logo

لماذا التطاول على النبي صلى الله عليه وسلم؟


بتاريخ : الثلاثاء ، 13 جمادى الآخر ، 1442 الموافق 26 يناير 2021
بقلم : تيار الاصلاح
لماذا التطاول على النبي صلى الله عليه وسلم؟

يكفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد جمَع له كمال الخَلق والخُلق، وفضائل الأقوال والأعمال، وشهِد بذلك المستشرقون المنصفون من أعداء الإسلام، واعتَبروه صلى الله عليه وسلم من أعظم الشخصيات، والحقُّ ما شهِد به الأعداء؛ يقول ول ديورانت - وهو من أصحاب الانطباعات غير الجيدة عن الإسلام ونبيِّه - ومع هذا يُقر بالعظمة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إذا ما حكَمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثرٍ، قلنا: إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقَت به في دياجير الهمجية حرارةُ الجو وجدْبُ الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يُدانه فيه أي مُصلح آخر في التاريخ كله (1).

ويسجل مستشرق آخرُ تأكيده على القوة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول مايكل هارت: إن اختياري لمحمد؛ ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظمُ تأثيرٍ عالمي في مختلف المجالات ربما أدهشَ كثيرًا من القرَّاء، ولكن في اعتقادي أن محمدًا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجَح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والسياسي (2).

سبب التطاول على رسول الله وأهدافُه:

أخبر القرآن الكريم أن هناك أعداءً للأنبياء وأهل الحق؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].

والأذى من الكافرين والمشركين والمعادين للحق سُنةٌ جارية؛ قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

وسبب هذا الأذى والتطاوُل على الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين يرجع إلى أمور منها:

الأول: الحسد:

فالحسد مرض نفسي، لَا يؤذي إلا صاحبه لأنه بمقدار ما ينال غيره من خير تتوالى آلامه، وخير الدنيا كثير فيزيد مرضه بمقدار ما يؤتى الناس من فضل، وقد قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].

قال ابن كثير: يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم.

عن ابن عباس، قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدًا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} الآية.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: أن رسولًا أميًا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال الله تعالى: {كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئًا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل عليهم وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم (3).

فهو بيان لما يضمرونه وما تكنه صدورهم للمسلمين من الحسد على نعمة الإسلام التي عرفوا أنها الحق، وأن وراءها السعادة في الدارين، ولكنهم شق عليهم أن يتبعوهم، فتمنوا أن يحرموا هذه النعمة ويرجعوا كفارًا كما كانوا، وذلك شأن الحاسد يتمنى أن يسلب محسوده النعمة ولو لم تكن ضارة به، فكيف إذا كان يعلم أن تلك النعمة إذا تمت وثبتت يكون من أثرها سيادة المحسود عليه وإدخاله تحت سلطانه، كما كان يتوقع علماء يهود في عصر التنزيل؟ وقد جاء هذا التنبيه تتمة لقوله تعالى قبل آيات: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105]، وقد بين الله لنا ما كان من محاولة أهل الكتاب وتحيلهم على تشكيك المسلمين في دينهم كقول بعضهم لبعض: بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره، لعل ضعفاء الإيمان يرجعون عن الإسلام اقتداء بهم، كما سيأتي في سورة آل عمران، وفي هذه الآية وما بعدها إشارة إلى أن لذلك بعض الأثر في نفوس بعض المسلمين.

وفائدة هذا التنبيه أو التنبيهات أن يعلم المسلمون أن ما يبدو من أهل الكتاب أحيانًا من إلقاء الشبه على الإسلام وتشكيك المسلمين فيه، إنما هو مكر السوء، يبعث عليه الحسد لا النصح الذي يبعث عليه الاعتقاد.

وقال: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} ليبين أن حسدهم لم يكن عن شبهة دينية أو غيره على حق يعتقدونه؛ وإنما هو خبث النفوس وفساد الأخلاق والجمود على الباطل، وإن ظهر لصاحبه الحق؛ ولذلك قفاه بقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} أي بالآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وبانطباق ما يحفظون من بشارات كتبهم بنبي آخر الزمان عليه (4).

ثانيًا: الصد عن سبيل الله تعالى:

هو بضاعة المفلسين، وسبيل المفسدين، وحِيلة المجرمين، هو باقٍ ما بَقِي للحقِّ صوتٌ وأعوان، وسيبقى الحقُّ ما بَقِي الليل والنهار، الصدُّ عن سبيل الله جرثومةٌ قديمة، زَرَعها الكفَّار؛ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، ثم تولَّى سقيها ورعايتها المنافقون؛ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [المجادلة: 16].

الصدُّ عن سبيل الله معركة متجدِّدة، وعداوة باقية، وأسلوبٌ متواصًى به، عُودِي به الأنبياء أزمانًا، واشتكى الصالحون منه دهورًا؛ {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].

 

وتأمَّل في قول الحقِّ سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال: 36].

 قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [محمد: 34]، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47].

وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].

وقوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 34].

ثم قال: ويصدون عن سبيل الله؛ لأنهم كانوا يقتلون على متابعتهم ويمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في الزمان، وفي زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يبالغون في المنع عن متابعته بجميع وجوه المكر والخداع.

قال المصنف رضي الله عنه: غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه، فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين، فالمال هو المراد بقوله: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، وأما الجاه فهو المراد بقوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} فإنهم لو أقروا بأن محمدًا على الحق لزمهم متابعته، وحينئذ فكان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة، وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والاتباع لمنهجه الصحيح (5).

يصدون الناس عن اتباع الحق، ويلبسون الحق بالباطل، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير، وليسوا كما يزعمون، بل هم دعاة إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون (6).

إن المعركة لن تكف، وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة، ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن، وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان، ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت (7).

ثالثًا: البغي والعدوان:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} [البقرة: 89- 91].

أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال: قالوا: فينا والله وفيهم -يعني في الأنصار- وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم، نزلت هذه القصة يعني: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، قالوا كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به (8).

قال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، أخو بني سلمة يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] (9).

رابعًا: ضَعف المسلمين وهَوانهم على الناس، فلا نرى التطاول إلا على المسلمين ومقدَّساتهم وثوابتهم ورُسل الله وأنبيائه -سواء بقتْلهم، أو سبِّهم وانتقاص حقِّهم- وكل ذلك بسبب ضَعف المسلمين الذي أدَّى إلى تداعي الأمم علينا -رغم كثرة عددنا- كما أخبر بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: «يُوشك أن تَداعى عليكم الأُمم من كلِّ أُفق، كما تداعى الأكلَة إلى قصْعتها»، قيل: يا رسول الله، فمن قلة يومئذٍ؟ قال: «لا، ولكنكم غُثاء كغثاء السَّيل، يجعل الوهَن في قلوبكم، ويَنزع الرعب من قلوب عدوِّكم؛ لحبِّكم الدنيا وكراهيتكم الموت» (10).

فإذا كنا نرى المؤمنين قد أُلقي في قلوبهم الرعب بدل الكافرين، فليس في هذا مخالفة لوعد الله؛ لأن بعض المسلمين في هذه الأيام وَالَوْا الكافرين على المؤمنين، وذلُّوا تحت ولايتهم واستخذوا لهم واستَعْدُوهم على أهل الإسلام، فنزع الله المهابة من أهل الإيمان، فكان ما كان، وشرط إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ألا نطيعهم، فقد وقعنا إذن في المنهي عنه في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَردّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149].

ولقد أطعناهم وواليناهم دون المؤمنين، ولم نتخذ الله مولى لنا، فخسرنا خسرانًا مبينًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله (11).

والهجوم الشَّرس الآن على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم هدفه بسبب تكالبنا على الدنيا، ولكن رُبَّ ضارة نافعة؛ وذلك لأن عند كل تطاوُل وهجوم، يَزداد إقبال الناس على الإسلام ونبي الإسلام؛ كي يتعرفوا عليهما أكثر، فيدخلوا في الإسلام، وكذلك فقد رفَض كثير من العُقلاء من غير المسلمين هذا الفعل الشائن، وتظاهروا مع المسلمين ضد هذا التطاول.

خامسًا: الخوف من قوة الإسلام وشموخه وسرعة انتشاره، وتأثُّر الناس به، ودخولهم فيه؛ لأنه لا يُرمى بالحجارة إلا الشجرة المُثمرة (12).

أغراض النيل من سيد البشر صلى الله عليه وسلم:

إن محاولة النيل من شخص النبي صلى الله عليه وسلم أمر قديم جدًا، بدأ أول الأمر مع كفار قريش حيث وصل بهم الأمر إلى محاولة قتله صلى الله عليه وسلم مرارًا دون أن ينجحوا في ذلك، لكن أغراض هذا الفعل تختلف اليوم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ميت منذ حوالي أربعة عشر قرنًا، لكن كونه لا يزال حيًا في الأمة بسنته وهديه، يثير حنق البعض إلى درجة محاولة تشويه صورته والكذب عليه، مما يستدعي النظر في مقاصد أصحاب هذه السلوكيات التي لم تعد مقبولة في زمن مست الحاجة فيه إلى احترام معتقدات الناس ورموزهم الدينية، خوفًا من الانزلاق إلى التطرف الذي يأتي كَرَدَّة فعل قد تكون لها نتائجُ وخيمة على التماسك الاجتماعي.

لقد أصبح الغرض من النيل من النبي صلى الله عليه وسلم يدور حول أمرين اثنين:

أولهما: إغاظة المسلمين واستفزاز مشاعرهم.

وثانيهما: الهرب من النقاش الأصلي.

إن الظرفية التي يطل فيها علينا بعض دعاة التحرر، لَتُؤكد هذا الأمر، فقد أصبحت الأعياد الدينية فرصة للنيل من معتقدات المسلمين؛ فهذا يخرج عليك في رمضان يصف مَن يأمر الناس بالصيام في زمن كورونا بالمشعوذين، واَخر خرج قبل ذلك، يصف عيد الأضحى بالتحالف التجاري بين تجار الدين وكبار الملاك الزراعيين ضد فقراء الوطن باسم خرافة كبش نزل من السماء، والعجيب أن هؤلاء ومن على شاكلتهم يدعون إلى حرية الضمير واحترام حقوق الإنسان؛ لكنهم في المقابل يعمدون إلى النيل من دين شعب عُرف بتشَبُّثِه بدينه منذ دخول الإسلام إلى أراضيه، مما يجعلهم أمام مأزق حقيقي تجاه التناقض الصريح بين ما يدعون إليه وما يفعلونه، وبالتالي فإن الظرفية التي يختارونها للجهر بمثل هذه الأقوال تبين أن الغرض منها هو إغاظة المسلمين واستفزاز مشاعرهم وضرب التماسك الاجتماعي الذي يتميز به المجتمع العربي.

لقد كانت مسائل الإيمان تناقش في حيز معروف بين مختلف الملل والنحل، تبدأ بمناقشة الوجود الإلهي مرورًا بالغيبيات وانتهاء ًبالنظر في بعثة الرسل، لكن الأمر اليوم أصبح مقلوبًا، حيث أصبح النيل من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص هو الأمر الأول على أجندة البعض، وبالتالي يتحقق لهم المقصد الثاني وهو الهروب من النقاش الأصلي حول مسائل الإيمان إثباتًا ونفيًا، لصعوبة الأمر على عدد كبير ممن يتخذ منهم السبَّ والشتم عادةً له في النقاش، إذ لا زاد لهم يؤهلهم لخوض ذلك النوع من النقاش العقدي الجاد.

إن هذا يقودنا إلى الوقوف على أن الغرض من هذا السب والشتم لسيد البشر صلى الله عليه وسلم ليس هو مناقشة هذا السلوك في بعده الفكري والاجتماعي، وإنما الغرض الأساس منه هو إغاظة المسلمين واستفزازهم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى زعزعة التماسك الاجتماعي وإذكاء التطرف بشكل مباشر أو غير مباشر.

لم يكن السب والشتم يومًا طريقًا حسنًا للتعبير عن الأفكار والآراء، بل ظل هذا النوع من الأفعال مذمومًا شرعًا وعقلًا لدى جميع الأمم، سواء صدر عن كبير أو صغير (13).

فمهما عَظُمَ هذا الكيد واستطال فهو حتمًا إلى وبال، فقد قال الله عز وجل: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 25]، أي: ذهابٍ وخسارٍ.

وبعد: فلن يُضعف عزيمة أهل الإيمان ما هم فيه من تَسُلط الكفار واعتزازهم بقوتهم، فإن الإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الدين.

فمتى يا ترى يفيق المسلمون من سباتهم؟! ومتى ندرك الخطر الذي حل بنا لما ضعف في أنفسنا وازع الدين، وانشغل كثير منا بشهواتهم وهان عليهم دينهم؟

ألسنا نعيش اليوم تصديق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلّط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (14).

قال الشوكاني رحمه الله: وسبب هذا الذل -والله أعلم- أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين؛ عاملهم الله بنقيضه وهو إنزال الذلة بهم (15).

 والأجدر بنا أن نتيقن أن ما نحن فيه من الذلة والهوان سببه الإخلال بحق الله عز وجل، فإنه لم يكن ليصيبنا ذلك إلا بما كسبت أيدينا، فمتى أردنا أن ينصرنا الله؛ فيجب علينا نصر الدين في أنفسنا، والأخذ بأسباب القوة فقد قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].

وسائل نصرة البي صلى الله عليه وسلم:

وإزاء هذا الحدث وأمثاله يجب الانتصار لنبينا صلى الله عليه وسلم ولديننا، ووسائل هذه النصرة كثيرة ومتنوعة من أهمها:

- تحقيق الإيمان بالله تعالى، وذلك بإفراده بالعبادة وإخلاص الأعمال له تعالى، وتحقيق الإيمان بأن محمدًا رسول الله، وذلك بتصديقه وطاعة أمره، واجتناب نهيه، والدعوة إلى دين الله.

- تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة النفس والأبوين والناس أجمعين، كما قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (16).

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال له عمر فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» (17).

قال الخطابي رحمه الله: معناه: لا تَصدُق في حُبي حتى تفني في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك (18).

وقال ابن رجب رحمه الله: يجب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين والأموال والمساكن، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة.

وعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق: أنه إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي: كان دليلًا على صحة محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وتقديمها على كل شيء، وإن قدم على طاعته وامتثال أوامره شيئًا من هذه الأشياء المحبوبة طبعًا؛ دلّ ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه (19).

- ومن وسائل نصرته صلى الله عليه وسلم: تصديقه في كل ما أخبر من أمور الغيب والوحي، وقبول أحاديثه، وتوقير سنته، والاهتداء بهديه، وتقديم قوله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد كائنًا من كان، والتأدب معه صلى الله عليه وسلم بالثناء عليه بما هو أهله، واستحضار محاسنه وفضائله، والتخلق بها، والدعوة إليها.

ومن ذلك: الذبّ عن عرضه صلى الله عليه وسلم، ودحض شبهات المفترين عليه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم (20).

- محبة آل بيته صلى الله عليه وسلم من أزواجه وذريته، والتقرب إلى الله تعالى بمحبتهم لقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم ولإسلامهم، ومن كان عاصيًا منهم أن نحرص على هدايته؛ لأن هدايته أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداية غيره، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلًا يا عباس، لإسلامك يوم أسلمت كان أحبَّ لي من إسلام الخطاب، وما لي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب (21).

إننا في الحقيقة لا نخاف على مقام النبي صلى الله عليه وسلم من جهالات السفهاء؛ لأن الله سبحانه يدافع عن رسوله ويعصمه، قال تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وقال سبحانه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، ولكننا نخاف إن قصرنا في نيل شرف الاتباع.

________________

(1) قصة الحضارة (13/ 47).

(2) قالوا عن الإسلام (ص: 145).

(3) تفسير ابن كثير (1/ 382- 383).

(4) تفسير المنار (1/ 346).

(5) مفاتيح الغيب (16/ 35).

(6) تفسير ابن كثير (4/ 138).

(7) في ظلال القرآن (3/ 1507).

(8) تفسير ابن كثير (1/ 325).

(9) تفسير ابن كثير (1/ 326).

(10) صحيح الجامع (8183).

(11) زهرة التفاسير (3/ 1450).

(12) واجب الأمة تجاه المتطاولين على الرسول صلى الله عليه وسلم/ الألوكة.

(13) النيل من النبي محمد صلى الله عليه وسلم: الأغراض والأساليب/ يقين.

(14) أخرجه أبو داود (3462).

(15) نيل الأوطار (5/ 234- 235).

(16) أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44).

(17) أخرجه البخاري (6632).

(18) النووي في شرح صحيح مسلم (2/ 15).

(19) فتح الباري (1/ 43- 44).

(20) هل نحن سبب التطاول على النبي صلى الله عليه وسلم/ نداء الإيمان.

(21) الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عيون غربية منصفة (ص: 198).