آفات المجالس
الإنسان لا بد له في حياته من معاملة الناس ومخالطتهم ومجالستهم؛ ذلك أنه لا يمكنه أن يعيش لوحده، بل إن المخالطة أمر لا مفر منه.
وهؤلاء الجلساء قد يكونوا صالحين مصلحين، وقد يكونون فاسدين مفسدين؛ فإن كان الجلساء صالحين؛ فإن المجالس ستكون مجالس خير وبركة وطاعة، وإن كان الجلساء فاسدين؛ فإن المجالس ستكون مجالس حسرة وندامة ومعصية؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة» (1).
فإذا ألقيت الضوء على أنواع مجالس الناس اليوم لرأيت الجالسين فيها قد اشتغلوا بالدنيا بتفاصيلها، فهم إن كانوا تجارًا؛ فإنك ترى أخبار المقاولات والبضائع، والأسعار، والبيع والشراء، والزبائن، ومشاكل العمل، هذا أمر طاغ على جلساتهم.
وإذا تأملت في مجالس الموظفين؛ لوجدت أمر الدوام ومشاكل المراجعين وأخبار الصحف، والأنظمة، والترقية، والبدلات، والتنقلات، والعلاوات، والانتدابات، هي الشغل الشاغل للجالسين فيها.
وإذا تأملت في مجالس طلاب المدارس والجامعات؛ لوجدتهم مشتغلين بتفاصيل الدراسة، والأسئلة، والامتحانات، والدرجات، والشهادات، والتخرج، والوظائف.
وإذا تأملت في مجالس النساء؛ وجدتهن مشتغلات بالموضات، والملابس، والأكلات، والزواجات، والحفلات، والأعراس، وحال الأسواق والمحلات إلى آخر ذلك من أنواع المجالس اليوم.
إننا لا نحرم، ولا نتكلم عن تحريم هذه الأمور مطلقًا، فإنه لا بأس أن تتكلم النساء في مجالسهن عن أخبار الزيجات مثلًا، أو يتكلم الموظفون عن المشاكل التي تواجههم في وظائفهم، أو يتكلم التجار عن المشاكل التي يواجهونها، ويتبادلون الخبرات.
هذا أمر لا بأس فيه؛ ولكن المذموم والمحذور الذي نتكلم عنه هو: أن يكون شغل الجالسين الشاغل من أول المجلس إلى نهايته، هو الكلام عن الدنيا، هو الكلام عن هذه الأشياء، لدرجة أنك لا تسمع في هذه المجالس آية واحدة، ولا حديثًا واحدًا، ولا حتى كفارة المجلس، ولا ذكرًا لله بأي صورة من الصور.
هذه الحالة الخطيرة التي نتكلم عنها الآن، الشغل الشاغل للناس في المجالس هو الدنيا، هذا إذا كان الكلام مباحًا، فالاشتغال في هذا المباح من أول المجلس إلى نهايته مذموم شرعًا، فكيف إذا كان الكلام في المجالس عن الأمور المحرمة شرعًا، والوقوع في كبائر الذنوب؟ كيف إذا كانت المجالس مجالس غيبة ونميمة، ونهش أعراض الناس، وأكل لحومهم؟ وقال الله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12].
كيف إذا كانت المجالس مجالس كذب وبهتان وسخرية؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يعضه بعضكم بعضًا» قال أبو محمد: العضه: النميمة (2).
كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بعباد الله عز وجل، وتنابز بالألقاب؟ والله يقول: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ}، ويقول: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11].
كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مليئة بالفسوق والتعيير، والسباب والشتائم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المستبان شيطانان يتهاتران، ويتكاذبان» (3).
كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس مدح، ومجاملات، ونفاق، ومداهنة؟ ورسول الله عليه السلام يصف مدح الرجل في وجه أخيه بأنه كقطع عنقه، وقال الله تعالى قبل ذلك: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32].
كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بالدين، واستهزاء بالمتمسكين به، وانتقاص من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مظهره، وأخلاقه، وآدابه؟
كيف إذا كانت المجالس اليوم مجالس استهزاء بشريعة الإسلام وأحكام الدين؟
مجالسنا مجالسنا فيها استهزاء بعباد الله بشتى الصور، فتجد رجلًا يقلد إنسانًا في صوته أو عادة من عاداته، فيقول: هذا فلان كأنه كذا، هذا فلان كأن كلامه كذا، كأن مشيته كذا، كأن ثوبه كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «ما أحب أني حكيت إنسانًا، وأن لي كذا وكذا» (4).
قال العلماء في شرحه: يعني لا أذكر إنسانًا أقلده بحركاته، وهيئاته على سبيل التنقص.
وقصة هذا الحديث: أن عائشة لما قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، قال غير مسدد: تعني قصيرة، فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنسانًا، فقال: «ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا» (5)، يعني: لخالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها(6).
فهنيئًا لمن كان جلساؤه صالحين مصلحين يستفيد من مجالستهم في دينه ودنياه؛ يعلمونه إذا جهل، ويذكرونه إذا نسي، ينبهونه إذا غفل، يحثونه على كل خير، ويحذرونه من كل شر، وبعدًا وسحقًا لما كان جلساؤه فاسدين مفسدين، يأمرونه بالمنكر، وينهونه عن المعروف، يدعونه ويشجعونه على كل رذيلة، ويثبطونه ويزهدونه عن كل فضيلة، فيا فداحة الخسارة لتلك المجالس ولأولئك الجلساء يوم العرض على رب الأرض والسماء؛ يقول الله تبارك وتعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
إن مجالسنا اليوم لتشكو التخمة من آفات الحديث ومساوئ الفعل، والناس فيها بين مستقل ومستكثر؛ فاكهة المجالس اليوم والحديث العذب فيها: الغيبة والنميمة، والسخرية والتحقير، والتعييب والتشهير، وحياكة المكائد وفتل حبال الشر، قذف وكذب، جدال وخصومة، سب وشتم، لعن وفحش، تنابز وتفاخر ولعب وعبث، وغير ذلك من الآفات.
حتى في طريقة الأكل والشرب في المجالس مخالفات كثيرة من الأكل والشرب باليسرى مثلًا، إلى عدم التسمية، إلى غير ذلك، حتى في طريقة النقاش والحديث تخالف قواعد الإسلام وآدابه، من رفع للصوت، وحدة وغلظة، ومقاطعة في الحديث، ويسبق الصغير الكبير في الحديث، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كبر كبر» (7).
أما عن مجالس النساء فيما بينهن؛ فحدث عن التعري والسفور والتشبه بالكافرات، وتضييع الأوقات واللهو واللعب، وتهذيب الحياء، فأين مجالس الخير والفضيلة والحشمة؟ لماذا أُعرض عنها واستعيض بها مجالس اللهو والخطيئة؟
فمجالسنا فيها كثير من المحرمات والمخالفات لشريعة الله تعالى، والتي منها:
الغيبة:
وهي ذكرك أخاك بما يكره، وهي محرمة في الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلّم لمّا سأل عن الغيبة قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلّم: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (8).
قال ميمون بن سيار: بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجي وقائل يقول: كل يا عبد الله، قلت: وما آكل؟ قال: كل بما اغتبت بعد فلان، قلت: والله ما ذكرت فيه خيرًا ولا شرًا، قال: ولكنك استمعت ورضيت، فكان ميمون لا يغتاب أحدًا ولا يدع أحدًا يغتاب أحدًا عنده (9).
وعن المسور أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوبًا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» (10).
وقد شاعت الغيبة في كثير من المجالس، ولا يخلو مجلس يجتمع فيه اثنان فما فوق إلا ويكون للغيبة فيه نصيب، فاستحلت بها الأعراض، ودنست بها الأطهار، وهدمت بها البيوت، والواجب على المسلم أن يحصن لسانه من لحوم الآخرين ولا يستحلها بقولٍ أو غيره، سوءًا كان ذلك في المجالس أو غيرها.
النميمة:
وهي نقل الكلام من شخص إلى آخر لقصد الإفساد بينهما، وهي من أشر الشرور، وأقوى الفتن التي تمزق المجتمع المسلم، وتشتت أفراده، وقد حرمها الله في كتابه العزيز، فقال: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، قال ابن كثير رحمه الله يعني: الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وهي الحالقة (11)، وصاحب النميمة يسمى نمامًا وهو بفعلته هذه لا يدخل الجنة صح عنه صلى الله عليه وسلّم قوله: «لا يدخل الجنة قتات» (12)، فينبغي لمن حُملت إليه النميمة أن لا يصدق حاملها، وأن ينصحه عن فعلته القبيحة تلك، وأن يبغضه في الله تعالى، وأن لا يظن في أخيه الغائب ظن السوء، لذا كان لزامًا على المسلم أن يبتعد عن هذه الصفة الذميمة، وأن يسعى في محاربتها، لما فيها من المفاسد العظيمة المترتبة عليها والوزر العظيم من رب السماوات والأرض.
السخرية:
ويدخل من ضمنها السب والشتم والقذف والغمز واللمز وغيرها من الأمور التي نهى عنها الشارع الحكيم قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]، وقال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (13)، وأكثر ما تجد السخرية والاستهزاء في أماكن الاجتماعات كالأسواق والأعراس والمجالس، فتجد البعض يسخرون من مشية فلان، ويستهزأ أحدهم بكلام الآخر، ولا يكاد يسلم من المستهزئة أحد، وهكذا حتى تخرجه تلك الأفاعيل إلى سيئ القول وبذاءاته، ومنكر الفعل ودناءته .
التناجي:
وهو الحديث الجانبي الحاصل بين اثنين بحضور ثالث وتسمى بالمهامسة وهي من الشيطان قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10]، ومعنى النجوى في الآية الكلام في السر، وقد حذر الإسلام منها مراعاة لشعور المسلمين، وإبعادًا عن حصول الشك والريبة بينهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» (14)، وقال في حديث آخر: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، أجل أن يحزنه» (15)، وكثيرًا ما نرى في المجالس بروز البعض عن الآخرين، واستقلالية الحديث، وكان من المفترض أن يكون ذلك التناجي بعيدًا عن الآخرين، احترامًا للمشاعر، وتقديرًا للأمر الإلهي، ومتابعة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
المزاح الخارج عن حدود الأدب:
سوءًا كان ذلك بالقول؛ كتداول الكلمات الساقطة، وتبادل العبارات السافلة، والتي لا تزيد الشخص إلا الإهانة والعار، ولا تلبسه إلا العيب والشنار، أو كان بالفعل؛ كالاعتراك بالأيدي بقصد إظهار القوة، أو الضرب والدفع من باب إظهار الصداقة والميانة، والإنسان مسؤول عن نفسه في أقواله وأفعاله فليكن دائمًا في الصورة الحسنة الجميلة، ولينزه نفسه عن كل منكر ورذيلة، ولا بأس بالمزاح المشروع الذي لا يؤدي إلى معصية، ولا يصل بصاحبه إلى الإثم المترتب عليها.
النصيحة الخاطئة:
من المعلوم أن المجتمع المسلم مجتمع مترابط يحرص كبيرهم على صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم، ودائمًا ما تسمع بين أفراده الوعظ والإرشاد، ومحاربة الفساد، وهذا أمر محمود في الشرع فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الدين النصيحة» (16)، فبالنصيحة تظهر المحبة، وتسود الألفة، وتتآلف القلوب، ولكن إذا خرجت من إطارها المحدود، وتجاوزت الحد المحدد لها فإنها لا تعد نصيحة، ولن يقبلها شخص، ولن يألفها مجتمع، ويكون ذلك عندما يقوم الناصح بتقديم نصيحته لشخص يعيّنه أمام الناس ويشهّر به، ويظهر بلاغته في الكلام على حساب ذلك المسكين عندها تكون النصيحة منكر عظيم لأنها تؤدي إلى التنافر بدلًا من التواصل، وإلى الكراهية بدلًا من المحبة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في نصحه لا يحدد، ولا يسمي أقوام بل كان يقول: «ما بال أقوام».
ومن أخطاء المجالس:
1- أن تقيم الرجل وتجلس مكانه:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقيمنّ أحدكم رجلًا من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا» (17)، وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه.
هذا الحديث يذكره المصنفون مع غيره من الأحاديث في آداب المجلس والجليس، ليبينوا فيها الآداب التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان في مجالسه.
وقد ذكر الله تعالى ذلك الأدب الرفيع في كتابه الكريم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه» (18)؛ يعني إذا دخلت مكانًا ووجدت المكان ممتلئًا فلا تقم شخصًا ثم تجلس في مكانه، ولكن إذا كنت لا بد أن تجلس فقل: تفسحوا وتوسعوا، فإذا تفسحوا وتوسعوا فإن الله تعالى يوسع لهم: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ}.
أما أن تقيم الرجل وتجلس مكانه فإن هذا لا يجوز، حتى في مجالس الصلاة، لو رأيت إنسانًا في الصف الأول فإنه لا يحل لك أن تقول له: قم، ثم تجلس في مكانه، حتى لو كان صبيًا لكن يصلي، فإنه لا يحل لك أن تقيمه من مكانه وتصلي فيه؛ لأن الحديث عام، والصبي لا بد أن يصلي مع الناس، ويكون في مكانه الذي يكون فيه.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» (19)، فهو أمر للبالغين العقلاء أن يتقدموا حتى يلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس نهيًا أن يكون الصغار قريبين منه، ولو كان أراد ذلك لقال صلى الله عليه وسلم: لا يلني إلا أولو الأحلام والنهى.
أما إذا أمر أن يليه أولو الأحلام والنهى، فالمعنى أنه يحثهم على التقدم حتى يكونوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم يلونه، ويفهمون عنه شريعته، وينقلونها إلى الناس.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما من ورعه إذا قام أحد له وقال له: اجلس في مكاني، لا يجلس فيه، كل هذا من الورع، يخشى أن هذا الذي قام قام خجلًا وحياء من ابن عمر (20).
2- ترك السلام عند الدخول إلى المجلس، وعند الخروج منه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» (21).
3- أن يفرق بين المتجالسين؛ فعن أبي عبد الله سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (22)؛ إلا في حالة إذا أذنا له بالجلوس بينهما فلا بأس، وإذنهما يكون بالقول وبالفعل؛ وذلك بأن يقولا له تعال فاجلس هنا، أو بالفعل بأن يوسعان له ليجلس بينهما؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما» (23).
إذا دخل الإنسان على جماعة فإن عليه أن يجلس حيث ينتهي به المجلس؛ فإن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل أصحابه؛ فكانوا إذا أتوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون حيث انتهى بهم المجلس؛ فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنَّا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي (24).
وجلوس الإنسان حيث انتهى به المجلس دليل على تواضعه، وبُعده عن الكبر والعجب.
4- أن يتناجى اثنان دون الثالث؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» (25)، وذلك إذا كانوا في مجلس لا يضم سوى ثلاثة أشخاص، والعلة في النهي عن ذلك أنه إذا تناجى اثنان دون الثالث فأن ذلك من الشيطان وهو مما يحزن الإنسان؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10].
قال المناوي رحمه الله مبينًا علة النهي التناجي: لأنه يوقع الرعب في قلبه، وفيه مخالفة لما توجبه الصحبة من الألفة والأنس وعدم التنافر، ومن ثم قيل إذا ساررت في مجلس فإنك في أهله متهم (26).
5- عدم أداء حق المجلس، من كف الأذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس في الطرقات»، قالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (27).
6- أن تحتوي تلك المجالس على مخالفات شرعية؛ كالغيبة والنميمة، والمراء والجدال والكفر والإلحاد، والغناء والمعازف والاختلاط وإثارة الغرائز والشهوات، وما إلى ذلك؛ قال الله تعالى لنبيه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].
أولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسًا يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى، يسمي ذلك تسامحًا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانًا بحرية الرأي، وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله؛ وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسًا بالضعف والهوان.
إن الحمية لله، ولدين الله، ولآيات الله، هي آية الإيمان، وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد؛ وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار، وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدًا، ثم تهمد، ثم تخمد، ثم تموت.
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله، فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة، وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق.
وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين -ذوي النفوذ- وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ، وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة، حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها، هو أولى مراحل الهزيمة، وأراد أن يجنبهم إياها، ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرًا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقًا، فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، وإلا فهو النفاق، وهو المصير المفزع، مصير المنافقين والكافرين (28).
7- إفشاء أسرار المجالس، وما ائتمنه عليه أصحابها، فإن إفشاء ذلك من الخيانة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما المجالس بالأمانة» (29).
8- الغفلة عن ذكر الله تبارك وتعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يقومون من مجلس، ولا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة» (30).
وعنه رضي الله عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه، ولم يصلوا على نبيهم فيه؛ إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم» (31).
9- ترك كفارة المجلس: فإن الإنسان إذا جلس مجلسًا مباحًا ثم كثر فيه لغطه، وكثرت غفلته، وقل ذكره لربه؛ فإن عليه كفارة ذلك المجلس؛ وهي ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» (32)، فالسنة أن يدعو بهذا الدعاء في أي مجلس جلسه.
إن لكل شيء زينة، وزينة المجالس آدابها، ومجالس بلا آداب، مجالس غوغاء وصخب ولهو (33).
___________________
(1) أخرجه البخاري (5534)، ومسلم (2628).
(2) أخرجه الطيالسي (581).
(3) أخرجه ابن حبان (5726).
(4) أخرجه أبو داود (4875).
(5) المصدر السابق.
(6) كيف تكون مجالسنا إسلامية/ محمد صالح المنجد.
(7) أخرجه البخاري (3173).
(8) أخرجه مسلم (2589).
(9) تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل (4/ 183).
(10) أخرجه أبو داود (4881).
(11) تفسير ابن كثير (8/ 191).
(12) أخرجه البخاري (6056).
(13) أخرجه البخاري (48).
(14) أخرجه البخاري (6288).
(15) أخرجه البخاري (6290).
(16) أخرجه مسلم (55).
(17) أخرجه ابن خزيمة (1822).
(18) أخرجه البخاري (6269).
(19) أخرجه الترمذي (228).
(20) شرح رياض الصالحين (2/504- 505).
(21) أخرجه أبو داود (5208).
(22) أخرجه البخاري (883).
(23) أخرجه أبو داود (4845).
(24) أخرجه أبو داود (4825).
(25) أخرجه البخاري (6288).
(26) فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/430).
(27) أخرجه البخاري (6229).
(28) في ظلال القرآن (2/ 781).
(29) صحيح الجامع (2330).
(30) أخرجه أبو داود (225).
(31) أخرجه الترمذي (2691).
(32) أخرجه الترمذي (2730).
(33) آداب المجلس والجليس/ إمام المسجد، بتصرف