logo

مجابهة الطغاة


بتاريخ : الأحد ، 7 ذو الحجة ، 1436 الموافق 20 سبتمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
مجابهة الطغاة

إن السعادة والأمان في مقاومة الطغيان, فلولا الحرية والأمان لكان الإنسان أشبه بالحيوان المفترس, وليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثًا جديدًا, أو طارئًا غريبًا، وإنما هي فطرة الله التي فطر الناس عليها, فالإنسان الذي يمد يديه لطلب الحرية ليس بمتسول ولا مستجد؛ وإنما هو يطلب حقًا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية, فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه, ولا يد لأحد عنده, فلطالما تغول الإنسان القوي على الضعيف فَرَوَّعه, فجعل من نفسه حارسًا يتابع أعمال غيره، فيراقب حركات يديه, وخطوات رجليه, وحركات لسانه, وخطرات وهمه وخياله, لا لمنفعة أو مصلحة يقرها الشرع ويرضى بها الحق, ولكن ليسلب من الإنسان حريته, ويجعل من الآخرين أسرى لاستبداده, والجناية التي تنتج عن فقدان تلك الحرية كبرى, والحر من الناس من يدافع عن حريته, ويرحم الله شوقي حيث يقول:

ومن العقول جداول وجلامد       ومن النفوس حرائر وإماء(1).

الطغيان آفة من الآفات التي تنزل بالأقوام والشعوب فتدمر كيانها، وتهلك أهلها، وتأتي على الأخضر واليابس فيها، وحين يزداد الطغيان بين الناس، وتستشري شروره، ثم يركن الناس إلى الطغاة، ويستمرئون الخضوع والاستكانة لمظالمهم وطغيانهم، يعمهم الله بالعذاب، ويحاسبهم على ذلك محاسبته للطغاة أنفسهم.

والطغيان أمر لا ينبغي أن يكون، ولا أن يبقى، إنه أمر كريه، مفسد للأرض، مخالف لما يحبه الله، مؤد إلى ما يكره...، إنه أمر كريه شديد الكراهية، حتى ليخاطب الله بذاته عبدًا من عباده ليذهب إلى الطاغية، فيحاول رده عما هو فيه، والإعذار إليه قبل أن يأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىَ} [النازعات:17].

فالطاغية، وهو فرد، لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها، وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة، ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئًا، وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبدًا، وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبدًا، وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به، وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضرًا ولا رشدًا.

فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، وما كان ليقولها أبدًا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء، وإن يسلبه الذباب شيئًا لا يستنقذ من الذباب شيئًا(2).

سمات الطاغية:

ومن استعراض آيات القرآن يتبين لنا كثير من سمات مَنْ يكون فرعوني النهج، ومن أهمها:

أولًا: أنه يجعل من نفسه معبودًا من دون الله عز وجل يتحكم بالناس، ويأمرهم أن يطيعوه، ويشرع لهم ما يراه متفقًا مع أهوائه ومصلحته، ويدعي أنه الخير لهم.

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ} [القصص:38]، وقال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ (52)} [لزخرف:51-52].

وهذا الادعاء ناتج عن الغرور بما أعطاه الله من الملك، والمال، والقوة، والنعيم، والحاشية، والأتباع.

ولكن ذلك مقترن أيضًا بخضوع الناس للطاغية، وسكوتهم عن مظالمه، وخوفهم من سطوته وجبروته، وانكبابهم على الأمور المادية، والمنافع الدنيوية، ونسيانهم لآخرتهم مما يجعلهم مستعبَدين للظالم، وأتباعًا للطاغية، كما فعل أتباع فرعون وقومه.

ثانيًا: أنه يفتخر بما يملك من مال، أو قوة، أو ملك، أو تقدُّم مادي، وينسى مصدر ذلك كله، وينسبها لنفسه معتمدًا على حب الناس لمتاعالدنيا، ولذلك افتخر فرعون بأنه يملك الأرض الخضراء، ولديه الماء والأنهار والسلطان: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].

وعندما أراد أن يقنع قومه بأنه المعبود لهم من دون الله، وأن دعوة موسى عليه السلام لا تنفعهم ولا تفيدهم، استخدم هذا الأمر الذي يملك أفئدتهم، ويسد عليهم طريق الهدى فقال: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53].

هذا الزهو والتزاهي، واحتقار الآخرين مع أكل حقوقهم، وسلب مقدراتهم وإراداتهم، هو الفساد بعينه، قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)} [الفجر:10-12].

والناس المضلَّلون، الذين استعبدهم الطغاة وأذلوهم حتى أفسدوا فِطَرَهم، يستجيبون لمثل هذه المغريات، ويذعنون لحواسهم القاصرة، وينكرون ما لا تصل إليه حواسهم، ويعطلون عقولهم.

ثالثًا: الطغاة ينكرون الغيبيات ويعادونها؛ لأن ذلك يتعارض مع ما يريدون، ولأن إيمان الناس بالغيب يحررهم من أسر العبودية لجبروت الظالمين، ويفسح أمامهم النظر في ملكوت الله عز وجل، فيعرفون أن هناك مالكًا قديرًا، وأن هؤلاء الطغاة بشر مخلوقون مثلهم، انحرفوا عن شرع الله، وتجبروا وظلموا، وأنهم سوف يمضون بعد حين ليواجهوا مصير العذاب؛ لأن الله وحده يملك المصير، ويملكالموتوالحياة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ (11)} [آل عمران:10-11].

رابعًا: أنه يكذب بآيات الله، ويعادي الرسل والدعاة وأولياء الله عز وجل، وينكل بهم، ويرميهم بشتى التهم والأباطيل، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)} [يونس:75-77].

ولا تنفع الوسيلة الليِّنة، والخطاب الشفوق مع الطاغية؛ لأنه متجبر لا يصغي لغير نفسه،
ها هو موسى وهارون عليهما السلام يخاطبان فرعون بالخطاب اللين الرشيد، ولكنه تجبر وتكبر، وأرعد وأزبد، وهدد كل الخارجين على سلطانه.

{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه:43-44].

ثم إن الطاغية لا يستمع للبرهان القاطع، ولا يصغي للحجة المقنعة، ولا يفهم معنى الآيات الدالات والمعجزات الباهرات؛ بل يقابل ذلك بالتجبر والتهديد، ورمي أولياء الله بشتى التهم كما فعل فرعون عندما حاجَّه موسى، وبيَّن له أن الله المعبود حقيقة هو الخالق المدبِّر: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ} [الشعراء:23]، {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ  وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [الشعراء:24]، {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، {قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28].

فماذا كان رد فرعون عندما واجهه موسى عليه السلام بهذه الحجج التي لا يملك ردها؟ لقد هدده وتوعده فقال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].

خامسًا: الطاغية يلجأ إلى كل المحاولات الظالمة للتنكيل بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله، ولا يمنعه شيء من ارتكاب كل جريمة مهما بدت منافية للخلق والمنطق، {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ (26)} [غافر:25-26](3).

مع أن هؤلاء المؤمنين ما نازعوا فرعون في ملكه، وما نادوا بالخروج عليه، وإنما أعلنوا إيمانهم، وأظهروا شعائر دينهم، فما احتمل هذا الدينَ الطغيانُ الفرعوني، {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60]، ومع هذه القسوة في التعذيب والاضطهاد في الدين: {مَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83].

سادسًا: ادعاؤه معرفة الحقيقة، فرأيه هو الصواب دائمًا، وقوله هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والويل ثم الويل لمن خالف أمره ورأيه، قال فرعون مفاخرًا ومتعاليًا: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].

هذا الرأي الفرعوني كان يلاقي كل مدح ومديح، فكل أمر عنه فهو عظيم، وكل قرار، ولو كان سفكًا للدماء، فلا يصدر إلا من حكيم؛ ولذا كان من شقاء فرعون أنه كان محاطًا بحاشية سيئة، وبطانة متملقة أكالة، تزين له المنكر، وتحضه على الشر، فقالت تلك البطانة عن موسى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:109]، وقالت محرضة: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127].

سابعًا: التشويه الإعلامي للخصوم، سياسة فرعونية قديمة، فحين استجاب من استجاب لدعوة موسى وآمن السحرة وعذِّبوا، أرسل فرعون أبواقه في الآفاق محذرًا من موسى وأتباعه، ومقللًا من شأنهم، قال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)} [الشعراء:53-56].

ومن سياسة الطغيان الفرعوني في مواجهة الحق شراء الذمم بالمال، والإغراء بالوجاهة والمناصب، قال تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)} [الأعراف:113-114].

ثامنًا: المجادلة واللجاجة في الباطل، فقد قص علينا القرآن كثرة جدال فرعون مع ضعف حجته وسفاهة رأيه، فقال لموسى مجادلًا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، وقال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51]، وقال: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101]، هذه المجادلة ليست بقصد الوصول إلى الحق، وإنما بقصد رد الحق وإضعافه، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].

تاسعًا: تهديد الخصوم بالسجن، وملء المعتقلات بالمظلومين، فحين جادله موسى في الربوبية، وبطلت حجته وانقطعت، جاء التهديد الفرعوني بقوله: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].

يتغنى فرعون بالوطنية {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}، ثم هو يحارب أبناء وطنه وشعبه، تارة بالقتل، وتارة بالسجن، وتارات بالفقر والجوع، ونشر الفرقة بينهم؛ {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}.

هذه السياسة الفرعونية، بقهرها وقبضتها الحديدية، جعلت من فرعون صنمًا مطاعًا طاعة عمياء، طاعة طمعًا في الدنيا، ولأجل العاجلة، هذا الانحراف في الطاعة عبر عنه القرآن بالاستخفاف، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54](4).

أسباب الطغيان:

بالنظر إلى تناول القرآن لأحوال الطغاة وممارستهم للطغيان قديمًا وحديثًا، يجد المرء أن لهذا الداء العضال أسبابًا متعددة، كأي مرض آخر حسي أو معنوي، وهذا ما تشير إليه الدراسات والبحوث الحديثة التي أجريت عن نفسية الطغاة, والأسباب التي تجعل من الطاغية وحشًا ضاريًا.

وقد أشار القرآن الكريم في معرض تناوله لأحوال الطغاة وإدانة أعمالهم إلى تلك الأسباب؛ التي دفعت بأصحابها إلى ممارسة هذه الظاهرة القديمة الحديثة، وبالتدقيق في هذه الأسباب يُستخلص منها أنها تنقسم إلى قسمين: داخلية وخارجية، ونعني بالداخلية تلك الإشكالات النفسية التي غزت باطن هذا الطاغية، وأخذت بمجامع قلبه حتى أسوّد قلبه بدخانها؛ فدبّ إلى قلبه من سمومها وآفاتها ما دفعه إلى الطغيان، وأما الخارجية فنعني بها تلك الظروف والأجواء التي هيأت له المناخ المناسب لممارسة طغيانه وعتوّه، وساعدت في طول أمده وبقاء سيطرته.

ويرجع إلى هذين النوعين معظم ممارسات الطغاة التي صنعت الطواغيت وأوجدتهم، وهي في ذات الوقت القاسم المشترك والجامع لكل طاغية على وجه الأرض.

أسباب الطغيان الداخلية:

1-الكبر والعلوّ:

ويكاد يكون هذا السبب الجامع الرئيس بين الطغاة، ويصنف على رأس أوّليات أسباب الطغيان، وأبرز الشخصيات التي تمثل هذا السبب على الإطلاق شخصية الطاغية فرعون؛ الذي اجتمعت فيه كل أسباب الطغيان الداخلية والخارجية، ومارس كل صنوف الطغيان بحق قومه، قال الله سبحانه عن فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص:4]، وقال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [القصص:39].

2- العجب والغرور:

وهذه آفة الطغاة في عتوهم وتجبرهم، وعدم قبولهم الحق والانصياع له، ولذلك قال الله عز وجلحاكيًا حال قوم عاد لما طغوا وتكبروا على ربهم ثم على نبيهم بقوله: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]، ومن صور مباهاة الطاغية فرعون ومفاخراته أن جعل يستحقر الآخرين ويعيبهم عجبًا وغرورًا، فقال عن موسى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].

3- الحقد والحسد:

وهو الداء الذي يحرق قلب صاحبه إذا ما رأى لله على غيره منّة أو أسبغ عليه نعمة؛ فيدفعه ذلك إلى ممارسة الطغيان، وهذا كان سبب طغيان اليهود ورفضهم قبول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم،مع أنه مكتوب عندهم في التوراة، فقد أنكر الله عليهم حسدهم لرسوله صلى الله عليه وسلمعلى الرسالة، وحسدهم لأصحابه على الإيمان، قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، ولا شك أن ذلك ناتج عن الحقد والحسد لرسول الله،قال سبحانه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64].

أسباب الطغيان الخارجية:

1- الملك والسلطة:

وهي من أعظم الأسباب الباعثة على الطغيان، وبالأخص منهم طغاة الحكم والسياسة، ولذلك ذكر الله في القرآن الملك النمرود الذي طغى وتجبر، حتى وصل به الأمر أن ادعى الربوبية، وكان الباعث له على ذلك الملك والسلطة، قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، وهذا فرعون يبرر فجوره وعلوه في الأرض كما حكى القرآن عنه، يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].

2- المال والولد:

وذلك إذا ضعف من قلب صاحبه الإيمان والتقوى، وشعوره بفقره وحاجته إلى الله، يقول تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7]، والولد كذلك قد يؤدي بوالديه إلى الطغيان إن كان كافرًا، وذلك بدافع حبهما له، يقول تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80]، ولما كان المال مفضيًا لما ذكرت من الطغيان فإن من دعاء موسى