيف تكون غضبة الحاكم المسلم إذا انتهكت حرمات العقيدة، أو اعتدي على حمى الإسلام والمسلمين(25)، وقد عاد إلى بغداد مكبرًا مهللًا، واستقبلته الأمة بالفرح والغبطة والسرور.
هذه حال المسلمين في عهدهم الزاهر، عهد الجسد الواحد إذا اعتدي على طرف منه تقلص الجسم وارتعش، وانتفض انتفاضة تدمر الأعداء، ولكن شتان بين الأمس واليوم، وأين الثرى من الثريا؟ إن ملايين المسلمين اليوم من الرجال والنساء والأطفال يصرخون ليل نهار، في مشارق الأرض ومغاربها، وشمالها وجنوبها ووسطها، يصرخون وينادون بلسان الحال والمقال: وامعتصماه، ولكن هيهات هيهات، لا مجيب، يقول الشاعر عمر أبو ريشة:
أمتي كم غصة دامية خنقت نجوى علاك في فمي
تسمعي نوح الحزانى وتطربي وتنظري دمع اليتامى وتبسمي
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
لقد أصبح معظم المسلمين اليوم كالسائمة من بهيمة الأنعام التي يذبح الجزار من طرفها، وتفقد كل يوم فردًا من أفرادها، ومع ذلك فهي تأكل بكل طمأنينة وتجتر، وتعطي الدر بسخاء لمن يحد السكين لنحرها، لقد أصبح الكفار في هذا العصر أكثر موالاة مع بعضم من المسلمين مع بعضهم، وهذا ليس من قبيل التشهير؛ بل هو الواقع فعلًا، فإذا اعتدي على يهودي أو نصراني أو شيوعي قامت قيامة العالم كله، أما عندما يكون الضحية من المسلمين فإننا نرى التجاهل المفرط من المسلمين وأعداء الإسلام على حد سواء.
طاوس بن كيسان مع هشام بن عبد الملك:
ذكر ابن خلكان: «وحكي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجًا إلى بيت الله الحرام، فلما دخل الحرم قال: «إيتوني برجل من الصحابة»، فقيل: «يا أمير المؤمنين، قد تفانوا»، قال: «فمن التابعين»، فأتي بطاوس اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه، ولم يسلم بإمرة المؤمنين، ولم يكنه، وجلس إلى جانبه بغير إذنه، وقال: «كيف أنت يا هشام؟»، فغضب من ذلك غضبًا شديدًا حتى هم بقتله، فقيل: «يا أمير المؤمنين، أنت في حرم الله، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن ذلك»، فقال له: «يا طاوس، ما حملك على ما صنعت؟»، قال: «وما صنعت؟»، فاشتد غضبه له وغيظه، وقال: «خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: يا هشام، كيف أنت؟».
قال: «أما خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات فلا يعاتبني ولا يغضب علي، وأما ما قلت: لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل المؤمنين راضين بإمرتك، فخفت أن أكون كاذبًا، وأما ما قلت: لم تكنني، فإن الله عز وجل سمى أنبياءه، قال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: تبت يدا أبي لهب وتب، وأما قولك: جلست بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام»، فقال له: «عظني»، قال: «إني سمعت أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته»، ثم قام وخرج(26).
سعيد بن المسيب:
عن ميمون بن مهرانٍ قال: «قدم عبد الملك بن مروان المدينة فامتنعت منه القائلة واستيقظ, فقال لحاجبه: انظر هل في المسجد أحدٌ من حُدَّاثنا؟ فخرج, فإذا سعيد بن المسيب في حلقته, فقام حيث ينظر إليه ثم غمزه وأشار بإصبعه, ثم ولى، فلم يتحرك سعيد, فقال: لا أراه فطن، فجاء ودنا منه ثم غمزه, وقال: «ألم ترني أُشير إليك؟» قال: «وما حاجتك؟»، قال: «أجب أمير المؤمنين»، فقال: «إليَّ أرسلك؟»، قال: «لا, ولكن قال: انظر بعض حدَّاثنا، فلم أرَ أحدًا أهيأ منك».
قال: «اذهب فأعلمه أني لست من حُدَّاثه»، فخرج الحاجب وهو يقول: «ما أرى الشيخ إلا مجنونًا»، وذهب فأخبر عبد الملك، فقال: «ذاك سعيد بن المسيب فدعه»، فلله دَرُّهُ من إمامٍ في عزة نفسه وصدعه بالحق(27).
عبدالحميد الجزائري مع المندوب السامي:
استدعى المندوب السامي الفرنسي، في سوريا، الشيخ عبدالحميد الجزائري وقال له: «إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار، وإلا أرسلت جنودًا لإغلاق المسجد الذي تنفث فيه هذه السموم ضدنا، وإخماد أصواتك المنكرة».
فأجاب الشيخ عبدالحميد: «أيها الحاكم، إنك لا تستطيع ذلك»، واستشاط الحاكم غضبًا: «كيف لا أستطيع؟»، قال الشيخ: «إذا كنت في عُرسٍ هنأت وعلمت المحتفلين, وإذا كنت في مأتمٍ وعظت المعزين, وإن جلست في قطارٍ علَّمتُ المسافرين, وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين, وإن قتلتموني ألهبت مشاعر المواطنين, وخيرٌ لك أيها الحاكم ألا تتعرض للأمة في دينها ولغتها»(28).
العز بن عبد السلام مع رسول السلطان:
عندما قال له رسول السلطان: «بينك وبين أن تعود لمناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان وتُقبِّل يده لا غير», قال: «والله، يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلًا أن أقبل يده، يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به»(29).
الشيخ العلامة سعيد الحلبي مع إبراهيم باشا:
دخل إبراهيم باشا، ابن محمد علي حاكم مصر، المسجد الأموي في وقت كان فيه عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي يلقي درسًا في المصلين، ومر إبراهيم باشا من جانب الشيخ وكان مادًا رجله فلم يحركها، ولم يبدل جلسته، فاستاء إبراهيم باشا واغتاظ غيظًا شديدًا، وخرج من المسجد وقد أضمر في نفسه شرًا بالشيخ.
وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه، وما زالوا يؤلبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلًا بالسلاسل.
وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ حتى عاد إبراهيم باشا فغير رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبوابًا من المشاكل لا قبل له بإغلاقها.
وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال، فإذا قبله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد؛ يضمن ولاءه، ويسقط هيبته في نفوس السلمين فلا يبقى له تأثير عليهم.
وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلاميذه ومريديه.
وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه، فألقى السلام وقال للشيخ بصوت عال سمعه كل من حول الشيخ: «هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك»، ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير وقال له بهدوء وسكينة: «يا بني، عد بنقود سيدك وردها إليه وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده»(30).
موقف الإمام أحمد في فتنته:
لما قيل بخلق القرآن كان للإمام أحمد رحمه الله موقفًا مشهودًا، ألا وهو نفي هذه الشبهة, والقول بأن القرآن منزلٌ وليس مخلوق، ومن أجل ذلك أُوذِيَ وسجن وعُذِّبَ، فصبر وثبت على قوله، حتى أعزه الله وخرج من السجن معززًا مكرمًا مرفوع الرأس(31).
حماد بن سلمة:
عن مقاتل بن صالح الخرساني قال: «دخلت على حماد بن سلمة فإذا ليس في البيت إلا حصيرٌ وهو جالسٌ عليه، ومصحفٌ يقرأ فيه، وجرابٌ فيه علمه، ومطهرةٌ يتوضأ منها، فبينما أنا عنده جالسٌ إذ دقَّ الباب، فقال: يا صبية، اخرجي فانظري من هذا، فقالت: رسول محمد بن سليمان، قال: قولي له يدخل، فدخل فناوله كتابًا, فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة، أما بعد: فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته, وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها، والسلام.
قال: يا صبية هلمي الدواة, ثم قال لي: اقلب الكتاب واكتب، أما بعد: وأنت فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدًا، فإن كانت وقعت مسألة فأتنا واسألنا عما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك، ولا أنصح نفسي والسلام.
فبينما أنا عنده دق داق الباب، فقال: يا صبية، اخرجي فانظري من هذا؟ فقالت: محمد بن سليمان، قال: قولي له ليدخل وحده، فدخل فسلم ثم جلس بين يديه.
فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبًا؟ فقال حماد: سمعت ثابتًا البناني يقول: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله عز وجل هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكتنز به الكنوز هاب من كل شيءٍ»، فقال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه، قال: ارددها على من ظلمته بها، قال: والله، ما أعطيتك إلا ما ورثته، قال: لا حاجة لي فيها، ازوها عني زوى الله عنك أوزارك، قال: فتقسمها، قال: فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها: لم يعدل، ازوها عني زوى الله عنك أوزارك»(32).
هذه بعض الصور من العزة عند أجدادنا وسلفنا فأين عزتنا نحن؟ ولماذا كانوا عزيزين؟ الجواب واضح: لأنهم تمسكوا بالكتاب والسنة فأعزهم الله.
يقوم بعض الجهلة اليوم وبعض الأذلاء من المسلمين في خطوات تراجعية عجيبة في إلغاء التمييز بين المسلم والكافر، ويريدونها وحدة إنسانية، دمج بين الإسلام والكفر، يريدون محو الفوارق، كيف تمحو شيئًا قد فرق الله به بين المسلم والكافر، ويفتي بعض هؤلاء المنهزمين بتغيير الأسماء الإسلامية عن الكفار، فلا يسمون بأهل ذمة، ولا تؤخذ منهم جزية، وكذلك يفتون بأن هؤلاء الكفار تجوز تهنئتهم في أعيادهم، وتكتب لهم البطاقات، وأن مجاملتهم جائزة، وأن مناداتهم بالإخوة جائزة، ويقول لا حرج من أن نطلق على أحدهم: أخونا فلان، أو إخواننا النصارى، ونحو ذلك.
سمعنا كثيرًا من هذه الفتاوى التي تسبب القيء من المسلم العزيز في دينه، قيء من هذا الذل الذي أصاب بعض أصحاب العمائم، ذل حتى صارت فتاواهم تريد المساواة بين المسلم والكافر وإلغاء الشروط العمرية.
إن قضية الاغترار بالكفار؛ بأن عندهم أسبابًا من القوة المادية من السلاح، والمال، والاقتصاد، وغيره، والاختراعات، والتقدم، هذا نوع هزيمة نفسية؛ لأن هذا الشرك الذي عندهم يغطي على كل شيء حسن يمكن أن يكون لديهم، وهذه القوة زائفة؛ لأنهم يستمدونها من الشيطان، والغلبة عليهم قادمة ولا بد، وهم يعرفون ذلك، هم يعرفون بدراساتهم، وإحصاءاتهم أن المد الإسلامي سيستمر، وأن النصر للمسلمين قادم، وبحسب المعدلات فإنهم سينهزمون، وسيرجع المسلمون، ويعترف بعضهم بذلك خفية.
يريد كثير من المسلمين الحياة المادية الرغيدة بأي ثمن، ولو بالهوان للكفار، والتنازل للكفار، واسترضاء الكفار، والموافقة على مطالب الكفار، وشروط الكفار.
لا تسقني كأس الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
أي حياة تُرام في ذل الكفار، ولو كانوا يأكلون المأكولات العالية، والملبوسات العالية، والقصور الفارهة.
مسألة مهمة جدًا:
سعادة الروح في العزة بالإسلام، العزة بهذا الدين، وينظر المسلم المغلوب إلى غالبه من علٍ، وهو يعلم بأنها فترة مؤقتة تذهب، وأن للإسلام كَرَّة وسيعود، وأن الله يري في الواقع انتصارات، وإن كانت قليلة للمسلمين أو محدودة، دليل على أنه يمكن في المستقبل الهزيمة الشاملة للكفار إن شاء الله.
كتب الله العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين, وليست العزة كلامًا يقال, ولا استكبارًا على خلق الله, ولكن العزة الحقة شعور بالكرامة, وفعل ما يرفع الرأس ويعلي الهامة, فالخنوع والركون إلى المفسدين, وممالأة الأقوياء المستبدين إذلالٌ للنفوس, وضياع للكرامة, وضعف في الإيمان, عاقبته الحسرة والندامة, والنفاق والخداع والمداهنة وقبول الدنيا كلّها أمور تنافي العزة, وتغضب رب البرية.
***
_______________
(1) نزهة الأعين النواظر، ص434-435.
(2) المقصد الأسنى، ص73.
(3) نزهة الأعين النواظر، ص434-435.
(4) المصدر السابق، ص434.
(5) شعب الإيمان (2/ 247).
(6) أخرجه أبو داود (3462).
(7) أخرجه أحمد (5115).
(8) في ظلال القرآن (6/ 3580).
(9) أخرجه الترمذي (2254).
(10) تفسير الرازي (30/ 549).
(11) أخرجه البخاري (3817).
(12) أخرجه الحاكم (207).
(13) السلسلة الصحيحة (1/ 118).
(14) في ظلال القرآن (5/ 2931).
(15) إفادة الأخيار ببراءة الأبرار (1/ 38).
(16) الإسلام دين العزة، سعد البريك.
(17) موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (2/ 91).
(18) صور من حياة التابعين، ص380-381.
(19) مائة موقف من حياة العظماء، ص13-14.
(20) من مفاهيم ثقافتنا الإسلامية، مجلة جامعة أم القرى (العدد:21).
(21) سير أعلام النبلاء (2/ 14).
(22) السيرة النبوية، لابن كثير (3/ 202).
(23) نفح الطيب في محبة الحبيب، علي القرني.
(24) شبهات حول العصر العباسي، ص83.
(25) تاريخ الأمم والملوك، للطبري (10/ 352).
(26) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان (2/ 510).
(27) سير أعلام النبلاء (5/ 128).
(28) صور ومواقف من العزة، ملتقى أهل اللغة.
(29) طبقات الشافعية (8/ 244).
(30) موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (1/ 243-244).
(31) صور ومواقف من العزة، ملتقى أهل اللغة.
(32) صفة الصفوة (2/ 213).
(33) مجموع الفتاوى (15/ 426).