التدرج مع المتربي
إن العملية التربوية تحتاج إلى وقت كافٍ من التخطيط والتنفيذ المتدرج، فترك الإنسان للعادات التي كانت جزءًا من حياته ليست بالأمر السهل، وفكرة اعتياده على
عادات جديدة ليست بالأمر الهيّن كذلك، فكلا الأمرين بحاجة لفترة زمنية كافية سواء في الاعتياد على الترك أو الفعل، وكلما كانت العادة مستحكمة أكثر كلما كانت بحاجة إلى مدة أطول لتغييرها وتعديلها، لذا نجد أن من لا يدرك هذه الحقيقة يفشل في مهمة التربية وتطوير السلوك؛ إذ سريعًا ما يصاب بالملل واليأس، ويعتبر أن لا قدرة لديه في الوصول إلى الأهداف المرجوة.
فالبلوغ إلى التمام وتحقيق الكمال لا يكون بجرة قلم، ولا بالطفرة؛ وإنما يكون خطوة خطوة، وشيئًا فشيئًا؛ إذ لا بد من التهيئة والبدء بالأهم والأساس.
والتدرج في التربية أسلوب يدلُّ على حكمة صاحبه، وقدرته على التلطف في مخاطبة العقول والأفهام، فينتقل من فكرة إلى فكرة، معتمدًا على المحاكمة العقلية، والحجة المقنعة، والبرهان الواضح.
والإنسان يحمل أفكارًا يؤمن بها ويعتقد بصحتها، وإن كانت زائفة، فإذا جبَهْتَهُ بخطئه أنكر دون وعي، ودافَعَ دون هوادة، وهاجم دون بيّنة، واتخذ منك عدوًا يجب قراعه ومصاولته، وبذلك ينقطع حبل الوصال بينك وبينه، فلا تصل معه إلى نتيجة.
التدرج سنة ربانية:
والله جل في علاه خلق الإنسان عبر أطوار؛ نطفة فعلقة فمضغة، وكذلك الحيوانات والأشجار والنباتات، ونزول الغيث، وكذلك نزول القرآن بالتدرج، وهو سبحانه تعالى وتقدس قادر على أن يقول للشيء كن فيكون، ومع ذلك كان الخلق في تدرج لينبهنا إلى أهمية هذه السنة الإلهية في الحياة، فالأمة المستخلفة في الأرض، والمبشرة بالخير، والمتطلعة إلى التمكين والظهور في الأرض لا بد لها أن تسلك سبيل التدرج في كل شيء.
والتدرج هو الميزة البارزة في مسار الرسالة القرآنية الخالدة، فالقرآن الكريم المنزل من عند الله رب العالمين نزل منجمًا، قال الحق جل ثناؤه:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106].
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، ويقيم لها نظامًا، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل، ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقًا وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى، والتربية تتم في الزمن الطويل، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل، جاء ليكون منهجًا عمليًا يتحقق جزءًا جزءًا في مرحلة الإعداد، لا فقهًا نظريًا، ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني! وتلك حكمة نزوله متفرقًا، لا كتابًا كاملًا منذ اللحظة الأولى.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل
بهن(1).
التدرج طبيعة الإنسان:
إذا كانت طبيعة الإنسان مبناها على التدرج من نطفة لعلقة لمضغة لعظام، ثم مخلوق ضعيف ثم شاب قوي، ثم عجوز ضعيف.
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون:12-14]، وقال عز وجل: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5].
وقال جل شأنه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} [الروم:54].
إذا كانت هذه هي الطبيعة البشرية في تكوينها؛ فهي كذلك في تربيتها وتوجيهها.
التدرج في التربية العقدية:
فهذا سيدنا إبراهيم أراه الله تعالى، مرة بعد مرة، جمالَ خلق السموات والأرض، من بديع النظام وغريب الصنع، وجلّى له بواطن أمورها وظواهره؛ا ليزداد يقينه بالله تعالى حين يعرف سنته في خلقه وآياته الدالة على ربوبيته؛ ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين.
وأراد سيدنا إبراهيم أن يزيل الغشاوة عن عيون قومه، والران عن قلوبهم، فيعبدون الله وحده، وينبذون الآلهة المزعومة الأخرى، فرآهم يعبدون كوكبًا لا يضر ولا ينفع، فقال مثلما يقولون: {هَذَا رَبِّي}، وهو موقن أنه ليس ربًا، لكنه يريد أن يستدرجهم لسماع حجته على بطلان عبوديتهم لهذا الكوكب، فأوهمهم أنه موافق لهم على زعمهم، فلما غاب هذا الكوكب نقض ربوبيته، فما ينبغي لإله أن يغيب عن عبيده، فغيابه نقص فيه، وضعف شديد، وسيبحث العباد عن إله غيره يبقى معهم ويرعاهم، لكنه لم يقل ابتداءً: إن هذا ليس إلهًا؛ لأنه أراد أن يعرض بجهل قومه دون أن يستفزهم، وينبههم إلى ما غاب عنهم من تفكير صحيح وتقدير سليم، دون أن يحرك مشاعر العداء نحوه، فقال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}.
وبهذا رمى بذرة الشك في نفوسهم، فالإله الذي يحتجب لا يدري شيئًا من أمر عباده.
ثم انتقل إلى القمر؛ فضوءه أسطع، وحجمه، حسب ما يرونه، أكبر؛ فهو، على هذا الأساس، أحق أن يعبد، فلما أفل هذا أيضًا قال إبراهيم مُسمِعًا مَنْ حوله من قومه: لئن لم يهدني ربي ويوفقني لإصابة الحق في توحيده فلسوف أكون كبقية الناس ضالًا، بعيدًا عن عبادة الله الحق، وهذا تعريض يَقْرُب من التصريح بضلال قومه، فالناس المرة الماضية أنِسوا بقدحه في الإله الأول وتعريضه به، وما عرَّض إبراهيم عليه السلام هذه المرة بضلالهم إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود، واستماعهم إلى آخره، وازدادت بذرة الشك نموًا في نفوسهم، فالإله الغائب لا يدري حقًا بما يحل بعباده؛ بل إنه أصلًا ليس إلهًا.
وحين بزغت الشمس، وملأ ضوءها المكان، قال إبراهيم مشيرًا إليها: الذي أراه الآن ربي، أليس كذلك؟ إنه أكبر من النجم والقمر، وأشدُّ تأثيرًا.
فلما غابت كعادتها قال كلمته التي يريدها، دون أن يخاف ردة فعلهم الشديدة، فغياب الشمس أشد وحشة من غياب النجم والقمر، فالظلمة بعد النور الساطع أشد وأقسى من الظلمة بعد الضوء الخفيف، قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78].
ألا ترون أنه حاور وداور وتلطف في القول، وأرخى لخصمه العنان حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجه، وأحسن طريق، متبرئًا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابًا وآلهة مع الله.
وبعد أن تبرأ من معبوداتهم، وترك في نفوسهم الشك فيها، أعلن اتجاهه إلى الله تعالى وحده، ثم تبرأ من المشركين أنفسهم.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)} [الأنعام:75-78].
وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الجاهلية إلى حياة إسلامية؛ فقد ظل ثلاثة عشر عامًا في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع، فيما بعد، أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق.
ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع وتقنين؛ بل مرحلة تربية وتكوين، وكان القرآن نفسه فيها يعنى، قبل كل شئ، بتصحيح العقيدة وتثبيتها، ومد أشعتها في النفس والحياة، أخلاقًا وأعمالًا صالحة، قبل أن يعنى بالتشريعات والتفصيلات(2).
فقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب التدرج عندما بعث معاذًا إلى اليمن، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإنْ هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أجابوك؛ فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم…»(3).
وفي قصة يوسف عليه السلام كان التدرج في توصيل المفاهيم الصحيحة: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأ