محاسبة الداعية نفسه
محاسبة النفس هي من أعلى اهتمامات أرباب القلوب الحية، وأولى أوليات ذوي الألباب الواعية، وذلك أنهم لما أدركوا أن الله تعالى مطلع على حركاتهم وسكناتهم وخطراتهم ولحظاتهم، وأنه يحصي ذلك عليهم، ثم إليه إيابهم، وعليه حسابهم، فعلموا أن من حاسب نفسه قبل يوم الحساب خف في ذلك اليوم حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومثابه.
ومن لم يحاسبها قبل ذلك طالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الورطات المهلكات سيئاته، فدامت حسراته ونداماته، ولن تغني عنه شيئًا ليتاته ولوّاته، ولن تخلصه اعترافاته واستغاثاته.
لما أدركوا ذلك تحققوا أنه لن ينجيهم إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة، فألزموا أنفسهم بذلك في الحركات والسكنات، واللفظات واللحظات والخطرات، واستدلوا لذلك بالآيات البينات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية:26]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة:6-8]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»(1).
محاسبة النفس تدفع الى المبادرة الى الخير، وتعين على البعد عن الشر، وتساعد على تدارك ما فات، وهي منزلة تجعل العبد يميز بين ما له وما عليه، وتعين العبد على التوبة، وتحافظ عليها بعد وقوعها، ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين، وسمة الموحدين، وعنوان الخاشعين.
فالمؤمن متق لربه، محاسب لنفسه، مستغفر لذنبه، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم، ومكرها كبير، وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء، ميالة إلى الهوى، داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك، توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان، من أطاعها قادته إلى القبائح، ودعته إلى الرذائل، وخاضت به المكاره، تطلعاتها غريبة، وغوائلها عجيبة، ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوى من جحيم، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات:37-41](2).
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا ليوم العرض الأكبر»، ثم يتلو قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله، فكان في آخر كتابه: «أن حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد مرجعه إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة، فتذكر ما توعظ به لكيما تنتهي عما ينهى عنه، وتكون عند التذكرة والعظة من أولي النهى»(3).
وعن وهب بن منبّه قال: «مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها، فيما يحل ويحمد، فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وإجمامًا للقلوب»(4).
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال ابن القيم رحمه الله: «فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تحرى بطبعها في ميدان المخالفة.
فالنعمة التي لا خطر لها الخروج منها، والتخلص من رقها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراءً عليها، ومقتًا لها»(5).
أسباب تعين الداعية على محاسبة نفسه:
(1) معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غدًا، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدًا.
(2) معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
(3) النظر فيما يئول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى، ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.
(4) صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم، ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
(5) النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.
(6) زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى، الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم.
(7) حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير؛ فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
(8) قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.
(9) البعد عن أماكن اللهو والغفلة، فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
(10) ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير.
(11) سوء الظن بالنفس ومقتها في جنب الله