logo

كذلك يضرب الله الأمثال للناس


بتاريخ : الأحد ، 4 محرّم ، 1442 الموافق 23 أغسطس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
كذلك يضرب الله الأمثال للناس

الأمثال هي وسيلة لتوصيل الفكرة بأقربِ طريق، وأقلِّ وقت، وأوضح صورة، وأبلغ مقال، ومن ثمَّ ترسيخ الفحوى، وفهم العبرة منه، واستيعابها واستقرارها في الذهن، وبقاؤها راسخةً في الذاكرة مهما طال الزمن، أو تغيَّر الحال.

والأمثال أسلوب تواصلي راق، ووسيلة تعليمية بديعة، تعشقها الفطر النقية، وتعقلها القلوب الزكية، وتحفظها العقول الذكية، فإن كانت الأمثال قرآنية أو نبوية كانت أعظم أثرًا، وأبلغ حكمة، وأجمل وصفًا وأعذب لغة، وأيسر فهمًا، وأصدق عبارة، لذلك تجد كتاب الله وسنة نبيه حافلتين بالأمثال.

ولقد ضرب الله لنا في القرآن أمثالًا متنوعة لم تكن قاصرةً على خلقٍ دون آخر؛ فقد يضربُ الله المثلَ في نباتٍ؛ كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24]، وقد يضرب الله المثلَ بحيوانٍ أعجم؛ كما ذكر عن الذي آتاه آياته فانسلَخَ منها، فأتبعَه الشيطان فكان من الغاوين، وذلك كقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وقد يضربُ الله مثلًاٍ بالإنسان، كما في قوله: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].

وفي السنة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في تعاطفهم، ومثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، ومثل المسلم، ومثل القائم على حدود الله والواقع فيها، ومثله ومثل الأنبياء من قبله، ومثله إذ ينذر قومه، ومثله إذ يأخذ بحجزهم لا يقعون في النار، ومثل ما أنزل الله من الهدى، وأمثالًا كثيرة يعلمنا بها ويزكينا صلى الله عليه وسلم.

فقد ضُربت الأمثالُ في القُرآن الكريم على وجوه؛ فمنها:

أولًا: إخراج الغامض إلى الظاهر: ولِما للأمثال من فوائدَ؛ امتنَّ الله تعالى علينا بقوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45]، قال الرازي: فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة، كما قدر على الابتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير (1).

وبقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، أي: وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه (2).

قال القفال: فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه (3).

قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (4).

وسُمِّي مثلًا؛ لأنه ماثلٌ بخاطر الإنسان أبدًا؛ أي: شاخص، فيتأسى به ويتَّعِظ.

ثانيًا: ويأتي المثل بمعنى الصفة؛ كقوله تعالى: {وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد، قاله قتادة، وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز (5).

وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35] ذلك في وصف الجنة ونعيمها، وقوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29]، في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين، وما يجب أن يكون عليه المؤمنون، قال ابن كثير: وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكًا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن (6).

ثالثًا: تشبيه المعنوي الخفي بالحسِّي، والغائب بالشاهد؛ كتشبيهِ الإيمان بالنور، والكفر بالظلمة، قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]، قال ابن عباس: نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة؛ فاستدفأ، ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة حائرًا متخوفًا، فكذلك حال المنافقين؛ أظهروا كلمة الإيمان فأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.

وقيل: ذهاب نورهم عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل ذهاب نورهم في القبر أو على الصراط.

فإن قلت ما وجه تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة؟ قلت: وجه تشبيه الإيمان بالنور أن النور أبلغ الأشياء في الهداية إلى المحجة القصوى وإلى الطريق المستقيم وإزالة الحيرة، وكذلك الإيمان هو الطريق الواضح إلى الله تعالى وإلى جنانه، وشبه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المسلوكة في الظلمة لا يزداد إلّا حيرة، وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه في الآخرة إلّا حيرة (7).

رابعًا: ويستعمل المثل لبيان الحال؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] (8).

قال الشيخ السعدي: أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارًا، أي: كان في ظلمة عظيمة، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره، ولم تكن عنده معدة، بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله، ونظر المحل الذي هو فيه، وما فيه من المخاوف وأمنها، وانتفع بتلك النار، وقرت بها عينه، وظن أنه قادر عليها، فبينما هو كذلك، إذ ذهب الله بنوره، فذهب عنه النور، وذهب معه السرور، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة، فذهب ما فيها من الإشراق، وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، والظلمة الحاصلة بعد النور، فكيف يكون حال هذا الموصوف؟

فكذلك هؤلاء المنافقون، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين، ولم تكن صفة لهم، فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم، وسلمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت، فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب، وحصل لهم ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها، وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار (9).

خامسًا: ويضرب المثل كنموذج للإعجاز، أو الأمر العَجيب، أو التحدي، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73- 74] (10).

أقسام الأمثال وأنواعها:

تنقسم الأمثال الى قسمين:

النوع الأول: الأمثال الظاهرة: وهي الأمثال التي صرَّح فيها القرآن الكريم بلفظ المَثَل، أو ما يدل على التشبيه، وهي كثيرة في القرآن، وسوف نذكر نماذج لبعضٍ منها:

قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، الآيات، ضرب فيها للمنافقين مثلين؛ مثلًا بالنار، ومثلًا بالمطر.

روى ابن أبي حاتمٍ عن ابن عباسٍ، قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، قال: هذا مَثَل ضربه الله للمنافقين، أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلَبَ صاحبَ النار ضوءَه"؛ (11).

{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] يقول: في عذابٍ، {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] هو المطر، ضرب مثله في القرآن {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} [البقرة: 19] يقول: ابتلاء، {وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] تخويف، {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] يقول: كلما أصاب المنافقون في الإسلام عزًّا، اطمأنوا، فإن أصاب الإسلامَ نكبةٌ، قاموا ليرجعوا إلى الكفر؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] (12).

وقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17].

روى ابن جرير الطبري عن ابن عباسٍ، قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، فهذا مَثَل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقينُ فينفع الله به أهلَه، وهو قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد: 17] وهو الشك، {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وهو اليقين، كما يجعل الحلي في النار، فيؤخذ خالصه، ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين، ويترك الشك (13).

روى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: هذه ثلاثة أمثالٍ ضربها الله في مَثَلٍ واحدٍ، يقول: كما اضمحل هذا الزَّبَد فصار جفاءً لا ينتفع به ولا ترجى بركته، كذلك يضمحل الباطل عن أهله كما اضمحل هذا الزَّبَد، وكما مكث هذا الماء في الأرض، فأمرعت هذه الأرض، وأخرجت نباتها، كذلك يبقى الحقُّ لأهله، كما بقي هذا الماء في الأرض، فأخرج الله به ما أخرج من النبات (14).

وقال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58].

روى ابن جرير الطبري عن ابن عباسٍ، قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58] فهذا مَثَل ضربه الله للمؤمن، يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب، ثم ضرب مَثَل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة، فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث (15).

وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266].

روى البخاري عن ابن عباسٍ قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمَ ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266]؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباسٍ: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي، قُلْ ولا تحقِرْ نفسك، قال ابن عباسٍ: ضُرِبت مَثَلًا لعملٍ، قال عمر: أي عملٍ؟، قال ابن عباسٍ: لعملٍ، قال عمر: لرجلٍ غنيٍّ يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعَث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (16).

الثاني: الأمثال الكامنة: هي الأمثال التي لم يصرح فيها القرآن الكريم بلفظ المَثَل، ولكنها تدل على معانٍ رائعة في إيجاز شديد، وسوف نذكر نماذج لبعضٍ منها:

قال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألتُ الحسين بن الفضل فقلتُ: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله: خير الأمور أوساطها؟ قال: نعم، في أربعة مواضع: قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].

قلت: فهل تجد في كتاب الله: مَن جهِل شيئًا عاداه؟ قال: نعم، في موضعين: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].

قلت: فهل تجد في كتاب الله: احذَرْ شرَّ مَن أحسنتَ إليه؟ قال: نعم، {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74].

قلت: فهل تجد في كتاب الله: ليس الخبر كالعيان؟ قال: في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

قلت: فهل تجد: في الحركات البركاتُ؟ قال: في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100].

قلت: فهل تجد: كما تَدين تُدان؟ قال: في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].

قلت: فهل تجد فيه قولهم: حين تقلي تدري؟ قال: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 42].

قلت: فهل تجد فيه: لا يُلدَغ المؤمن مِن جحرٍ مرتين؟ قال: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64].

قلت: فهل تجد فيه: مَن أعان ظالِمًا، سلط عليه؟ قال: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4].

قلت: فهل تجد فيه قولهم: لا تلد الحيةُ إلا حيةً؟ قال: قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].

قلت: فهل تجد فيه: للحيطان آذان؟ قال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].

قلت: فهل تجد فيه: الجاهل مرزوق، والعالم محروم؟ قال: {مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75].

قلت: فهل تجد فيه الحلال لا يأتيك إلا قوتًا، والحرام لا يأتيك إلا جزافًا؟ قال: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] (17).

وأما أنواع الأمثال فهي ثلاثة أنواع:

النوع الأول: التمثيل الرمزي: وهو ما يأتي على لسان الطيور والحيوانات والنبات، كقصة النملة مع سليمان عليه السلام، وقصة آدم عليه السلام مع الشيطان، فهي رموز لحقائق علوية.

النوع الثاني: التمثيل القصصي: وهو ما جاء ليبين أحوال الأمم وقصصهم للعبرة؛ كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].

النوع الثالث: التمثيل الطبيعي: وهو تشبيه غير الملموس بالملموس، والمتوهم بالمشاهد على أن يكون ذلك في الأمور التكوينية: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

وتلحظ من الأقسام والأنواع كيف أن القرآن ضرب الأمثال صريحة وغير صريحة، وبطرق وأساليب عديدة، رمزية وقصصية وطبيعية، وكأنه يقول للناس عرضت لكم الحق وبينته، ورددت الباطل وأزهقته وقربت لكم طريق الهداية، وجعلته ظاهرا لا لبس فيه، فلم يبق لأحد حجة في معرفة التوحيد وبطلان الشرك، ومعرفة الطاعة من المعصية والخير من الشر.

فوائد الأمثال:

للأمثال فوائد وثمرات يجنيها متدبرها والمتمعن في دلالاتها، حيث تأتي الأمثال مراعية لجوانب عديدة حسب الجانب الذي جاءت لأجله، فإن الأمثال تؤثر أكثر من الكلام المجرد؛ لأنها تقرب الصورة وتجلب الانتباه وتسخر الوهم للعقل، وترفع الحجاب عن القلوب الغافلة، وتؤلف المطلوب وتقربه.

يقول عبد القاهر الجرجاني: اعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أُبّهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفًا.

فإن كان ذمًّا: كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشدّ، وحدّه أحد.

وإن كان حجاجًا: كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.

وإن كان افتخارًا: كان شأوه أمدّ، وشرفه أجد ولسانه ألد.

وإن كان اعتذارًا: كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغَرْب الغضب أفلّ، وفي عُقد العقود أنفث، وحسن الرجوع أبعث.

وإن كان وعظًا: كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر أن يجلى الغياية ويُبصّـر الغاية، ويبريَ العليل، ويشفي الغليل (18).

أهم الفوائد للأمثال:

1- الأمثال تُظهر الشيء المعقول في صورة الشيء المحسوس الذي يلمسه الناس، فيتقبله العقل؛ لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الذهن إلا إذا صيغت في صورة حسية قريبة الفهم، كما ضرب الله مثلًا لحال المنفق رياءً؛ حيث لا يحصل من إنفاقه على شيء من الثواب، فقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264].

2- تكشف الأمثال عن الحقائق، وتعرِضُ الغائبَ في معرض الحاضر؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].

3- تجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة.

4- يضرب المثل للترغيب في الممثَّل؛ حيث يكون الممثَّل به مما ترغب فيه النفوس، كما ضرب الله مثلًا لحال المنفِق في سبيل الله حيث يعود عليه الإنفاق بخير كثير، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

5- يضرب المثل للتنكير؛ حيث يكون الممثَّل به مما تكرهه النفوس؛ كقوله تعالى في النهي عن الغِيبة: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

6- يضرب المثل لمدح الممثَّل؛ كقوله تعالى في الصحابة: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29].

وكذلك حال الصحابة؛ فإنهم كانوا في بَدْءِ الأمر قليلًا، ثم أخذوا في النمو حتى استحكَم أمرهم، وامتلأت القلوب إعجابًا بعظَمتهم.

7- يُضرَب المثل حيث يكون للممثَّل به صفةٌ يستقبحها الناس؛ كما ضرب الله مثلًا لحال مَن آتاه الله كتابه، فتنكَّب الطريق عن العمل به، وانحدر في الدنايا منغمسًا، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 175- 176].

8- الأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع، وقد أكثَر الله تعالى الأمثال في القرآن للتذكرة والعبرة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27].

وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

وضربها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثه، واستعان بها الداعون إلى الله تعالى في كل عصرٍ لنصرة الحق وإقامة الحجة، ويستعين بها المربون ويتخذونها مِن وسائل الإيضاح والتشويق، ووسائل التربية في الترغيب أو التنفير، في المدح أو الذم (19).

قال إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام:

إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة، وزاد ابن المقفع: والوسعة في شعوب الحديث (20).

والفائدة العظمى من الأمثال القرآنية التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

ففي الآية دلالة على أن الأمثال شواهد للمعنى المراد، وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته، من عقلها وفهمها يكون من العلماء الربانيين والأتقياء الأنقياء (21)

__________________

(1) مفاتيح الغيب (19/ 110).

(2) تفسير ابن كثير (6/ 279).

(3) تفسير القرطبي (14/ 256).

(4) تفسير ابن كثير (1/ 208).

(5) تفسير القرطبي (10/ 119).

(6) تفسير ابن كثير (7/ 360).

(7) تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 29).

(8) المعجزة القرآنية حقائق علمية قاطعة (ص: 198) بتصرف).

(9) تفسير السعدي (ص: 44).

(10) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص: 157).

(11) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 50).

(12) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/ 41).

(13) تفسير الطبري (16/ 410).

(14) تفسير الطبري (16/ 412).

(15) تفسير الطبري (12/ 497).

(16) أخرجه البخاري (4538).

(17) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/ 41- 43).

(18) أسرار البلاغة (ص: 101- 102).

(19) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان (ص: 397- 399).

(20) حاشية الطيبي على الكشاف (2/ 226).

(21) الأمثال في القرآن الكريم/ صيد الفوائد