logo

وفي سبيل الله


بتاريخ : الأحد ، 9 محرّم ، 1441 الموافق 08 سبتمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
وفي سبيل الله

السبيل في اللغة: الطريق وما وضح منه، وسبيل الله طريق الهدى الذي دعا إليه، والإنفاق في سبيل الله: بذل النفقة في وجوه الخير، وفي قول الله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، يقصد به أحد مصارف الزكاة الثمانية، وهو {وَفِي سَبِيلِ اللهِ}؛ أي: للغزاة، أو ما يشمل وجوه الخير.

وفسر قول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:195]، بمعنى: الإنفاق في وجوه الخير، قال ابن منظور: «في الجهاد وكل ما أمر الله به من الخير فهو من سبيل الله؛ أي من الطرق إلى الله، واستعمل السبيل في الجهاد أكثر؛ لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين، وقوله: {فِي سَبِيلِ اللهِ} أريد به الذي يريد الغزو ولا يجد ما يبلغه مغزاه، فيعطى من سهمه، وكل سبيل أريد به الله عز وجل وهو بر فهو داخل في سبيل الله»(1).

ويطلق أيضًا بمعنى: التصدق بعمل تحبيس المال (الوقف) على جهة خير، قال ابن منظور: «وإذا حبس الرجل عقدة له وسَبَّل ثمرها أو غلتها فإنه يسلك بما سبل سبيل الخير، يعطى منه ابن السبيل والفقير والمجاهد وغيرهم.

وسَبَّل ضيعته: جعلها في سبيل الله، وفي حديث وقف عمر: (احبس أصلها، وسبل ثمرتها)؛ أي: اجعلها وقفًا وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه، وسبلت الشيء إذا أبحته، كأنك جعلت إليه طريقًا مطروقة»(2).

قال ابن الأثير: «وقد تكرر في الحديث ذكر سبيل الله، وابن السبيل، والسبيل في الأصل الطريق، والتأنيث فيها أغلب، قال: وسبيل الله عام؛ يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى، بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه»(3).

ونجد في قول الله عز وجل: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ}، خلاف بين أهل العلم رحمهم الله على رأيين:

الرأي الأول: أن المراد بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} هو الجهاد، واختلف أهل العلم رحمهم الله، الذين قالوا بهذا القول، على قولين؛ ما المراد بالجهاد: هل هو خاص بالجند الذين لا رزق لهم من بيت المال، أو أنه يشمل كل ما يتعلق بالجهاد؛ من شراء الأسلحة، وأماكن التدريب، ورزق الجند وغير ذلك، وهذا الأخير هو الصواب.

الرأي الثاني: أن المراد بسبيل الله هو كل ما يتعلق بطرق الخير؛ من الجهاد، ومن طباعة الكتب، ومن الدعوة إلى الله عز وجل، وتعبيد الطرق... إلى آخره.                    

قال المراغي: «وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير؛ من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، ونحو ذلك.

والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة، التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد؛ كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب»(4).

واستدل القائلون بأن المراد بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} هو ما يتعلق بالجهاد أن الله عز وجل حصر فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، ولو قلنا بأنه شامل لكل طرق الخير لم يكن لهذا الحصر فائدة.

قال الرازي: «وقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} قال المفسرون: يعني الغزاة، قال الشافعي رحمه الله: (يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنيًا)، وهو مذهب مالك وإسحاق وأبي عبيد، وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم الله: (لا يُعطى الغازي إلا إذا كان محتاجًا).

واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} لا يوجب القصر على كل الغزاة، فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير؛ من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد، لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} عام في الكل»(5).

وقال ابن الأثير: «فالسبيل في الأصل الطريق، ويذكر ويؤنث، والتأنيث فيها أغلب، وسبيل الله عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريقًا للتقرب إلى الله تعالى، بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه»(6).

كما بين القرضاوي في فقه الزكاة، ما مفاده أن لفظ (سبيل الله) قد يطلق ويراد به المعنى العام الشامل لكل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262]، فذِكْر المن والأذى دالٌ على أنه إنفاق على الفقراء لا على الغزاة.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]، فالمراد المعنى الأعم؛ لئلا يكون المنفق لماله على الفقراء واليتامى وابن السبيل من الكانزين المستحقين للعذاب.

وقد يطلق ويراد به المعنى الخاص؛ وهو نصرة دين الله، ويميز هذا المعنى عن سابقه وروده بعد الجهاد والقتال؛ كقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:244]، {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:218]، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]، فالسياق دال على أن المراد هو نصرة دين الله وأوليائه(7).

قال الدكتور عمر الأشقر: «وقد أظهرت الدراسة التي أجريناها على جميع النصوص التي ورد فيها لفظ (في سبيل الله)، في القرآن وعلى جملة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، صحة استقراء جمهور العلماء الذين قصروا مصرف (في سبيل الله) في آية الزكاة على الجهاد؛ لأن لفظ (في سبيل الله) إذا أطلق في مصطلح الكتاب والسنة يراد به الجهاد...

ولكن ينبغي أن يعلم أن دائرة الجهاد لا تقتصر على القتال فحسب؛ بل تشمل كل مجالات الصراع بين المسلمين والكفار على النحو الذي بيناه فيما سلف»(8).

وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}  [النحل:125]، وأن يعلن في الناس {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].

وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت، وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله، وقد قال الله تعالى مقارنًا بين الطريقين وأصحابهما: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76].

وسبيل الله دعاته قليلون، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال:36]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان:6]، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام:116]، هذا إلى جانب أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه، ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص:26].

وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم، وينفقوا أموالهم في سبيل الله، وهذا ما فرضه الإسلام، فجعل جزءًا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في سبيل الله(9).

الإنفاق في سبيل الله:

الإنفاق في سبيل الله هو بذل الخير ابتغاء مرضاة الله، وهو من أسباب مضاعفة الأجر، قال الله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].

وقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:60]، يبين أن الحكمة في إيجاب الزكاة أمور، بعضها مصالح عائدة إلى معطي الزكاة، وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة.

مصالح عائدة إلى معطي الزكاة:

الأول: أن المال محبوب بالطبع، والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال، محبوبة لذاتها ولعينها لا لغيرها؛ لأنه لا يمكن أن يقال إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر، وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور، وهما محالان، فوجب الانتهاء في الأشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوبًا لذاته.

والكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته، فلما كانت القدرة صفة كمال، وصفة الكمال محبوبة لذاتها، كانت القدرة محبوبة لذاتها، والمال سبب لحصول تلك القدرة، ولكمالها في حق البشر، فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال، والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب، فكان المال محبوبًا، فهذا هو السبب في كونه محبوبًا.

إلا أن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة؛ فاقتضت حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده؛ ليصير ذلك الإخراج كسرًا من شدة الميل إلى المال، ومنعًا من انصراف النفس بالكلية إليها، وتنبيهًا لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال، وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى، فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة، وهو المراد من قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]؛ أي: تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا.

والوجه الثاني: وهو أن كثرة المال توجب شدة القوة وكمال القدرة، وتزايد المال يوجب تزايد القدرة، وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سببًا لحصول هذه اللذات المتزايدة، وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور؛ لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال؛ وذلك يوجب ازدياد القدرة؛ وهو يوجب ازدياد اللذة؛ وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال، ولما صارت المسألة مسألة الدور لم يظهر لها مقطع ولا آخر، فأثبت الشرع لها مقطعًا وآخر؛ وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى؛ ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظَّلْمَانِيِّ الذي لا آخر له، ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه.

والوجه الثالث: أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب، وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة، والقدرة محبوبة لذاتها، والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه، فالإنسان يصير غرقًا في طلب المال، فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع، وهذا هو المراد بالطغيان، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق:6-7]، فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان، ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن.

والوجه الرابع: أن النفس الناطقة لها قوتان، نظرية وعملية، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله، فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال، وهو اتصافه بكونه محسنًا إلى الخلق، ساعيًا في إيصال الخيرات إليهم، دافعًا للآفات عنهم.

والوجه الخامس: أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعيًا في إيصال الخيرات إليهم، وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع، ومالت نفوسهم إليه لا محالة.

فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر، أمدوه بالدعاء والهمة، وللقلوب آثار وللأرواح حرارة، فصارت تلك الدعوات سببًا لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].

والوجه السادس: أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء، فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام؛ ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق، والاستغناء بالشيء صفة الخلق، فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده أموالًا كثيرة فقد رزقه نصيبًا وافرًا من باب الاستغناء بالشيء، فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء إلى المقام الذي هو أعلى منه وأشرف منه، وهو الاستغناء عن الشيء.

والوجه السابع: أن المال سُمِّي مالًا لكثرة ميل كل أحد إليه، فهو غاد ورائح، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق، فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاءً لا يمكن زواله، فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وسمعت واحدًا يقول: الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر، فقلت: بل يمكنه ذلك؛ فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة.

والوجه الثامن: وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين، فكان البذل أولى.

والوجه التاسع: أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى، والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله، وذلك منتهى كمالات الإنسانية.

والوجه العاشر: أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء: الروح والبدن والمال، فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقًا في هذا التكليف، ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقًا بالذكر والقراءة، والبدن مستغرقًا في تلك الأعمال، بقي المال، فلو لم يصر المال مصروفًا إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه، وذلك جهل؛ لأن مراتب السعادات ثلاثة:

أولها: السعادات الروحانية.

وثانيها: السعادات البدنية، وهي المرتبة الوسطى.

وثالثها: السعادات الخارجية، وهي المال والجاه.

فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية، فإذا صار الروح مبذولًا في مقام العبودية، ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي، وذلك جهل، فثبت أنه يجب على العاقل أيضًا بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى.

والوجه الحادي عشر: أن العلماء قالوا: شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم، والزكاة شكر النعمة، فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب.

والوجه الثاني عشر: أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الأُلف بالمودة بين المسلمين، وزوال الحقد والحسد عنهم، وكل ذلك من المهمات، فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة.

المصالح العائدة إلى من يأخذ الزكاة:

الأول: أن الله تعالى خلق الأموال، وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها، فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل؛ بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه؛ لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعيًا في تحصيل ذلك المال، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة، وحضر إنسان آخر محتاج، فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال.

أما في حق المالك فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله، وأيضًا شدة تعلق قلبه به، فإن ذلك التعلق أيضًا نوع من أنواع الحاجة.

وأما في حق الفقير فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان، فيقال: حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به، وحصل للفقير حق الاحتياج، فرجحنا جانب المالك، وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيرًا منه توفيقًا بين الدلائل بقدر الإمكان.

الثاني: أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلًا عن المقصود الذي لأجله خلق المال، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى، وهو غير جائز، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية.

الثالث: أن الفقراء عيال الله، لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، والأغنياء خزان الله؛ لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله، ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ولا يملك ملء بطنه طعامًا، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفوًا صفوًا.

إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه: اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي.

الوجه الرابع: أن يقال: المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.

الوجه الخامس: أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزءًا قليلًا، تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان.

أما الفقير ليس له شيء أصلًا، فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلًا وليس له ما يجبره، فكان ذلك أولى.

الوجه السادس: أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، أو على الإقدام على الأفعال المنكرة، كالسرقة وغيرها، فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة، فوجب القول بوجوبها.

الوجه السابع: المال محبوب بالطبع، فوجدانه يوجب الشكر، وفقدانه يوجب الصبر، وكأنه قيل: أيها الغني، أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين، فأخرج من يدك نصيبًا منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار فتصير بسببه من الصابرين، وأيها الفقير، ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين، ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال، حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك شكرتني، فصرت من الشاكرين، فكان إيجاب الزكاة سببًا في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معًا.

الوجه الثامن: كأنه سبحانه يقول للفقير: إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة، ولكني جعلت نفسي مديونًا من قبلك، وإن كنت قد أعطيت الغني أموالًا كثيرة لكني كلفته أن يعدو خلفك، وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه، فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار.

فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة، بعضها يقينية، وبعضها إقناعية، والعالِمُ بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله(10).

تطبيقات معاصرة لمصرف (في سبيل الله):

يتبين مما تقدم أن المراد بمصرف (سبيل الله) نصرة الدين بالجهاد بالنفس والمال واللسان، فيشمل ذلك الدعوة إلى الله، مما يتبين معه أن من أوجه الصرف المعاصرة في هذا السهم ما يلي:

أولًا: ما يتحقق به مطلب الإعداد للجهاد المأمور به في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].

وذلك مثل:

1- إنشاء وتمويل المصانع الحربية، التي تصنع مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وشراء تلك الأسلحة عند الاحتياج.

2- إنشاء معاهد التدريب على الأسلحة والقتال للمؤهلين للدفاع عن ديار الإسلام.

3- طبع الكتب والمجلات العسكرية والتوجيهية للمقاتلين المسلمين مما يحتاجونه في جهادهم.

4- إنشاء مراكز للدراسات المختصة بمواجهة خطط الأعداء(11).

وهذه الصور المذكورة إنما يجوز صرف الزكاة فيها إذا قرر علماء الأمة المخلصون انطباق الوصف الشرعي عليها.

ثانيًا: ما يتحقق به الجهاد ونصرة الدين بالدعوة إلى الله، ولذلك صور متنوعة، منها:

1- إنشاء مكاتب الدعوة والإرشاد، وتمويلها بما تحتاج إليه من أثاث ورواتب موظفين، ونحو ذلك من مستلزمات تشغيلية، فذلك مما لا تستطيع تلك المكاتب القيام بوظيفتها إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(12).

2- طباعة الكتب والنشرات التي تهدف لنشر العلم الشرعي والدعوة إلى الله، ونسخ الأشرطة الإسلامية التي تُعْنَى بذلك.

3- دعم حلقات تحفيظ القرآن وتمويلها بما تحتاج إليه؛ مما يحقق ما تصبو إليه من تعليم كتاب الله والعمل به، فهو من أعظم أبواب الجهاد؛ ذلك أن أول آية نزلت في الجهاد كانت عن الجهاد بالقرآن، كما قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].

4- إنشاء وتمويل المواقع الإسلامية في الشبكة العالمية، المختصة ببيان الحق، وهداية الخلق، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لا سيما في هذا الزمان الذي أضحت فيه التقنية من أجدى سبل التواصل بين الأمم والبلدان.

5- تأسيس القنوات الفضائية الإسلامية التي تدعو إلى الله، ودعمها لتحقيق المقصود من إنشائها، وذلك من أعظم وسائل الجهاد بالبيان، لما له من أثر عظيم؛ بسبب ما يصاحب تلك القنوات من وسائل الجذب والتأثير، وقد أصبح الغزو الفضائي أقوى أثرًا من الغزو العسكري، لاختصاصه بالتأثير على العقول، بخلاف الغزو العسكري، فهو إنما يستولي على المحسوسات، وقد تستعصي عليه العقول والمعتقدات.

6- إنشاء المؤسسات الدعوية التي تُعنى بالدعوة إلى الله، سواء في ذلك دعوة الكفار لدخول الإسلام، أو دعوة المسلمين بتبصيرهم بدينهم وتثبيتهم عليه، لا سيما حديثو العهد بالإسلام.

7- إنشاء الإذاعات الإسلامية ودعمها؛ لكي يصل صوت الحق إلى أصقاع الأرض، فإن مدى تلك الإذاعات الصوتية يتجاوز مدى القنوات المرئية؛ لسهولة الحصول عليها واستقبال إرسالها؛ مما يُمَكّن مختلف فئات الناس من الاستماع إليها، كما إنه من السهل اصطحاب المذياع والاستماع إليه في أوضاع مختلفة، بخلاف القناة الفضائية؛ فهي محدودة الانتقال والحركة.

8- تأسيس الصحف والمجلات الإسلامية الهادفة للدعوة الصحيحة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، القائمة ببيان الحق ودحض الباطل.

ونحو ذلك من الوسائل الحديثة التي يتحقق بها المقصود من الدعوة إلى الله ببيان الهدى ودين الحق، فذلك من الجهاد بالبيان، وهو من أسباب نصرة الدين وهداية العالمين التي لم يُشرع الجهاد إلا لها؛ ولذا جاء الأمر بالجهاد الشامل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»(13)، والأولى مما تقدم تقديم ما يختص بدعوة غير المسلمين؛ لكون ذلك هو الألصق بمعنى الجهاد مع عظيم أثره(14).

***

____________

(1) تهذيب اللغة (12/ 302).

(2) لسان العرب (11/ 320).

(3) النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 338).

(4) تفسير المراغي (10/ 145).

(5) مفاتيح الغيب (16/ 87).

(6) النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 338).

(7) فقه الزكاة (2/ 701).

(8) مصرف (وفي سبيل الله) بين العموم والخصوص، ص15.

(9) وفي سبيل الله، مجلة البحوث الإسلامية (العدد الثاني).

(10) مفاتيح الغيب (16/ 77-86).

(11) مشمولات مصرف في سبيل الله بنظرة معاصرة (2/ 854).

(12) المستصفى، ص57.

(13) أخرجه أبو داود (2504).

(14) مشمولات مصرف (في سبيل الله)، موقع: المسلم.